المرادُ هنا، وهو المرادُ في قوله: ﴿إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا﴾ [يونس: آية ٣٦] وقولِ النبيِّ - ﷺ -: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ» (١). ومنه قولُه عن الكفارِ: ﴿إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ﴾ [الجائية: آية ٣٢] واصطلاحُ الأُصُولِيِّينَ: أن الظنَّ لا يُطْلَقُ على الشكِّ؛ لأن الشكَّ نصفُ الاعتقادِ. والظنُّ عندهم جُلُّ الاعتقادِ، وما بَقِيَ عن الظنِّ من الاعتقادِ يُسَمُّونَهُ وَهْمًا، هذا اصطلاحٌ أُصُولِيٌّ (٢).
أما أهلُ اللغةِ العربيةِ فإنهم يُطْلِقُونَ اسمَ الظنِّ على الشكِّ.
قولُه تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ﴾ [البقرة: الآية ٧٩]، (ويلٌ): كلمةُ عذابٍ، وهو مصدرٌ لا فعلَ له من لفظِه، معناه: هلاكٌ عظيمٌ هائلٌ كائنٌ لهم (٣).
وقال بعضُ العلماءِ: (ويلٌ): وَادٍ فِي جهنمَ تَسْتَعِيذُ جَهَنَّمُ مِنْ حَرِّهِ.
ولو فَرَضْنَا صحَّةَ هذا القولِ لكانَ راجعًا إلى الأولِ.
_________
(١) أخرجه البخاري، كتاب النكاح، باب: لا يخطب على خطبة أخيه حتى ينكح أو يدع، حديث رقم: (٥١٤٣)، (٩/ ١٩٨)، وأخرجه في مواضع أخرى، انظر: الأحاديث رقم: (٦٠٦٤)، (٦٠٦٦)، (٦٧٢٤)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب: تحريم الظن والتجسس والتنافس والتناجش ونحوها، حديث رقم: (٢٥٦٣)، (٤/ ١٩٨٥).
(٢) انظر: نشر البنود (١/ ٦٢ - ٦٣)، نثر الورود (١/ ٧٢ - ٧٣).
(٣) انظر: ابن جرير (٢/ ٢٦٧)، القرطبي (٢/ ٧)، البحر المحيط (١/ ٢٧٦).
لاَ أبتغي حَكَمًا سواه هو اللَّهُ الذي أَنْزَلَ إليكم على لسانِي هذا الكتابَ - القرآنَ العظيمَ - الذي جَمَعَ اللَّهُ فيه ثمراتِ الكتبِ المنزلةِ، وَجَمَعَ فيه علومَ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ.
وقولُه: ﴿مُفَصَّلاً﴾ أي: مُوَضَّحًا مُبَيَّنًا، آياتُه تُوَضَّحُ فيها العقائدُ والحلالُ والحرامُ والأمثالُ والمواعظُ والآدابُ والمكارمُ؛ لأنه في غايةِ الإيضاحِ والتفصيلِ، والذي فَصَّلَهُ هو الحكيمُ الخبيرُ: ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (١)﴾ [هود: آية ١].
وقولُه: ﴿مُفَصَّلاً﴾ حالٌ مِنَ ﴿الْكِتَابَ﴾ (١) أي: أَنْزَلَهُ إليكم في حالِ كونِه مُفصَّلاً، أي: مُوَضَّحًا مُبَيَّنًا فيه العقائدُ، مُبَيَّنًا فيه الحقُّ من الباطلِ، والنافعُ من الضارِّ، والحسنُ من القبيحِ، بَيَّنَ اللَّهُ فيه العقائدَ، والحلالَ والحرامَ، وما يقرِّب إلى اللَّهِ، وما يُوَصِّلُ إلى جنتِه، وما يُبْعِدُ من اللَّهِ ويسخطُه، ويوصلُ إلى نارِه، وَبَيَّنَ مصيرَ الفريقين، وما أعدَّ لأوليائه، وما أعدَّ لأعدائِه، كُلُّ هذا مُوَضَّحٌ مُفَصَّلٌ في القرآنِ، وإن كان في القرآنِ بعضُ الآياتِ المتشابهاتِ، فإنها تُرَدُّ إلى الْمُحْكَمَاتِ، وَيُعْرَفُ إيضاحُها بِرَدِّهَا إلى المحكماتِ.
كَمَا قَدَّمْنَا في سورةِ آلِ عمرانَ في تفسيرِ قولِه: ﴿هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ [آل عمران: آية ٧].
يعني: أن المحكماتِ هُنَّ أُمُّ الكتابِ التي يُرَدُّ إليها ما أُشْكِلَ من مُتَشَابِهَاتِهِ. وهذا معنَى قولِه: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً﴾ [الأنعام: آية ١١٤] التفصيلُ: ضِدُّ الإجمالِ، وهو الإيضاحُ
_________
(١) المصدر السابق (٤/ ٢٠٩)، الدر المصون (٥/ ١٢٣).
﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣٢)﴾ [الأعراف: آية ٣٢] قرأ هذا الحرف عامة القراء ما عدا نافعاً قارئ أهل المدينة: ﴿خَالِصَةً﴾ بنصب التاء. وقرأه نافع وحده: ﴿خَالِصَةٌ﴾ بضم التاء (١).
