الآنَ على هذه الكلماتِ القليلةِ؛ لأن البارحةَ أَخَذْنَا دواءً أَثَّرَ علينا، فَمَعِيَ الآنَ بعضُ الأثرِ» اهـ.
٢ - دارُ العلومِ بالمدينةِ النبويةِ، وذلك في عَامَيْ (١٣٦٩ و١٣٧٠ هـ) إلى أن انتقلَ الشيخُ (رحمه الله) إلى الرياضِ.
٣ - المعهدُ العلميُّ، وَكُلِّيَّتَا الشَّرِيعَةِ واللغةِ العربيةِ بالرياضِ. وذلك لَمَّا انتقلَ إليها عامَ (١٣٧١ هـ)، وَبَقِيَ على ذلك إلى عامِ (١٣٨١ هـ) حينَ انتقلَ إلى المدينةِ النبويةِ.
٤ - الجامعةُ الإسلاميةُ. حيث دَرَّسَ فيها التفسيرَ والأصولَ إلى أن تُوُفِّيَ، إضافةً إلى آدابِ البحثِ والمناظرةِ كما سيأتي في ترجمتِه.
٥ - في بيتِه في مدينةِ الرياضِ، أو بعدَ انتقالِه إلى المدينةِ النبويةِ (وهي دروسٌ خاصةٌ لبعضِ تلامذتِه).
يقول تلميذُه الشيخُ عطيةُ (رحمه الله): «ولم يكن لِي مَعَهُ (رحمه الله) مِنْ وَقْتٍ مُعَيَّنٍ، مع كثرةِ الإخوانِ الدارسينَ عليه الْمُقِيمِينَ معه في بيتِه إلا وقتٌ واحدٌ، هو ما بينَ المغربِ والعشاءِ، لمدةِ سَنَتَيْنِ دراسيتين ونحنُ بالرياضِ، قرأتُ خِلاَلَهُمَا تفسيرَ سورةِ البقرةِ» (١) اهـ.
_________
(١) ترجمة الشيخ عطية سالم (رحمه الله) لشيخه الشيخ محمد الأمين (رحمه الله) في آخر الأضواء (٩/ ١٤).
(٢) انظر: ترجمة الشيخ عطية سالم (رحمه الله) لشيخه الشيخ محمد الأمين (رحمه الله). في آخر الأضواء (٩/ ٤٠)، علماء ومفكرون عرفتهم (١/ ١٨١)، ترجمة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، للسديس ص٢٢٢.
(٣) معارج الصعود إلى تفسير سورة هود ص١٤.
العجيبِ الذي ينزلُ رَشَاشًا؟ فلو كَانَ مُنْزِلُهُ أخْرَقَ لأَنْزَلَهُ قطعةً واحدةً مُتَّصِلاً بعضُه ببعضٍ. ولو نَزَلَ المطرُ الغزيرُ قطعةً واحدةً لأَهْلَكَ كُلَّ مَنْ سَقَطَ عليه، وَتَرَكَ الخلقَ أَثَرًا بعدَ عَيْنٍ؛ لأَنَّ اللَّهَ تعالى بَيَّنَ كيفيةَ إنزالِه إياه، وما في ذلك مِنَ الغرائبِ والعجائبِ: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ﴾ [النور: آية ٤٣]، الوَدْقُ: المطرُ يخرجُ من خلالِ السحابِ، أي: مِنْ فتوقِ الْمُزْنِ وثقوبِه التي جَعَلَهَا اللَّهُ فيه، وهو إنما يأتي به قَادِرٌ يُصَرِّفُهُ كيفَ شَاءَ. ولكن اللَّهَ بَيَّنَ في السورةِ الكريمةِ - سورةِ الفرقانِ - أنه يُنْزِلُ الماءَ هذا الإنزالَ الهائلَ الغريبَ العجيبَ، وأن كَثِيرًا من الناسِ يَأْبَى في هذه الغرائبِ والآياتِ إِلاَّ الْكُفْرَ - والعياذُ بالله -؛ لأَنَّ اللَّهَ قَالَ: ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (٤٨) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (٤٩) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا﴾ [الفرقان: الآيات ٤٨ - ٥٠]، يعني: صَرَّفْنَا الماءَ بينَ الناسِ، تارةً نُغْدِقُ المطرَ على قومٍ لِتُخْصِبَ أرضَهم، وَتُنْبِتَ زُرُوعَهُمْ، ويكثر خيرُ مواشيهم، اختبارًا لهم وابتلاءً هل يشكرونَ نِعَمَنَا؟ ونَصْرِفُهُ عن قومٍ كانوا في خِصْبٍ حتى يُجْدِِبوا؛ لنختبرهم بذلك الجدبِ والفقرِ وهلاكِ المواشي والزروعِ: أيتعظون، وَيُنِيبُونَ إلينا؟
