جاهلةٌ لا يكتبونَ الكتبَ ولا يقرؤون ما في الكتبِ. ﴿لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ﴾ الذي هو التوراةُ ولا غيرُه من الكتبِ.
وقوله: ﴿إِلاَّ أَمَانِيَّ﴾ في قولِه: ﴿إِلاَّ أَمَانِيَّ﴾ وجهانِ معروفانِ من التفسيرِ عندَ العلماءِ (١): أحدُهما تُبْعِدُهُ قرينةٌ في نفسِ الآيةِ.
أما القولانِ المعروفانِ: أن المرادَ بالأمانيِّ هنا: جمعُ (أُمْنِيَّةٍ) بمعنى (القراءةِ). والعربُ تُطْلِقُ (الأمنيَّةَ) على (القراءةِ) وهذا معنًى معروفٌ في كلامِ العربِ، تقولُ العربُ: (تمنَّى) إذا قرأَ، ومنه قولُ حسانَ (٢):
تَمَنَّى كِتَابَ اللَّهِ آخِرَ لَيْلِهِ تَمَنِّيَ دَاوُدَ الزَّبُورَ عَلَى رِسْلِ
وقولُ كعبِ بنِ مالكٍ أو حسانَ (٣):
تَمَنَّى كِتَابَ اللَّهِ أَوَّلَ لَيْلَةٍ وَآخِرَهَالاَقَى حِمَامَ الْمَقَادِرِ
فمعنى (تَمَنَّى): قَرَأَ، وعلى هذا فالاستثناءُ متصلٌ. وتقريرُ المعنى: لاَ يعلمونَ من الكتابِ إلا قراءةَ ألفاظٍ ليس معها تَفَهُّمٌ وتدبرٌ لِمَا تَحْوِيهِ الألفاظُ من المعانِي (٤)، وَمَنْ لم يكن عنده مِنْ عِلْمِ الكتابِ إلا قراءةَ ألفاظٍ لا يفهمُ ما
تحتَها من المعانِي فهذا جاهلٌ لا عِلْمَ عندَه. هذا وَجْهٌ في الآيةِ، وهو الذي قُلْنَا: إن في الآيةِ قرينةً تُبْعِدُهُ؛
_________
(١) انظر: ابن جرير (٢/ ٢٥٩)، القرطبي (٢/ ٦)، أضواء البيان (١/ ٧٩).
(٢) لم أقف على من نسب البيت لحسان (رضي الله عنه)، وهو في القرطبي (٢/ ٦)، الدر المصون (١/ ٤٤٧).
(٣) البيت في تفسير الرازي (٢٣/ ٥١)، القرطبي (٢/ ٦)، البحر المحيط (٦/ ٣٨٢)، الدر المصون (١/ ٤٤٧).
(٤) للفائدة: ينظر اعتراض الطاهرابن عاشور على تفسير (التمني) بالقراءة في التحرير والتنوير (١/ ٥٧٥)، (١٧/ ٢٩٩، ٣٠٦).
وهو الحاكمُ، فالحلالُ ما أَحَلَّهُ، والحرامُ ما حَرَّمَهُ، والدينُ ما شَرَعَهُ، فمن تَمَرَّدَ على نظامِه وجاءَ بنظامِ الشيطانِ وإبليسُ فهو من الذين قال اللَّهُ فيهم: ﴿هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ* اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ [يس: آيتان ٦٣، ٦٤].
قَرَأَ هذا الحرفَ جمهورُ القراءِ ما عَدَا حَفْصًا، وابنَ عامرٍ: ﴿مُنْزَلٌ من ربك بالحق﴾ بصيغة اسم مفعول (أَنْزَل). وقرأه حفصٌ عن عاصمٍ، وابن عامرٍ ﴿مُنَزَّلٌ﴾ بصيغةِ اسمِ المفعولِ من (نَزَّله) مُضَعَّفًا (١).
كان كفارُ قريشٍ قالوا للنبيِّ - ﷺ -: احْتَكِمْ معنا إلى علماءِ اليهودِ والنصارى، الذين عندهم بقيةُ عِلْمٍ من التوراةِ والإنجيلِ؛ لِيُخْبِرُونَا أَأَنْتَ رسولُ حَقًّا أَمْ لاَ (٢).
