و (قد) في قولِه: ﴿قَدْ نَعْلَمُ﴾ هي للتحقيقِ (١)، أي: لتحقيقِ عِلْمِ اللَّهِ جل وعلا.
وما جاءَ على ألسنةِ علماءِ العربيةِ (٢) من أن (قد) إذا دَخَلَتْ على المضارعِ أنها تكونُ للتقليلِ، وأنها تارةً تكونُ للتكثيرِ كـ «رُبَّمَا»، وَاسْتَدَلُّوا بأنها تكونُ تارةً للتكثيرِ بقولِ الشاعرِ (٣):
قَدْ أَتْرُكُ الْقِرْنَ مُصْفَرًّا أَنَامِلُهُ كَأَنَّ أَثْوَابَهُ مُجَّتْ بِفُرْصَادِ
وقول الآخَرِ (٤):
أَخِي ثِقَةٍ لاَ تُتْلِفُ الْخَمْرُ مَالَهُ وَلَكِنَّهُ قَدْ يُتْلِفُ الْمَالَ نَائِلُهْ
قالوا: «قد يُتلفُ المالَ» أي يَكثُر مِنْ نَائِلِهِ إتلافُ المالِ، وكذلك يَكْثُرُ في هذا المفتخرِ بقتلِ الأقرانِ: قتلُ الأقرانِ. كُلُّ هذا خلافُ التحقيقِ في هذه الآيةِ؛ لأن (قد) فيها للتحقيقِ، يُبَيِّنُ اللَّهُ لِخَلْقِهِ مُحَقِّقًا لهم أن عِلْمَهُ مُحيطٌ بما ذَكَرَ أنه يَعْلَمُهُ، وهو كثيرٌ في
_________
(١) انظر: الدر المصون (٤/ ٦٠١).
(٢) في هذه المسألة انظر: البحر المحيط (٤/ ١١٠)، الدر المصون (١/ ٤١٢)، (٤/ ٦٠٢)، الخزانة (٤/ ٥٠٢)، البرهان للزركشي (٢/ ٤١٧)، قواعد وفوائد لفقه كتاب الله تعالى ص٤٥.
(٣) البيت لعبيد بن الأبرص وهو في الكتاب لسيبويه (٤/ ٢٢٤)، البحر المحيط (٤/ ١١٠)، الخزانة (٤/ ٥٠٢)، الدر المصون (١/ ٤١٢). واصفرار الأنامل هنا كناية عن الموت. والفرصاد: ماء التوت، أي من الدم.
(٤) البيت لزهير. وهو في البحر المحيط (٤/ ١١٠) الدر المصون (٤/ ٦٠١، ٦٠٢) والمُثبت فيهما: «ولكنه قد يُهْلِكُ».
غايةِ العدالةِ والإنصافِ ومراعاةِ مصالحِ البشرِ في دُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ، وما فيه من الأخبارِ فهو صحيحٌ حَقٌّ مُطَابِقٌ للواقعِ، لا يأتيه الباطلُ من بَيْنِ يَدَيْهِ ولا من خَلْفِهِ. يعنِي أن ما تُخْبِرُونَ فيه من الأخبارِ هو حَقٌّ، وما تُؤْمَرُونَ فيه وما تُنْهَوْنَ عنه فيه من الشرائعِ فهو في غايةِ العدالةِ والكمالِ، وإذا كانت كلماتُ اللَّهِ بهذه المثابةِ من الكمالِ والصدقِ في الأخبارِ والعدالةِ في الأحكامِ فليس لأحدٍ أن يطلبَ عنها غيرَها، فَاللَّهُ (جل وعلا) كلماتُه تامةٌ في عدالتِها، كُلُّ شَرْعِهِ في غايةِ العدالةِ والإنصافِ والإحكامِ، وَكُلُّ أخبارِه في غايةِ الصدقِ؛ وَلِذَا فإن هذا القرآنَ العظيمَ جاء للبشريةِ بخيرِ الدنيا والآخرةِ، أما في دارِ الدنيا: فجاءَ فيه تنظيمُ علاقاتِها، أُمِرَ فيه الفردُ بأن يكونَ لَبِنَةً صالحةً لبناءِ المجتمعِ، بأن يكونَ سَخِيًّا باذلاً لِمَا لَدَيْهِ، وأن يكونَ شُجَاعًا مُضَحِّيًا، وأن يكونَ مُخْلِصًا لأُمَّتِهِ لا يغشها، إلى غيرِ ذلك من مكارمِ الأخلاقِ.
