لا يُنْسَبُ إلى الاختلاقِ والافتراءِ، ولكن القولَ الذي جاء به غيرُ مُطَابِقٍ لِلْحَقِّ.
الوجهُ الثاني في قراءةِ ﴿يُكْذِبُونَك﴾: - وهو الذي عليه الأكثرُ -: أنه تقررَ في فَنِّ التصريفِ أن من معانِي «أَفْعَلَ» إذا قلتَ: أَفْعَلتُ الرجلَ، إذا وجدتَه كذا، تقول: أَحْمَدتُهُ إذا وجدتَه حَمِيدًا، وأَبْخَلْتُه إذا وجدتَه في نفسِ الأمرِ بَخِيلاً، وأَكْذَبْتُه إذا وجدتَه في نفسِ الأمرِ كَاذِبًا، وعلى هذه القراءةِ: إن ظَنَّتْ نفوسُهم أَنَّكَ كاذبٌ، وَكَذَّبُوكَ، وقالوا: إنك كاذبٌ ساحرٌ كاهنٌ فإنهم لا يصادفونك في نفسِ الأمرِ كاذبًا، فأنتَ على حَقٍّ فيما بينَك وبينَ اللَّهِ، فَهَوِّنْ عليكَ، ولا تَثْقُلْ عَلَيْكَ افْتِرَاءَاتُهُمْ.
هذان الوجهانِ من التفسيرِ في قراءةِ ﴿يُكْذِبُونَك﴾ وقد قَدَّمْنَا معنَى ﴿يُكَذِّبُونَكَ﴾.
﴿وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ﴾ قد قَدَّمْنَا معنَى الظلمِ (١).
﴿بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ أي الشرعيةِ الدينيةِ ﴿يَجْحَدُونَ﴾ أي يَجْحَدُونَهَا وَيُنْكِرُونَ أنها حَقٌّ.
﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقدْ جَاءَكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الأنعام: آية ٣٤].
هذه الآيةُ تَسْلِيَةٌ للنبيِّ - ﷺ - وتهوينٌ عليه؛ لأنكَ إذا وجدتَ إنسانًا وَقَعَ في مصيبةٍ وَبَلِيَّةٍ وقلتَ له: هذه المصيبةُ التي نَزَلَتْ بكَ قد نَزَلَتْ بإخوانٍ لكَ كرامٍ أفاضلَ، وَصَبَرُوا عليها، وكان لهم في عاقبةِ
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥١) من سورة البقرة.
﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ﴾ [المائدة: آية ٩٠] إلى قولِه: ﴿فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ وتحريمُ هذه المسكراتِ كُلِّهَا مُحَافَظَةً من النظامِ السماويِّ على عقولِ الناسِ؛ لأَنَّ مَنْ شَرِبَ فضاعَ عقلُه ارتكبَ كُلَّ فاحشةٍ وكلَّ سوءٍ - والعياذُ بالله - لأَنَّ نورَ العقلِ هو النورُ الذي يميزُ الإنسانَ به بينَ الْحَسَنِ والقبيحِ، والنافعِ والضارِّ، فربما إذا سَكِرَ رُبَّمَا وَقَعَ على ابنتِه، وَرُبَّمَا ضربَ جَارَهُ.
وَذَكَرَ بعضُهم في تفسيرِ آيةِ الخمرِ في سورةِ المائدةِ: أنه رَأَى شَائبًا شَارِبًا - والعياذُ بالله - يبولُ في يَدَيْهِ - يتخيلُ للخبيثِ أنه يَتَوَضَّأُ - ويستنشقُ ويتمضمضُ بالبولِ، ويغسلُ وجهَه ولحيتَه بالبولِ، ويقولُ: الحمدُ لله الذي جعلَ الإسلامَ نُورًا، والماءَ طَهُورًا (١)!! وهو لا يَدْرِي أنه يغسلُ وجهَه بالبولِ والعياذُ بالله!! فالخمرُ أُمُّ الخبائثِ، ولمحافظةِ دينِ الإسلامِ على العقولِ حَرَّمَ كُلَّ ما يضرُّ بالعقلِ، فَحَرَّمَ شربَ الخمرِ، وأوجبَ النبيُّ - ﷺ - الحدَّ في شربِها، كذلك حافظَ القرآنُ العظيمُ على أنسابِ الناسِ، فَمَنَعَ الزِّنَى صيانةً للأنسابِ، وَتَطْهِيرًا لِلْفُرُشِ من التقذيرِ؛ لئلاَّ تتقذرَ فُرُشُ المجتمعِ، وتختلطَ أنسابُه؛ ولذا قال: {وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ
_________
(١) انظر: التفسير الكبير (٦/ ٤٦)، روح المعاني (١/ ١١٤)، تفسير المنار (٢/ ٣٢٧)، وانظر: ما يشبه هذه الحكاية في القرطبي (٣/ ٥٧).