وقال بعضُهم (٣): قالوا له: نحنُ وأنتَ اخْتَلَفْنَا فَلْنَتَحَاكَمْ إلى بعضِ الكهنةِ. فَبَيَّنَ اللَّهُ جل وعلا - أَمَرَ نَبِيَّهُ أن يُبَيِّنَ - أنه لا يَبْتَغِي حَكَمًا غيرَ الحَكَمِ العدلِ، خالقِ السماواتِ والأرضِ، الذي أَنْزَلَ هذا الكتابَ وَفَصَّلَهُ.
وأهلُ الكتابِ الذين تريدونَ أن نتحاكمَ معكم إليهم يعلمونَ أن هذا الكتابَ حَقٌّ، وأنه مُنَزَّلٌ من اللَّهِ، وأن النبيَّ - ﷺ -
_________
(١) انظر: المبسوط لابن مهران ص٢٠١.
(٢) انظر: البحر المحيط (٤/ ٢٠٨ - ٢٠٩)، ولم أقف على ذلك في غيره.
(٣) السابق.
سقيم الحديث وصحيحه، فيَكْتُبُون مِنْهُ كلّ ما رأوا من غير تمييز بين صحيحه وسقيمه.
والقصة المعروفة (١): زعموا أنه كان عند هارون الرشيد طبيب نصراني، وأن الطبيب النصراني قال: ليس في كتابكم شيء من الطب، وأصل العلم علمان: علم الأبدان وعلم الأديان. وأنه كان عند هارون الرشيد علي بن الحسين بن واقد، فقال له: جَمَع كتابُنَا الطِّبَّ في نِصْفِ آية، هي ﴿وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ﴾ لأن من المعلوم أن الطب نوعان: طب حِمْيَة، وهو تَوَقٍّ للداء قبل أن ينزل الداء. والثاني: طب علاج ومداواة بعد أن ينزل الداء. وأن من أعظم طب الحمية هو ما قال: ﴿وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ﴾ لأن مَنْ خَفَّفَ أَكْلَهُ وَشُرْبَهُ كما قال صلى الله عليه وسلم: «بِحَسْبِ امْرِئٍ لُقَيْمَاتٍ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ وَلاَ بُدَّ فَثُلُثٌ لِلطَّعَامِ، وَثُلُثٌ لِلشَّرَابِ، وَثُلُثٌ لِلنَّفَسِ» (٢)، فتخفيف الأكل يستوجب صِحَّةَ البَدَنِ، وأنه قال له: جمع الطب كله في نصف آية؛ لأن خير الطب طب الحمية. وهذه الآية جاءت على أعظم طب الحمية. وأنه قال له: وهل يُؤْثَرُ عَنْ نبيِّكم شيء من الطب؟ قال: نعم. وزعم أن النبي ﷺ قال: «المَعِدَةُ رَأْسُ الدَّاءِ، والحِمْيَةُ أَصْلُ الدَّوَاءِ، وَعَوِّدُوا كُلَّ جِسْمْ مَا
_________
(١) انظر: القرطبي (٧/ ١٩٢)، كشف الخفاء (٢/ ٢٨٠).
(٢) الترمذي في الزهد، باب: ما جاء في كراهية كثرة الأكل. حديث رقم (٢٣٨٠)، (٤/ ٥٩٠)، وابن ماجه في الأطعمة باب الاقتصاد في الأكل وكراهة الشبع، حديث رقم (٣٣٤٩)، (٢/ ١١١١)، وانظر: الإرواء (١٩٨٣)، السلسلة الصحيحة (٢٢٦٥)، صحيح الترمذي (١٩٣٩)، صحيح ابن ماجه (٢٧٠٤).
﴿وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لاَّ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (٨)﴾ [الأنبياء: آية ٨] واختلف العلماء في هذا العِجْلِ هل جعل الله فيه لحْمًا ودَمًا وجعله حيًّا، أو هو عجل باقٍ في صورة الذهب والفضة إلا أن الرياح إذا دخلت في منافذه كان يُسمع في داخله صوت يشبه أصوات البقر؟ قال بكلٍّ منهما بعض العلماء (١).
