الخلاصةِ بقولِه (١):
وَحَذْفُ هَمْزِ أَفْعَلَ اسْتَمَرَّ فِي مُضَارِعٍ وَبِنْيَتَيْ مَتَّصِفِ
والمعنى: أن إسرارَهم وإعلانَهم عِنْدَ اللَّهِ (جل وعلا) سواءٌ؛ لأن اللَّهَ يعلمُ السرَّ وَأَخْفَى، السرُّ عنده علانيةٌ، يعلمُ ما تخفيه الضمائرُ ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ [ق: آية ١٦].
وعلى هذا الذي قَرَّرْنَا فمعنى: ﴿فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾ يعني: عَلَّمَكُمْ إياه وأزالَ عنكم الحجابَ دُونَهُ من العلمِ مما في التوراةِ.
وقولُه: ﴿لِيُحَآجُّوكُم﴾ أصلُه (يُحاججوكم) (يُفَاعِلُون) من الْمُحَاجَجَةِ يقتضي الطرفين، والحجةُ: كُلُّ مَا أَدْلَى به الخصمُ باطلاً كان أو حَقًّا (٢).
بدليلِ قولِه: ﴿حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾ [الشورى: آية ١٦].
وقال بعضُ العلماءِ: المرادُ بالفتحِ في هذه الآيةِ: الحكمُ. وذلك أن النبيَّ - ﷺ - يومَ خيبرَ ذَكَرَ لهم اسمَ القِرَدَةِ. قال بعضُهم: ما عَلِمُوا أن أَوَائِلَكُمْ وَقَعَ مَسْخُ بعضِهم قِرَدَةً إلا مِنْكُمْ، بعضُكم أخبرهم بهذا (٣)!!. وعلى هذا فالمرادُ ﴿بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾ أي: ما حَكَمَ عليكم به من المسخِ، والعربُ تُطْلِقُ الفتحَ على الْحُكْمِ (٤)، وقد جاء في القرآنِ العظيمِ، ومنه على التحقيقِ: {إِن تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ
_________
(١) الخلاصة ص٧٩، وانظر: شرحه في الأشموني (١/ ٦٥٧).
(٢) انظر: المفردات (مادة: حَجَّ) ٢١٨، الكليات ٤٠٦.
(٣) أخرجه ابن جرير (٢/ ٢٥٢)، وابن أبي حاتم (١/ ٢٣٨)، عن مجاهد مرسلا.
(٤) انظر: ابن جرير (٢/ ٢٥٤).
والكفرِ بالله والمعاصي- والعياذُ بالله - وقد قال تعالى: ﴿إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا﴾ [النساء: آية ١١٧] يعني: ما يعبدونَ إلاَّ شيطانًا، وعبادتُهم للشيطانِ هي اتِّبَاعُهُمْ ما يُشَرِّعُ لهم وَيُحَلِّلُ لهم - والعياذُ بالله - وقد سَمَّى اللَّهُ في هذه السورةِ الكريمةِ - سورةِ الأنعامِ - سَمَّى الذين يُطَاعُونَ في معصيةِ اللَّهِ سَمَّاهُمْ شركاءَ لِلَّهِ حيث أُطيعوا في معصيتِه؛ وذلك في قولِه: ﴿وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ﴾ [الأنعام: آية ١٣٧] فَسَمَّاهُمْ شركاءَ لِمَّا قالوا لهم: اقتلوا أولادكم فقتلوهم.
وقد ثَبَتَ عن عَدِيِّ بنِ حاتمٍ - رضي الله عنه - أنه سَأَلَ النبيَّ - ﷺ - عن قولِه تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا﴾ [التوبة: آية ٣١] قال: يَا نَبِيَّ اللَّهِ كيف اتخذوهم أربابًا؟ قال: «أَلَمْ يُحِلُّوا لَهُمْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَيُحَرِّمُوا عَلَيْهِمْ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فَاتَّبَعُوهُمْ؟» قال: بَلَى. قال: «بِذَلِكَ اتَّخَذُوهُمْ أَرْبَابًا» (١).
وقد أوضحَ اللَّهُ (جل وعلا) في السورةِ الكريمةِ - سورةِ النساءِ - أن الذي يَدَّعِي الإيمانَ ويُحكِّمُ شَرْعًا غيرَ شرعِ اللَّهِ أن دَعْوَاهُ الإيمانَ إنها بالغةٌ من الكفرِ والكذبِ والفجورِ ما يمكنُ التعجبُ منها، وذلك في قولِه مُعجِّبًا نَبِيَّهُ - ﷺ -: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا﴾ [النساء: آية ٦٠] يضلهم ضلالاً بعيدًا عن طريقِ الصوابِ الذي شرَّعَهَا خالقُ الكونِ على لسانِ سيدِ الخلقِ، يضلهم ضلالاً بعيدًا لِيَتَّبِعُوا تشريعَ
_________
(١) السابق.
