ثم إن الله قال: ﴿فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ أي: هلاكٌ عظيمٌ لا خلاصَ منه كائنٌ لهم، مبدؤُه وسببُه مما كَتَبَتْ أيديهم مُزَوَّرًا على اللَّهِ أنه من عندِ اللَّهِ وليس من عندِ اللَّهِ ﴿وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ﴾ أي: من الرُّشا والأموالِ عِوَضًا عن ذلك التزويرِ والافتراءِ على رَبِّ السماواتِ والأرضِ، وهذا غايةُ التهديدِ والوعيدِ العظيمِ حيث قال: ﴿فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ يعني: وَتَقَوَّلُوهُ على اللَّهِ كَذِبًا ﴿وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ﴾ أي: من المالِ عِوَضًا عن ذلك، وهذا معنى قولِه: ﴿فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ﴾.
•••
وسلامُه) صغيرٌ، فَعُرِفَ أنه أَمَرَهُ بأنه إن بلغَ وَالِدَاهُ أو أحدُهما الْكِبَرَ أن يَبَرَّهُمَا، وهما قد مَاتَا، لا يُمْكِنُ بِرُّهُمَا، عَرَفْنَا من ذلك أنه يأمرُه ليُشرِّعَ للناسِ على لسانِه - ﷺ -، وقد بَيَّنَّا مِرَارًا أن مِنْ أساليبِ اللغةِ العربيةِ [١٥/ب] المعروفةِ: / أن الإنسانَ يُخَاطِبُ إنسانًا والمرادُ عندَه بالخطابِ غيرُه (١)، وَذَكَرْنَا فيه مرارًا المثلَ المعروفَ: (إِيَّاكِ أَعْنِي وَاسْمَعِي يَا جَارَةْ) (٢)
وَبَيَّنَّا فيما مَضَى أنه مِنْ رَجَزٍ لرجلٍ من بني فزارةَ، يُسَمَّى: سهل بن مالكٍ، نَزَلَ في بيتِ حارثةَ بنِ لأم الطائيِّ، ووجدَه غائبًا، فأكرَمَتْه أُخْتُهُ، وَأُعْجِبَ بِجَمَالِهَا، فَأَرَادَ أن يُعَرِّضَ لها بالخطبةِ فخاطبَ أُخرى غيرَها قائلاً:
يَا أُخْتَ خَيْرِ الْبَدْوِ وَالْحَضَارَةْ | كَيْفَ تَرَيْنَ فِي فَتَى فَزَارَةْ |
أَصْبَحَ يَهْوَى حُرَّةً مِعْطَارَةْ | إِيَّاكِ أَعْنِي وَاسْمَعِي يَا جَارَةْ |
فَأَجَابَتْ قَائِلَةً:
إِنِّي أَقُولُ يَا فَتَى فَزَارَةْ | لاَ أَبْتَغِي الزَّوْجَ وَلاَ الدَّعَارَةْ |
وَلاَ فِرَاقَ أَهْلِ هَاذِي الْحَارَةْ | فَارْحَلْ إِلَى أَهْلِكَ بِاسْتِحَارَةْ |
_________
(١) انظر: ابن جرير (٢/ ٤٨٥ - ٤٨٧، ٥٠٠)، (٣/ ١٩١)، بصائر ذوي التمييز (١/ ١٠٩)، فتح الباري (٣/ ١٧٤، ٣٥٥).
(٢) انظر: المثل ومناسبته في كتاب الأمثال لأبي عبيد القاسم بن سلاَّم ص ٦٥، (وانظر معه في الهامش رقم (٢)، مجمع الأمثال للميداني (١/ ٨٠ - ٨١)..
(٣) هذا من سبق اللسان. وإلا فهي أخته.
﴿خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [الأعراف: آية ٣٢] يوم القيامة إنما سُمِّي يوم القيامة؛ لأنه يوم يقوم فيه جميع الخلائق بين [يدي] (١) جبار السماوات والأرض للحساب، كما قال جلَّ وعلا: ﴿ألاَ يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ (٤) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (٥) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (٦)﴾ [المطففين: الآيات ٤ - ٦] فقوله: ﴿يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ هو الذي سمي به يوم القيامة؛ لأنه يوم يقوم فيه الناس لرب العالمين.