وظاهر قوله: ﴿جَسَدًا﴾ أن الله جعله عجلاً، والله (جل وعلا) قادرٌ على كل شيء لا يتعاصى على قدرته شيء. وقوله الآتي: ﴿وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَّنُحَرِّقَنَّهُ﴾ [طه: آية ٥٧] على أن التحريق معناه التحريق بالنار كما قاله جماعة من العلماء، فيظهر أن العجل صار جسدًا لحمًا ودمًا؛ لأن اللحم والدم إذا أُحرق بالنار يبس وأمكن دقه ونسفه في البحر؛ لأن الذهب والفضة لا يمكن دقهما ونسفهما في البحر، وأما على أن المعنى لنحرّقنّه: نبردنّه بالمبارد كما تشهد له القراءة الأخرى: ﴿لَنَحْرُقَنَّهُ﴾ (٢) [طه: آية ٩٧] فعلى هذا المعنى فالأليق أن يكون بقي ذهبًا وفضة إلا أنه يصوّت صَوْتَ البَقَر إذا دخلت الريح في داخله.
وقوله: ﴿عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ﴾ مفعول (اتخذ) الثاني محذوف لدلالة المقام عليه، أي: اتخذوا عجلاً جسدًا إلهًا معبودًا من دون الله. فحذف المفعول الثاني لدلالة المقام عليه، وهذا هو التحقيق، والنكتة في حذفه: أنه لا ينبغي أن يُتَلَفَّظَ بأن عجلاً مصطنعًا إلهًا (٣) فحذف لهذه النكتة كما قاله بعضهم.
_________
(١) انظر: ابن جرير (٢/ ٦٣)، فما بعدها.
(٢) انظر: إتحاف فضلاء البشر (٢/ ٢٥٦)، وانظر: القرطبي (١١/ ٢٤٢).
(٣) مضى عند تفسير الآية (٥١) من سورة البقرة. وانظر: الأضواء (٢/ ٣٣٣).
العداوات الشديدة، ومكثوا سنين كثيرة في حروب دامية، واستحكمت بينهم العداوات والإِحَنُ والأَضْغَان، فألَّف الله بين قُلُوبهم بنبيه ﷺ كما قال هنا: ﴿وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ﴾ التأليف في لغة العرب معناه: الجَمْع. أي: جمع بين قلوبهم فَصَارَتْ على قلب رجل واحد، نِيَّتُها إعلاء كلمة الله، ونصر دينه، ونصر نبيّه، ومحبة كل للآخر بعد أن كانت قلوبهم غير مجتمعة ولا متألِّفَة، بل هذا يريد قتل هذا، وهذا يريد قتل هذا، بقلوب شتى لا تَتَأَلّف؛ ولذا قال: ﴿لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً﴾ يعني: لو صرفت ما في الأرض جميعًا لِتُؤَلّف بين قلوبهم ما أمْكَن ذلك أبداً. ومِنْ أعظم الأسباب الدنيوية لكل شيء: المال، فإنه يؤلِّف القُلُوبَ ويُزِيلُ العَدَاوَةَ. يعني: لَوْ أنْفَقْتَ جَمِيعَ ما في الأرض ما قدرْتَ على أن توفق بين قلوبهم ولا أن تُوَحِّدَها، ولكن الله العظيم بقدرته وجلاله أَلَّفَ بَيْنَ قلوبهم؛ لأنه تعالى وحده هو الذي يملك القلوب ويصرّفها كيف يشاء؛ إذ كل إنسان قلبه بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلِّبه كيف يشاء، كما قدّمنا بَسْطَه في تفسير قوله: ﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ﴾ الآية [الأنفال: الآية ٢٤]. الذي بيده القلوب يُصَرِّفُها كيف يشاء، ويقلبها كيف يشاء هو وحْدَهُ الذي يقدر على تأليف قلوبهم، وجمع كلمتهم، ولمّ شَعْثِهم، وإزالة ما كان بينهم كما تَقَدَّمَ في قوله: ﴿وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا﴾ [آل عمران: الآية ١٠٣] وهذا معنى قوله: ﴿لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [الأنفال: الآية ٦٣].


الصفحة التالية
Icon