فعلى هذا القول أنه في تحريم الجارية فالله قال بعده: ﴿قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٢)﴾ [التحريم: آية ٢] فدل على أن في تحريم الرجل امرأته كفارة يمين والاستغفار وهذان القولان داخلان في مذهب مالك، وكل منهما قال به جماعة من العلماء، وروى مالك في الموطأ عن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) أنه إن قال لها: أنت حرام، كانت بينونة كبرى، تعد ثلاث طلقات (١). وكان ابن عباس يفتي بكفارة اليمين (٢)، ويقول:
_________
(١) الموطأ ص٣٧٥، وعبد الرزاق في المصنف (٦/ ٤٠٣)، ابن أبي شيبة (٥/ ٧٢).
(٢) أخرجه مسلم، كتاب الطلاق، باب وجوب الكفارة على مَنْ حَرَّمَ امْرَأَتَهُ وَلَمْ يَنْوِ الطلاق، حديث رقم (١٤٧٣)، (٢/ ١١٠٠).
ليأخذ موسى إلى الميعاد، أو ليمشي أمام فرعون وقومه، والأكثرون يقولون: إن موسى لما أراد الله إتيانه للميعاد أرسل إليه جبريل. قالوا: وكان جبريل راكبًا على فرس فلاحظها السامري، كل شيء مسه حافر تلك الفرس ينبت فيه النبات، فَعَرَفَ السَّامِرِيُّ أن الله (جل وعلا) جعل في أثر تلك الفرس خاصة الحياة، فجاء وقبض قبضة من التراب الذي مسه حافر ذلك الفرس ثم أمسك ذلك التراب عنده، وكان السامري -قبحه الله- صائغًا فصاغ ذلك العجل. يقول بعض المؤرخين: إنه بعد غيبة موسى قال لهارون: هذا الحلي صار غنيمة، والغنائم لا تحل لكم فاجعلوه في النار ليكون قطعة واحدة ليكون ذلك أيسر لأمره حتى يأتي نبي الله موسى فَيَرَى رَأْيَهُ فيه، وإنهم لما جعلوه في النار صاغه السامري على صورة عجل، ولما صاغ ذلك الحلي على صورة عجل جعل فيه ذلك التراب الذي كان مُدَّخرًا له -الذي مسه حافر فرس جبريل وجعل الله فيه خاصة الحياة- فصار ذلك العجل جسدًا له خوار.
وقد أشار الله إلى هذا في سورة (طه) في قوله عن موسى والسامري: ﴿قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (٩٥) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ﴾ يعني من أثر حافر فرس الرسول، يعني جبريل ﴿فَنَبَذْتُهَا﴾ [طه: الآيتان ٩٥، ٩٦] أي: على العِجْل. فجعله الله جسدًا له خوار، فلما ألقى السامري ذلك التراب على العِجْل وصار ذلك العِجْل المصوغ من الحلي جسدًا له خوار. الخوار في لغة العرب: هو أصوات البقر خاصة، تقول العرب: خارت البقر تخور وتخاورت البقر؛ أي: صَوَّت بعضها إلى بعض، وهذا معروف في كلامهم، ومنه قول العباس بن مرداس السُّلَمِي في غزوة حنين في
ويريدون أن يعينوا عليه الكفار. إذا كان قَصْدُهُمْ بِالصُّلْح الذي طلبوه وجنحوا إليه المخادعة فلا يغرّنَّكَ ذلك، ولا تَكْتَرِثْ بِقَصْدِهِمُ الخداع فإنهم لا يضروك شيئاً؛ لأن اللهَ يَكْفِيكَ ذَلِكَ كُلَّهُ؛ ولذا قال: ﴿وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ﴾ الخديعة: الغُرور، وهو إبطانُ الشَّرِّ ومحاولَةُ إِيصَالِ الشرِّ بطريق خفية لا ظاهرة واضحة.
﴿فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ﴾ حَسْبك: معناه كافيك الله (جل وعلا). العرب تقول: حَسبه كذا. معناه: كافيه كذا. وهذا معنى معروف في كلامها مشهور، ومنه قول جرير يهجو قوماً ممن كان يهجوهم (١):
وَلَقَدْ رَأَيْتُ مِنَ المَكَارِمِ حَسْبكُمْ... أَنْ تَلْبَسُوا خَزَّ الثِّيَابِ وَتَشْبَعُوا...
فَإِذَا تُذُوكِرَتِ المَكَارِمُ مَرَّةً | فِي مَجْلِسٍ أَنْتُمْ بِهِ فَتَقَنَّعُوا |
دَعِ المَكَارِمَ لا تَرْحَل لبُغْيَتِهَا | وَاقْعُدْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الطَّاعِمُ الكَاسِي |
﴿فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ﴾ كافيك الله، يكفيك شَرَّهُمْ وشَرَّ خِدَاعِهِمْ، فَثِقْ بِهِ وتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ولا تكترث بإرادتهم بالصلِح الخَدَّاعِ. وهذا معنى قوله: ﴿فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ﴾ ﴿هُوَ﴾ أي: الله ﴿الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ﴾ أَيَّدَك: مَعْنَاه قوَّاكَ. فالعرب تقول: أيّده يؤيّده تأييداً. إذا قوّاه. وتقول: رجل أيِّد. إذا كان قَوِيّاً. و (الأيد) و (الآد):
_________
(١) البيت في تاريخ دمشق (٢٩/ ١٨١) ونسبه لحسان (رضي الله عنه) وليس في ديوانه، ونسبه في شواهد الكشاف ص٧٠ لجرير.
(٢) البيت في ديوانه ص١٠٨.