يعني أَخْرَجَهُنَّ من جحورهن؛ لأن جحورَ الحشراتِ تُسَمَّى أَنْفَاقًا، واحدُها نفقٌ. والسُّلَّمُ: هو المصعدُ إلى الشيءِ، معروفٌ في كلامِ العربِ. والسُّلمُ إلى السماءِ: المصعدُ الذي يُصْعَدُ فيه إلى السماءِ (١). ومنه قولُ زهيرٍ في معلقتِه (٢):
وَمَنْ هَابَ أَسْبَابَ الْمَنَايَا يَنَلْنَهُ وَلَوْ رَامَ أَسْبَابَ السَّمَاءِ بِسُلَّمِ
وَكُلُّ مصعدٍ يصعد فيه الإنسانُ تُسَمِّيهِ العربُ سُلَّمًا، ولو كان مَعْنَوِيًّا، فالشيءُ الذي يُرْتَقَى به إلى الأمرِ - ولو مَعْنَوِيًّا غيرَ محسوسٍ - تقولُ له العربُ: سُلَّمٌ، ومنه قولُ الحطيئةِ (٣):
الشِّعْرُ صَعْبٌ وَطَوِيلٌ سُلَّمُهْ إِذَا ارْتَقَى فِيهِ الَّذِي لاَ يَعْلَمُهْ
زَلَّتْ بِهِ إِلَى الْحَضِيضِ قَدَمُهْ
وقولُه جل وعلا: ﴿فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ﴾ هذا الفعلُ المضارعُ منصوبٌ؛ لأنه معطوفٌ على فعلٍ منصوبٍ، والمضارعُ المعطوفُ على منصوبٍ يُنْصَبُ. والأولُ المنصوبُ قولُه: ﴿فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ﴾ فقوله: ﴿تَبْتَغِيَ﴾ منصوبٌ بـ (أن). وقولُه: ﴿فَتَأْتِيَهُمْ﴾ معطوفٌ عليه، ﴿فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ﴾ قاهرةٍ تقهرهم بها فَافْعَلْ إن قدرتَ، وإن لم تَقْدِرْ على ذلك فَهَوِّنْ عليكَ، وَاعْلَمْ أن أمرَهم بيدِ اللَّهِ، هُدَاهُمْ بيدِه وحسابُهم عليه، فَهَوِّنْ عليكَ.
ثم إن اللَّهَ قال: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى﴾ هذا الْهُدَى الذي يُؤْسِفُكَ أن لم يَهْتَدُوا هو بيدِ اللَّهِ، لو شَاءَ رَبُّكَ {لَجَمَعَهُمْ عَلَى
_________
(١) مضى قريبا.
(٢) انظر: شرح القصائد المشهورات (١/ ١٢٢).
(٣) ديوان الحطيئة برواية وشرح ابن السكيت ص (٢٩١).
وقد ثَبَتَ في صحيحِ مسلمٍ أن النبيَّ - ﷺ - همَّ أن يمنعَ وطءَ النساءِ إذا كانت تُرْضِعُ أَوْلاَدَهُنَّ؛ لأن العربَ كانوا يظنونَ أن المرأةَ إذا أتاها زوجُها وهي ترضعُ أن ذلك الوطءَ يُضْعِفُ عظمَ ولدِها ويضرُّه، هذا كان مَشْهُورًا عندَ العربِ، وكانوا إذا رَمَى الرجلُ بالسيفِ فَنَبَا سيفُه عن الضريبةِ ولم يَقْطَعْ، قالوا: هذا رَجُلٌ وُطِئَتْ أُمُّهُ وهو يَرْضَعُ، كما قال شاعرُهم (١):

فَوَارِسُ لَمْ يُغَالُوا فِي رَضَاعٍ فَتَنْبُو فِي أَكُفِّهِمُ السُّيُوفُ
فَلَمَّا أَخْبَرَتْهُ فَارِسُ والرومُ أنهم يفعلونَ ذلك ولا يضرُّ أولادَهم أخذَ هذه الخطةَ الطبيةَ من الكفارِ (٢).