ثم قال جلَّ وعلا: ﴿كَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ﴾ [الأعراف: آية ٣٢] كهذا التفصيل الذي فصلنا لكم به الحلال والحرام، وبينا لكم به حرمة كشف العورات ولزوم سترها، وأخذ الزينة، وأنه لا يُحرِّم أحد ما أحَلَّهُ الله، كهذا البيان الواضح لهذه الأحكام نبيِّنُ الآيات دائماً في هذا القرآن ﴿لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ والبيان عام، ولكنه خَصَّ به القوم الذين يعلمون لأن أهل العلم الذين يعلمون هم الذين يفهمون عن الله هذا البيان، أما الجهلة فلا يفهمون شيئاً، ومن لا ينتفع بالشيء فكأنه لم يتوجه إليه. ونظير هذا كثير في القرآن يخص الله به الحكم المُنْتَفِع به مع أن الحكم أصله عام (٢) كقوله: ﴿إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا (٤٥)﴾ [النازعات: آية ٤٥] مع أنه في الحقيقة منذر الأسود والأحمر ﴿إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ﴾ [يس: آية ١١] وهو منذر للأسود والأحمر ﴿فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ﴾ [ق: آية ٤٥] لأن الذي يخاف الوعيد هو المنتفع به مع أن التذكير بالقرآن عام. وهذا كثير في القرآن أن يخص الحكم بالمنتفع به دون غيره، وذلك هو معنى قوله: ﴿كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾.
_________
(١) ما بين المعقوفين [] زيادة يقتضيها السياق.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٥١) من سورة الأنعام.
زاد بعض العلماء: أن العَرَبَ تطلق الضلال على الحبّ، وهذا إطلاق غير مشهور معروف كهذه الإطلاقات الثلاثة التي ذكرنا.
﴿وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ﴾ أي: علموا أنهم قد ضلوا عن طريق الإيمان إلى طريق الكفر، أنابوا إلى الله وتابوا ملتجئين إلى الله.
﴿قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا﴾ [الأعراف: آية ١٤٩] قرأ هذا الحرف عامة السبعة غير حمزة والكسائي: ﴿قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا﴾ بـ (ياء الغيبة) و ﴿رَبُّنَا﴾ مرفوعٌ فاعل: ﴿يَرْحَمْنَا﴾.
وقرأه حمزة والكسائي من السبعة: ﴿قَالُوا لَئِن لَمْ تَرْحَمْنَا رَبَّنَا وَتَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ﴾ (١).
فمعنى قراءة حمزة والكسائي (٢): لئن لم ترحمنا يا رَبَّنَا، وتغفر لنا يا ربنا لنكونن من الخاسرين.
أمّا على قراءة الجمهور: فالمعنى: ﴿لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا﴾ أي: يتداركنا برحمته ﴿وَيَغْفِرْ لَنَا﴾ الغفران: هو محو الذنوب حتى لا يظهر لها أثر يتضرر به صاحبها بعد ذلك.
﴿وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ والله لنكونن من الخاسرين. وأصل الخسران: نقصان مال التاجر مِنْ رِبْحٍ أوْ رَأْسِ مَالٍ، وهو قد يُطلق في الشَّرْعِ وفي القرآن على غَبْنِ الإنسان في حظوظه مِنْ رَبِّهِ، وأكبر الخسارة غبن الإنسان بحظوظه من خالقه جل وعلا.
_________
(١) انظر: المبسوط لابن مهران ص٢١٥.
(٢) انظر: حجة القراءات ص٢٩٦، القرطبي (٧/ ٢٨٦)، الدر المصون (٥/ ٤٦٥).
ومراده بالنثر الصحيح: قراءة حمزة - رحمه الله - ﴿وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامِ﴾ [النساء: الآية ١] بخفض ميم الأرحام معطوفة على الضمير المجرور في قوله: (به) من غير إعادة الخافض، وهي قراءة سَبْعِيَّة صحيحة (١)، فمعلوم أن اللغة التي جاءت بها لا بد أن تكون لغة عَرَبِيَّة صَحِيحة، وهو كذلك. وقد اشتهر في أشعار العرب العطف على الضمير المخفوض من غير إعادة الخافض، وأنْشَدَ له الشيخ سيبويه في كتابه (٢):
فَاليومَ قرَّبْتَ تَهْجُونَا وتَشْتِمُنَا | فَاذْهَبْ فما بِكَ والأيَّامِ منْ عَجَبِ |
نُعَلِّقُ في مثْلِ السَّوارِي سُيُوفَنَا | وَمَا بَيْنَهَا والكَعْبِ مَهْوَى النَّفَانِفِ |
لَقَدْ رَامَ آفَاقَ السَّمَاءَ فَلَمْ يَجِدْ | لَهُ مَصْعَداً فِيهَا وَلاَ الأَرْضَ مَقْعَدَا |
أَمُرُّ مَعَ الكَتِيبَةِ لاَ أُبَالِي | أَحَتْفي كَانَ فِيهَا أَمْ سِوَاهَا |
(١) انظر: المبسوط لابن مهران ص١٧٥.
(٢) الكتاب (٢/ ٣٨٣)، وهو في شرح الكافية (٣/ ١٢٥٠).
(٣) البيت في شرح الكافية (٣/ ٢١٥١).
(٤) لم أقف عليه.
(٥) البيت في شرح الكافية (٣/ ١٢٥٢) وهو للعباس بن مرداس.