وقد بيَّن القرآن في سورة النساء ما يدل على أنه سيأتي قوم في آخر الزمان يتخذون وسيلة إلى ظلم الناس في أموالهم من قولهم: هذا فقير، وهذا غني، فنأخذ من الغني لنرده على الفقير!! كما هو مشاهد في المذاهب الهدامة، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَالله أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى﴾ [النساء: آية ١٣٥] بأن تقولوا: هذا غني فنأخذه للفقير، أو نكتم الشهادة عليه للفقير ﴿فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً﴾ ولذا جعل حدَّ السرقة لمن أخذ المال في قوله: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ الله وَالله عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٣٨)﴾ [المائدة: آية ٣٨] فأوجب قطع يد السارق محافظةً على أموال المجتمع. والكفار الفجرة يرون أن قطع يد السارق أنه عمل وحشي لا ينبغي أن يكون في النُّظم الإنسانية؛ لجهلهم وطمس بصائرهم وعدم علمهم بالحِكَم السماوية التي يُشرِّعها خالق السماوات والأرض؛ لأن الله
لما قال له ربه: ﴿قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ﴾ هذا خبرٌ يقينٌ من الله، لم ينفعل موسى، ولم يلق الألواح، فلما جاء حاملاً ألواح التوراة، ونظر إليهم يعبدون العجل، ويعكفون حوله، لم يتمالك حتى ألقى الألواح، وانفعل عند المعاينة انفعالاً لم ينفعله عند الخبر اليقين، ومن هنا عُرِفَ أن الخبر ليس كالمعاينة. وهذا معنى قوله: ﴿قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الألْوَاحَ﴾ يعني: طرح ألواح التوراة التي هي مكتوبة فيها من شدةِ غضبه لانتهاك حرمة الله، وعبادة العجل معه. وكثيرٌ من المفسرين يقولون: إنه ألقاها إلقاءً قويًّا حتى تكسرت، وأنه رُفع شيء منها مع المكسر منها. وكل هذا لا دليل عليه، ولم يقم عليه دليل صحيح لا في كتاب ولا من سنة (١)، وظاهر القرآن أنها لم تتكسر، ولم يَضِع منها شيء؛
_________
(١) بل ثبت في بعض الروايات ما يدل على ذلك، وللوقوف على هذه الروايات انظر: تفسير ابن أبي حاتم (٥/ ١٥٦٣)، الإتقان للسيوطي (١/ ١٢٣)، التفسير الصحيح (٢/ ٣٥٠)، جامع التفسير من كتب الأحاديث (٢/ ٧٤٦، ١٠٩١). وفي الحديث المُتقدم ((ليس الخبر كالمُعاينة)) تصريح بتَكَسُّرِها.
ثم لامهم لوماً شديداً عظيماً من الله قال: ﴿تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا﴾ يعني: حطام الدنيا الزائل، فسماه عرضاً؛ لأنه عارض الوجود يعروه الزوال عن قريب، كما قدمنا في قوله: ﴿يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى﴾ [الأعراف: الآية ١٦٩] والله (جل وعلا) لا يريد عرض الدنيا بل يريد الآخرة، يريد لكم الآخرة بأن تقتلوا الكفرة، وتكسروا شوكة الكفر، وتذلوا أهله وأهلها، وتُعِزّوا كَلِمَةَ الله وتُعْلُوا دِينَ اللهِ فِي أرْضِهِ وهذه هي الآخرة التي يريدها لكم، وهذه الإرادة إرادة شرعية دينية، ولو كانت إرادة قدرية كونية لنفذت على كل حال؛ لأن اللهَ إذا أراد بإرادته الكونية القدرية شَيْئاً لا بد أن ينفذ كائناً ما كان ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢)﴾ [يس: الآية ٨٢] فَهَذِهِ إرادَتُهُ الشَّرْعِيَّةُ الدِّينِيَّة لكم كان الأولى لكم شَرْعاً ودِيناً أن تقتلوهم فتُعْلوا كلمة الله، وتذلوا كلمة الكفر، وهذا معنى قوله: ﴿حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ﴾. ﴿تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا﴾ أي: حطامها الزَّائِلَ؛ لأنه عارض ينقضي ويزول ﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ﴾ أي: الدار الآخرة. ومِنْ أَعْظَمِ أسْبَابِ الخُلُود في جناتها إعلاء كلمة الله، إذلال كلمة الكفر، وأكبر أسباب ذلك قتل الرؤساء قادَة الكفار وساداتهم. وهذا معنى قوله: ﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ﴾.
﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ قَدَّمْنَا الكَلامَ عَلَيْهِ قَرِيباً.
وقوله: ﴿لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ﴾ [الأنفال: الآية ٦٨] (لولا) في علم العربية هي حرف امتناع لوجود، والمعنى: امتنع أن يَمَسَّكُمْ عذاب الله بسبب [الكتاب السابق في الأزل] (١) ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.
_________
(١) في هذا الموضع كلام غير واضح، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.


الصفحة التالية
Icon