والقصدُ أن نُنَبِّهَ إخوانَنا على أن دينَ الإسلامِ دينُ تَقَدُّمٍ في الميدانِ، ودينُ قوةٍ، ليس دينَ جمودٍ، ولا دينَ إخلادٍ إلى الأرضِ، بل هو دينُ كفاحٍ وقوةٍ وجهادٍ وَتَقَدُّمٍ في الميدانِ، وَقَوْدُ الدنيا وإضاءتُها بالنورِ إلى ما ينفعُها في دنياها ودينها، وقد نَظَّمَ اللَّهُ فيه- في كتابِه- علاقاتِ البشرِ في الدنيا والآخرةِ، وأوضحَ لهم ما يَحْيَوْنَ به في الدنيا حياةً سعيدةً، ويَحْيَوْنَ به الحياةَ الأبديةَ بعدَ الموتِ حياةً سعيدةً، فعلى المسلمِ أن يعلمَ أن دينَ الإسلامِ دينُ كفاحٍ وتقدمٍ في الميدانِ، إلا أنه يجبُ فيه المحافظةُ على طاعةِ خالقِ هذا الكونِ؛ لأَنَّ هذا الكونَ له خالقٌ هو الذي خَلَقَهُ، ومَلِكٌ هو الحكمُ العدلُ فيه، ولم يترك الناسَ سُدًى. أَمَرَهَمُ وَنَهَاهُمْ، فلابد أن تطاعَ أوامرُه، وَتُسْلَكَ طرقُه التي أَمَرَ بها، وكلُّ ذلك ما فيه للإنسانيةِ إلا خيرُ الدنيا
_________
(١) البيت في الكامل ص١٧٧.
(٢) مسلم، كتاب النكاح، باب: جواز الغيلة، حديث رقم (١٤٤٢)، (٢/ ١٠٦٦).
وإنما ذكر الساعة مع أنهم لا يتقدمون عنه بلحظة ولا يتأخرون؛ لأن عادة العرب أن يطلقوا الساعة في أقل الأوقات، مع أنهم لا يتأخرون لحظة ولا دقيقة ﴿وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ﴾ عن الوقت المضروب لذلك الإهلاك.
﴿يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٥)﴾ [الأعراف: آية ٣٥] قرأ هذا الحرف عامة القراء غير أبي عمرو ﴿يا بني آدم إما يأتينكم رُسُلٌ منكم﴾ بضم السين والراء، وقرأه أبو عمرو: ﴿يا بني آدم إِما يأتينكم رُسْلٌ منكم﴾ بسكون السين. وتخفيف (الفُعُل) بإسكان العين قراءة معروفة ولغة مشهورة، كما تقول العرب: كُتُب وكُتْب، ورُسُل ورُسْل (١).
لما أخرج الله آدم من الجنة بَيَّنَ لذريته أن الجنة بعد أن أُخرج منها آدم وحواء لا يمكن أن يدخلها أحد إلا بعد تكاليف ومشاق، وأخبرهم أنه سيرسل لهم الرسل بالأوامر والنواهي، فمن أطاع أمره واجتنب نهيه واتبع رسله أدخله جنته وَرَدَّهُ إلى الوَطَنِ الأوَّل، ومَنْ كَفَرَ وعصى وتمرَّد أدْخَلَهُ النَّار وأخْلَدَهُ فيها والعياذ بالله.
﴿يَا بَنِي آدَمَ﴾ يا أولاد آدم، والنون فيه محذوفة للإضافة، وأصل (البنين) من الملحق بالجموع المذكرة السالمة؛ لأنه ليس من الوصف ولا من العَلَم، ولا ينقاس جمع المذكر السالم إلا في الأوصاف والأعلام، فهذا من الملحقات به. ﴿يَا بَنِي آدَمَ﴾ معناه: يا أولاد آدم الذي استزَلَّه الشيطان بوساوسه وغروره من الجنة إلى دار
_________
(١) انظر: إتحاف فضلاء البشر (١/ ٤٠٤)، البدور الزاهرة ص١١٦.