وَلَمَّا قال: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا﴾ قال: ﴿فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا﴾ [الفرقان: آية ٥٠]، وَمِنَ الناسِ الذين أَبَوْا إِلاَّ كُفُورًا: الكفرةُ وأذنابُ الكفرةِ الذين يزعمونَ أن السحابَ لَمْ يُنْزِلُهُ مَلَكٌ مُقْتَدِرٌ، وإنما هي طبائعُ، وأن الماءَ تَتَفَاوَتُ عليه درجاتُ الشمسِ، أو احتكاكُ الهواءِ حتى يتبخرَ وتتصاعدَ أبخرتُه، فتتجمعُ ثم تُلاَقِي هواءً حارًّا، ثم تُزَعْزِعُهَا الريحُ فَتُفَرِّقُهَا، وأن هذا ليس فعلَ فاعلٍ!! هؤلاء الذين يقولُ اللَّهُ فيهم:
وإن جُرَّ فهو في معنى مفعول لأجله، ويجوز أن يكون مبتدأ، ويكون -أي: يجوز- معطوفاً على قوله: ﴿كِتَابٌ﴾ كتاب أنزلناه إليك، وذكرى للمؤمنين أنزلناها إليك. والأول هو الأظهر.
والمؤمنون: عباد الله المصدقون بقلوبهم تصديقاً تساعده جوارحهم، فيكون القلب مصدقاً وتظهر آثار ذلك التصديق على الجوارح، بأن تطيع الله، وتمتثل أمره، وتجتنب نهيه. فالإيمان في لغة العرب يطلق على التصديق (١)، ومنه ﴿وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا﴾ أي: بمصدقنا في أن يوسف أكله الذئب ﴿وَلَو كُنَّا صَادقِين (١٧)﴾ [يوسف: آية ١٧]. وهو في اصطلاح الشرع (٢): التصديق من جهاته الثلاث: وهو تصديق القلب بالاعتقاد، وتصديق اللسان بالإقرار، وتصديق الجوارح بالعمل. فالإيمان قول وعمل، ينقص ويزيد بحسب الأعمال الصالحة وعدمها على مذهب أهل السنة والجماعة الذي دلت عليه نصوص الوحي في القرآن والأحاديث الصحيحة بكثرة، كقوله: ﴿لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ﴾ [الفتح آية ٤] ﴿زَادَتْهُمْ إِيمَانًا﴾ [الأنفال: آية ٢] وما جرى مجرى ذلك من النصوص، وفي الحديث الصحيح: «إن الإيمانَ بِضْعٌ وسَبْعونَ -وفي بعضها: وَسِتُّونَ- شُعْبَةً أعْلاهَا: شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وأدْنَاهَا إمَاطَةُ الأذَى عن الطَّريق» (٣) وقد سمى النبي ﷺ في الحديث الصحيح إماطة الأذى عن الطريق إيماناً، وقد سمى الصلاة إيماناً في قوله: ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ [البقرة: آية ١٤٣] أي: صلاتكم إلى بيت
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥٥) من سورة البقرة.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٤٨) من سورة الأنعام.
(٣) السابق.
بالمخلوق، وبين صفة الخالق والمخلوق من المنافاة كمثل ما بين ذات الخالق والمخلوق، كررنا هذا مرارًا (١).