وعَلَّمَ الإنسانَ كيفَ يُعَاشِرُ أقربَ الناسِ إليه؛ زوجتَه وأبناءه وَأُسْرَتَهُ الأَدْنَيْنِ، أَمَرَهُ أن يتحفظَ منهم غايةَ التحفظِ لِدِينِهِ وَدُنْيَاهُ؛ لأنهم رُبَّمَا أَوْقَعُوهُ فيما لا يَنْبَغِي، ثم أَمَرَهُ إذا وَجَدَ منهم ما لاَ يحبُ أن يعاملَهم باللينِ والصفحِ والمغفرةِ، كما قال في التغابن: ﴿إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ﴾ [التغابن: آية ١٤] فَمِنْ شدةِ حكمتِه يُعَلِّمُ الإنسانَ كيف يُعَاشِرُ أسرتَه الأَدْنَيْنِ، وَأَنْ يَحْذَرَ مِنْ شَرِّ امْرَأَتِهِ وأولادِه؛ لئلاَّ يُضَيِّعُوا عليه دِينَهُ أو دُنْيَاهُ، ثم إذا عَثَرَ منهم على ما لاَ ينبغي أَمَرَهُ ألا يعاملهم بالشدةِ والمكروهِ؛ ولذا قال في هذه الآيةِ: ﴿إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ﴾ ثم قال - إذا رأى منهم ما يَكْرَهُ -: ﴿وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (١٤)﴾ وَعَلَّمَ الإنسانُ
المحرّمات سواء كان ذلك ظاهراً أمام الناس، أو خفية بحيث لا يطلع عليه الناس. وهذا معنى قوله: ﴿مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ﴾.
وعطف على ذلك ﴿وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ﴾ قال بعض العلماء: الإثم: هو كل معصية تقتصر على نفس الإنسان، والبغي: هو كل معصية يظلم بها غيره (١).
وقوله: ﴿بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ لا يكون بغي بحق أبداً، فكل بغي بغير حق لا شك، كما قال تعالى: ﴿وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ ومعلوم أن النبيين لا يُقتلون بحق أبداً، فهو كالتوكيد (٢)، كقوله: ﴿وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ﴾ [الأنعام: آية ٣٨] ﴿يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ﴾ [البقرة: آية ٧٩].
وقال بعض العلماء: ﴿بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ [الأعراف: آية ٣٣] كقوله: ﴿وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا﴾ [الشورى: آية ٤٠] لأن من بُغي عليه ثم انتقم قد يسمى هذا بغياً، كقوله: ﴿وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا﴾ وكما سمّى الانتقام اعتداءً في قوله: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: آية ١٩٤] سمى جزاء الاعتداء: اعتداءً، وجزاء السيئة: سيئة وإن كان الانتقام ليس سيئة وليس اعتداء.
وقوله: ﴿وَأَن تُشْرِكُواْ بِالله﴾ أي: وحرَّم عليكم ﴿أن تشركوا بِالله ما لم يُنْزِل به سلطاناً﴾ على قراءة ابن كثير وأبي عمرو. ﴿مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً﴾ على قراءة الجمهور (٣). والسلطان: الحجة الواضحة.
_________
(١) انظر: ابن جرير (١٢/ ٤٠٣)، القرطبي (٧/ ٢٠١).
(٢) انظر: الدر المصون (٥/ ٣٠٧) ومضى عند تفسير الآية (١٤٢) من سورة البقرة، (٤٨) من سورة الأنعام.
(٣) انظر: النشر (٢/ ٢١٨)، إتحاف فضلاء البشر (١/ ٤٠٧).
السَّيِّئَةَ حركت عمرك وتاجرت فيه مع خالق السماوات والأرض تجارة، وذلك أن تصرف ساعات العمر وأوقاته ودقائقه وثوانيه فيما يُرْضِي رَبَّكَ، وتحذر أن تصرف شيئًا منه فيما يسخط خالقك (جل وعلا) فتنظر في أوقات عمرك الوقت الذي يتوجَّهُ إليك فيه أمرٌ من السماء -كأوقات الصلوات وأوقات الصوم وأوقات الحج وما جرى مجرى ذلك- فتبادر إلى امتثال أمْرك بنفس طيِّبَة مُسارعة راغبة فيما عند الله، والأوقات الذي لم يتوجه عليك طلب مخصوص تستزيد من الخير بالنصوص العامة التي تحثك على طلب الخير ومرضاة مَنْ خَلَقَكَ (جل وعلا) وتَحْذَر كُلَّ الحَذَرِ من أن ترتكب شيئًا يغضب خالقك ويسخطه، فإذا اتجرت مع الله هذه التجارة في رأس هذا المال فحركته فيما يرضيه ربحت أيها الأخ ربحًا عظيمًا، ربحت الحور العين والولدان، ومجاورة رب غير غضبان، وسكنى الجنة ﴿فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٧)﴾ [السجدة: آية ١٧] وقد سمى الله هذه المعاملة معه من عبده سماها: (تجارة) وسماها: (بيعًا) وسماها: (شراءً) وسماها: (قرضًا) قال تعالى: ﴿مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ [البقرة: آية ٢٤٥] وقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ﴾ وقال: ﴿فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ﴾ [التوبة: آية ١١١] وقال: ﴿هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (١٠) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ الآية [الصف: الآيتان ١٠، ١١].