ومعنى الآية الكريمة: أن الكفار لمّا حرَّموا على أنفسهم لبس الثياب في الطواف، وطافوا بالبيت عُرَاةً، وحرَّمُوا على أنفسهم أيام الموسم أكل الودك، والسمن، وشرب اللبن، وأكل اللحوم، قال الله (جلَّ وعلا) موبِّخاً مقرعاً للذين يَتَعَدَّون عليه ويحرمون ما لم يحرم: ﴿قُلْ﴾ يا نبي الله لهؤلاء الكفرة الجهلة الذين حَرَّمُوا لبس الزينة عند الطواف، وحرموا أكل المذكورات وشربها في الموسم حال التلبُّس بالإحرام، (من) هو الذي ﴿حَرَّمَ زِينَةَ الله﴾ وهي اللباس الذي يستر العورة؛ لأنه لا حالة أقبح مِنْ أَنْ يَكُونَ الإِنْسَان بادِي الفرج، عاري العورة، فهذا في غاية القبح. أما إن أعطاهُ الله ثياباً فجمل بها ظاهره، وستر بها قبحه وعَوَرَه فهذه زينة الله التي أخرجها لخلقه. من هو الذي حرَّم زينة الله كلبس اللباس الذي يجمع بين ستر العورة والتجمُّل عند الطواف وفي غيره؟!
﴿مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ﴾ أخرجها: أي أظهرها وأبرزها من العدم إلى الوجود بأن خلقها ويسَّر أسباب تناولها حتى صارت في متناولهم، وحرَّم الطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ، الطيبات التي أحلها الله وطَيَّبَها؛ كالودك حالة الإحرام، واللبن واللحم ونحو ذلك.
_________
(١) انظر: المبسوط لابن مهران ص٢٠٨.
التقرير: هو حمل المخاطب على أن يقر ويقول: بلى (١)، وعلى هذا فالمراد بالاستفهام: حمل المخاطبين على أن يقروا ويقولوا: بلى هو لا يكلم ولا يهدي سبيلاً، وليس بشيء يستحقُّ أن يُعبد. وهذا معنى قوله: ﴿أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ﴾ ألم يروا أن هذا المعبود الذي افتروه واختلقوه لا يكلمهم؟ والمعبود الحق لا بد أن يكون يُكلم، ومعبود أهل السماوات والأرض بالحق يقول عن كلام نفسه: ﴿لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا﴾ [الكهف: آية ١٠٩]، وفي الآية الأخرى: ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ﴾ [لقمان: آية ٢٧] هذه صفة المعبود حقًّا، أمّا الذي لا يقدر على أن يتكلم كلمة واحدة فهذا ليس بمعبود.
وقوله: ﴿وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً﴾ المعبود هو الذي يهدي، كما قال تعالى: ﴿قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ﴾ [يونس: آية ٣٥] أما الذي لا يهدي سبيلاً أي: طريقًا كائنًا ما كان فلا يمكن أن يكون برب ولا بمعبود، فلما قرر (جل وعلا) أن هذا العجل الذي اتخذوه إلهًا تنتفي عنه الصفات التِي يجب أن تكون للإله صرح بأنهم عبدوه وهم ظالمون في ذلك فقال: ﴿اتَّخَذُوهُ﴾ اتخذوه إلهًا ﴿وَكَانُواْ ظَالِمِينَ﴾ ظالمين في ذلك.
وقد فسرنا الظلم مرارًا (٢)، وبيّنَّا أن أصله في لغة العرب: وضع الشيء في غير موضعه، وأكبر أنواع وضع الشيء في غير موضعه:
_________
(١) انظر: البرهان للزركشي (٢/ ٣٣٣)، (٤/ ٢٣٥)، جواهر البلاغة ص٧٨.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٥١) من سورة البقرة.
﴿يَأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ﴾ وقرأه نافع وحده من السبعة: ﴿يَأَيُّهَا النَّبِيء حَسْبُكَ اللهُ﴾ بالهمزة (١).
أما على قراءة نافع فهو من النبأ بلا خلاف. وقد قدمنا مراراً (٢) أن النبأ في لغة العرب: الخبر الذي له خطب وشأن، فكل نبأٍ خبراً وليس كل خبر نبأً؛ لأن النَّبَأَ أخَصّ مِنْ مُطْلَقِ الخَبَرِ؛ إِذْ لاَ تَكَادُ العَرَبُ تُطْلِق النبأ إلا على الإخبار بما فيه أهَمِّيَّة وله خطب وشأن، فلو قلت: جاءنا اليوم نَبَأُ الأَمِيرِ، أو نبأ الجيوش. كان هذا من كلام العرب؛ لأنه خَبَرٌ لَهُ خَطْبٌ وشأن، ولو قلت: بلغني اليوم نَبَأٌ عَنْ حِمَار الحجَّام. لما كان هذا من كلام العرب؛ لأن خبر حمار الحجام لا أهمية له ولا شأن ولا خَطْبَ لَهُ.
أما على قراءة الجمهور: ﴿يَأَيُّهَا النَّبِيُّ﴾ فقال بعض العلماء: معناه كمعنى قراءة نافع، إلا أن الهمزة أُبْدِلَتْ يَاءً كَمَا أبدلت همزة (النسيء) في قوله: ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ﴾ [التوبة: الآية ٣٧] أُبدلت ياءً في قراءة سَبْعِيَّة صحيحة (٣) ﴿إِنَّمَا النَّسِيُّ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ﴾ وبها قرأ ورش عن نافع وغيره، وعلى هذا القول فالقراءتان معناهما واحد.
وقال بعض العلماء: (النبي) على قراءة الجمهور ليس من النبأ الذي هو الخبر وإنما هو من (النَّبْوَة) بمعنى الارتفاع؛ لأن النبي يوحى إليه وحيٌ، وهو خبرٌ له شأن وخطب؛ ولأن له مكانة رفيعة،
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١١٢) من سورة الأنعام.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٨٩) من سورة الأنعام.
(٣) مضى عند تفسير الآية (١١٢) من سورة الأنعام.