وسأضرب لكم منه بعض الأمثال الآن للتذكار والفائدة: لا يخفى عليكم أَنَّ مِنْ تَقَاسِيمِ المتكلمين للصفات -في العلم المعروف بِعِلْمِ الكلام - أنهم يقسمون الصفات إلى صفة معنى، وما يسمونه: صفة معنوية، وما يسمونه: صفة سلب، وما يسمونه: صفة جامعة، وما يسمونه: صفة فعل، كما هو معروف عندهم.
فمن صفات المعاني عندهم، وهي الصفات في اصطلاحهم الدالة على معانٍ وجودِيَّة قائمة بالذات زائدة على الذات، وهؤلاء الذين يؤولون الصفات ينكرون جميع المعاني الثابتة في كتاب الله وسنة رسوله إلا سبعًا منها، وهي: القدرة، والإرادة، والعلم، والحياة، والسمع، والبصر، والكلام. وينفون غيرها من المعاني الثابتة. وهذا غلط لا شك فيه؛ لأن جميع الصفات من باب واحد، فنحن أولاً نقول في صفات المعاني: إن الله وصف نفسه بالقدرة فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: آية ١٤٨]، ووصف بعض خلقه بالقدرة فقال: ﴿إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ﴾ [المائدة: آية ٣٤] ونحن نعلم أن الله في كتابه صادق في وصف نفسه بالقدرة، وصادق في وصف بعض خلقه بالقدرة، وأن لله قدرة حقيقيَّةً لائقة بكماله وجلاله، وللمخلوق أيضًا قدرة مناسبة لحالِهِ وعَجْزِهِ وافْتِقَارِهِ والفناء، وبين القدرة والقدرة من المنافاة كمثل ما بين الذات والذات، فنثبت قدرة الخالق لائقة بالخالق، منزهة عن مشابهة قدرة المخلوق، ونثبت قدرة
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١٤٧) من سورة الأنعام.
فضل المؤلفة قلوبهم على الأنصار وهم أحسن منهم إسلاماً. قالوا: فعطايا النبي هذه -صلى الله عليه وسلم- كما أعطى من مئات الإبل، وأعطى من الورق والرقيق، وأعطى صفوان بن أمية ما ملأ بين جبلين من الغنم، قالوا: هذا يدل على أن الغنيمة ليست استحقاقاً محضاً للغانمين، وإنما يفعل الإمام فيها ما يشاء، قالوا: وكذلك لما فتح مكة لم يغنم أموال أهل مكة، ولم يقسم دورها ولا أرضها [فلو كان قَسْمُ الأخماس الأربعة على الجيش واجباً لفعله ﷺ لما فتح مكة. قالوا: وكذلك غنائم هوازن في غزوة حنين، أعطى منها عطايا عظيمة جدّاً للمؤلفة قلوبهم. وأجاب
[٤/ب] الجمهور عن كونه صلى الله عليه وسلم] (١) / أعطى المؤلفة قلوبهم، وأعطى عيينة مئة، والأقرع مئة، وصفوان ما ملأ بين جبلين غنمًا ونحو ذلك من العطايا، أنه فعل ذلك بعدما استطاب نفوس الغانمين عنه، وأن الغانمين طابت له نفوسهم بذلك للمصلحة العامة، وهي تأليف قلوب الرجال الذين لهم شوكة عظيمة وأتباع كثيرون ليقوى بهم الإسلام، وقد فعل ذلك برضا الغانمين وطيب أنفسهم عن ذلك له صلى الله عليه وسلم، أما عدا كونه لم يقسم دور مكة ورباعها فقد أجاب عنه الشافعي (رحمه الله) جواباً لكنه غير ناهض بالحقيقة والإنصاف (٢)؛ لأن الشافعي (رحمه الله) مع جلالته وعلمه يرى أن مكة المكرمة -حرسها الله- أنها فتحت صلحاً لا عنوة، ويظن أن قوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَلْقَى السِّلاَحَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ المَسْجِدَ فَهُوَ
_________
(١) في هذا الموضع انقطع التسجيل. وتم استيفاء النقص من كلام الشيخ (رحمه الله) في الأضواء (٢/ ٣٥٥) وجعلت ذلك بين معقوفين.
(٢) انظر: الأضواء (٢/ ٣٥٦).


الصفحة التالية
Icon