الألواح لم تَتَكَسَّر، وأن التوراة لم يُرفع منها شيء، ومعلوم كثرة أقوال المفسرين أنها تكسَّرت، وأنّ رضاضها لم يزل عند الملوك الإسرائيليين، وأنها رُفع منها كل التفاصيل، وبقي منها الهدى والرحمة. ولكن هذا لم يقم عليه دليل يجب الرجوع إليه، وهذا معنى قوله: ﴿وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ﴾ أي: أخذها ليعمل بما فيها؛ لأن ربه قال له: خذها بقوة.
﴿وَفِي نُسْخَتِهَا﴾ النسخة هنا (فُعْلَة) بمعنى (مفعول)، أي: المنسوخ فيها، أي: المكتوب فيها من التوراة من كلام رب العالمين، وفيه ﴿هُدًى﴾ أي: دلالة وإرشاد إلى الخير، ورحمة تقي عذاب الله وسخطه لمن عمل به.
﴿لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ﴾ الذين هم يخافون الله، وخصَّهم لأنهم هم المنتفعون به، وجرت العادة في القرآن أن الله يخص المنتفعين (١)، كما قال: ﴿إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ﴾ [يس: آية ١١] وهو منذر للأسود والأحمر، ﴿إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا (٤٥)﴾ [النازعات: آية ٤٥] وهو منذر للجميع، ﴿فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ﴾ [ق: آية ٤٥] وهو مذكر لمن يخاف ومن لا يخاف كما هو معلوم.
واللام في قوله: ﴿لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ﴾ ففيها أوجه (٢)، وأظهرها أن المعمول إذا قُدِّم على عامله ضعفت تعديته إليه، فإذا جيء باللام تقوَّتِ التَّعْدِيَةُ، ونظيره قوله: {إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥١) من سورة الأنعام.
(٢) انظر: الدر المصون (٥/ ٤٧٢).
وقوله: ﴿مِّنَ الأَسْرَى﴾ الأسرى جمع أسير، والأسير (فَعِيل) بمعنى (مَفعُول) وهو اسم المفعول من (أَسَره) العرب تقول: أسره يأسره أسراً، فالفاعل (آسر) والمفعول (مأسور): إذا شدّه بالوثاق، وأصل هذه المادة مأخوذة من الإيسار، والإيسار: القِدّ. والقِدّ: هو جلد البعير غير المدبوغ؛ لأن جلد البعير إذا لم يُدْبَغ تسمّيه العرب قِدّاً، وكانوا يشدّون الأسِيرَ بالجلد عند سَلْخِهِ طَرِيّاً، فإذا يَبس اشتدّت قوّته ولا يقدر أحد على حلّه ولا قطعه ولا نزعه، ومن هنا قيل لكل مشدود شدّاً محكماً: إنه مأسور. وأصله من (الإيسار) وهو الشدّ بالإسار، أعني القِدّ وهو جلد البعير إذا كان غير مدبوغ. ومن هذا المعنى قوله تعالى: ﴿نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ﴾ [الإنسان: الآية ٢٨] المراد بقوله: ﴿وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ﴾ أحْكَمْنَا شَدَّ العِظَامَ بَعْضَها إِلَى بَعْضٍ بِإِحْكَام وإِتْقَانٍ شَدِيدٍ كَمَا يُشَدُّ الشَّيْءُ شَدّاً قويّاً بالقِدّ فييبس عليه فيمسكه إمساكاً قويًّا (١). وهذا صار معنىً معروفاً في كلام العرب، مشهور في كلامهم، فكل شيء شددته شدّاً محكماً تقول العرب: أسرته. ومنه سُمّي الأسير، أي: لأنه يُشد بالإسار، وهو جلد البعير غير المدبوغ. وهذا معروف في كلامهم، ومنه: أسر مراكب النساء؛ لأن أعواده تُشدّ بالقدّ حتى يتحكّم بعضه مع بعض، ومنه قول حُمَيْدِ بن ثور الهلالي (٢):
وما دخَلَتْ في الخَدْب حتى تَنَقَّضَتْ تآسير أعْلَى قِدّه وتحَطّمَا
وهذا معنى معروف في كلام العرب. يعني: قل يا نبيّ الله لهؤلاء الذين أخذتموهم وكانوا في قبضتكم وتحت تصرّفكم:
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١١) من سورة الأعراف.
(٢) البيت في ديوانه ص١٩.


الصفحة التالية
Icon