أما إذا كان الإنسان المسكين أحمق أهوج لا يبالي بالعواقب السيئة، ولا يعرف حقيقة الأمر فإنه يَزْدَرِي الجواهر التي أعطاه الله وهي أيام عمره، كصاحب المزبلة تكون عنده اليواقيت وهو يظنها حجارة عادية لا يعرف قيمتها، فيُضَيِّعُ رأس ماله وأيام عمره في قال وقيل، وفيما لا يجدي، حتى تضيع، وربما أعملها فيما لا يرضي خالقه (جل وعلا) حتى ينتهي العمرُ المحددُ له، وينفد رأس ماله، فيُذهب به إلى القبر وهو مفلس لا رأس مالٍ عنده، فإذا عدم رأس المال فالرِّبْحُ مَعْدُومٌ!! والآخرة -أيها الإخوان- دارٌ لا تصلح للمفاليس؛ لأنها ليس فيها إرفاق وليس فيها بيعٌ ولا شراء ولا هبة، ليس فيها للإنسان إلا ما قَدَّمَ أَيَّامَ حَيَاتِهِ.

لاَ دَارَ لِلْمَرْءِ بَعْدَ المَوْتِ يَسْكُنُهَا إِلاَّ الَّتِي كَانَ قَبْلَ المَوْتِ يبنِيْهَا
فَإِنْ بَنَاهَا بِخَيْرٍ طَابَ مَسْكَنُهُ وَإِنْ بَنَاهَا بِشَرٍّ خَابَ بَانِيهَا (١)
فعلى العاقل أن يَتَّجِرَ مَع الله، ولا يضيِّع رَأْسَ مَالِهِ، والعمر كما جعله الله رَأْسَ مَالٍ فمَنْ ضَيَّعَهُ فَقَدْ خَسِرَ الخُسْرَانَ الأَعْظَم، كذلك جعله حجة على العبد؛ ولذا عَدَّهُ مَعَ النذير في قوله في سورة فاطر: ﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ﴾ [فاطر: آية ٣٧] فجعل تعمير الإنسان عمرًا يتذَكَّر فيه ويُنِيبُ إلى رَبِّهِ حُجَّةً عليه كالرسول، فعلينا جميعًا ألا نضيع أعمارنا، ونعرف قدر قيمتها، ونُعْمِلُهَا فيمَا نَتَمَتَّعُ بِهِ بَعْدَ المَوْتِ مِمَّا يُرْضِي خالقنا؛ لأن رأس المال إِنْ ضَاع خَسِرَ الإنسان كل شيء وَنَدِمَ حيث لا ينفع النَّدم.
المثل الثاني الذي ضَرَبَهُ العُلَمَاء لهذا الخسران: هو حديث جاء
_________
(١) هذان البيتان تقدم ذكرهما عند تفسير الآية (٩) من سورة الأعراف.
فما موجب هذا حيث يكون الواحد من هؤلاء يقاوم العشرة من هؤلاء؟
[٨/ب] فبيّن الله (جل وعلا) الحكمة في ذلك،/ وهذه الحكمة التي بيّن الله بهذه الآية من سورة الأنفال حكمة سماويّة عَظِيمَة تحتها أسرار هائلة يجب على كل مسلم أن يَتَصَفَّحَهَا ويَتَعَقّلَهَا ويتَدَبَّرَ مَعَانِيَهَا، وخصوصاً كل الخصوص تحتّمها على العسكريين من المسلمين، يجب عليهم كل الوجوب أن يتأملوا هذه الآية من سورة الأنفال، وأَنْ يَتَصَفَّحُوا مَعْنَاهَا؛ فإن فيها سرّاً عظيماً لو تعقّله المسلمون لفهموا الحقائق، ولما ساروا في الظلام؛ لأن الله لما قال: ﴿إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ بيّن علّة ذلك وأوضحها فقال: ﴿بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ﴾ ﴿ذَلِكَ﴾ وهو كون الواحد يغلب عشرة منهم ويصابرها بسبب أنهم قوم لا يفقهون. أي: لا فقه عندهم ولا فهم عن الله، والذي لا يفقه عن الله ولا يفهم ما عنده فهو كالبهيمة ليس له مبدأ يقاتل عليه، والذي يتقدم إلى الميدان في خطوط النار الأمامية ليس عنده مبدأ نبيل يقاتل عليه فهو مائع، هزيمته قريبة سريعة، لا يقاوم أبداً.
فإذا الْتَقَى مَنْ لا فقه عنده بمن عنده فقه عن الله فالمسلم القائم في الميدان للعشرة يفقه عن الله ويفهم، ويقول: إن ربي اشترى مني هذه الحياة القصيرة في هذه الأيام المعدودة، وهي حياة مكدّرة بالأمراض والأسقام والمصائب والبلايا والأحزان، اشتراها مني بحياة سرمدية أَبَدِيَّة لا انقطاع فيها ولا كدر ولا ألم ولا حزن، وهذا المال القليل اشتراه مني بالحور العين والولدان وغُرَفِ الجِنَان ومجاورة رَبٍّ غير غضبان، فهو ينتظر ما عند الله، فاهمٌ عن الله، يفقه عن الله، فهو متقدّمٌ في الميدان، لا يُهزم أبداً، ولو قُتل


الصفحة التالية
Icon