فيهم: ﴿فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ﴾ [الأحزاب: آية ١٩] كيف يَسْلُقُ بألسنةٍ حدادٍ مَنْ هُوَ أَبْكَمُ؟ وقال: ﴿وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ﴾ [المنافقون: آية ٤] أي: لفصاحتِهم وحلاوةِ ألسنتِهم. ومعنى هذا: أن اللَّهَ أَصَمَّهُمْ عن سماعِ الحقِّ وعن الدينِ، وعمَّا ينفعُهم عندَ رَبِّهِمْ، وإن كانوا يسمعونَ غيرَه، وكذلك جعلَ ألسنتَهم بُكْمًا عن النطقِ بالقولِ فيما يُرْضِي اللَّهَ، وبما ينفعُهم عندَه، وإن نَطَقُوا بِغَيْرِهِ.
ومن أساليبِ اللغةِ العربيةِ التي نَزَلَ بها القرآنُ: أن الشيءَ إذا كان قليلَ الْجَدْوَى أُطْلِقَ عليه: لاَ شيءَ (١). فَأَسْمَاعُهُمْ لَمَّا لَمْ يَفْهَمُوا بها عن اللَّهِ، وأبصارُهم لَمَّا لم يُبْصِرُوا بها ما يُرْضِي اللَّهَ، وقلوبُهم لَمَّا لم يَعْقِلُوا بها بما يُرْضِي اللَّهَ، صَارَتْ كُلُّهَا كأنها عَدَمٌ؛ وَلِذَا أُطْلِقَ عليهم اسم الصَّمَمِ؛ لأن سمعَهم لم يَنْفَعْهُمْ (٢)، كما قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُم مِّنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ [الأحقاف: آية ٢٦] فمعلومٌ في لغةِ العربِ أن السماعَ الذي لا جَدْوَى له تُطْلِقُ العربُ عليه: لا شيءَ، وَتُسَمِّي صاحبَه أَصَمَّ (٣). وهو معنًى معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ قُعْنُبِ ابْنِ أُمِّ صَاحِبٍ (٤):
_________
(١) انظر: فقه اللغة للثعالبي ص (٣١٠)، مجموع الفتاوى (٢٥/ ١٥٥ - ١٦٠)، البرهان (٣/ ٣٩٥)، فتح الباري (٢/ ٦١، ٢٤١)، (٩/ ٢٠٨)، الإتقان (٣/ ٢٣١)، الكليات (٨٩٠)، القواعد الحسان ص (١٣٤).
(٢) انظر: الأضواء (١/ ٤٩)، دفع إيهام الاضطراب ص (١٢)، (ملحق في آخر جـ (٩) من الأضواء).
(٣) انظر: المفردات (مادة: صمم) ص (٤٩٢)، دفع إيهام الاضطراب ص (١٢).
(٤) البيت في معاني القرآن للزجاج (٥/ ٣٠٣)، القرطبي (١٩/ ٢٦٩)، الدر المصون (١٠/ ٧٣٢).
النبيِّ - ﷺ - وفي الصحيحِ: أن الله يقولُ لآدمَ يومَ القيامةِ: يَا آدَمُ. فَيَقُولُ آدَمُ: لَبَّيْكَ رَبِّي وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ. فَيُقَالُ له: يا آدمُ أَخْرِجْ خلقَ النارِ. فيقولُ: يا رَبِّي، وما خَلْقُ النارِ؟ فيخبرُه رَبُّهُ أنه تسعةٌ وتسعونَ وتسعمائة من كُلِّ أَلْفٍ، وَلَمَّا ذَكَرَ النَّبِيُّ - ﷺ - هذا ضَاقَ على الصحابةِ، وَحَزِنُوا من هذا لقلةِ نصيبِ أهلِ الجنةِ، وكثرةِ نصيبِ النارِ، فَبَيَّنَ لهم النبيُّ - ﷺ - كثرةَ الكفرةِ الفجرةِ، وأن يأجوجَ ومأجوجَ يمكنُ أن يكونَ منهم الألفُ ومنكم الواحدُ (١)؛
ولذا قال تعالى: ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ﴾ [الأنعام: آية ١١٦] المرادُ بالأرضِ على التحقيقِ: جميعُ أهلِ الدنيا الذين هُمْ في الأرضِ، خِلاَفًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ المرادَ بها أرضُ مكةَ، وأن المرادَ أكثرُ أهلِها مِنْ رؤساءِ الكفرةِ. التحقيقُ هو التعميمُ (٢).
وقولُه: ﴿يُضِلُّوكَ﴾ هو جزاءُ الشرطِ، منصوبٌ بحذفِ النونِ، مضارعُ (أَضَلَّهُ، يُضِلُّهُ) إذا جَعَلَهُ ضَالاًّ، وَتَسَبَّبَ له في الضلالِ عن طريقِ الصوابِ.
وقد بَيَّنَّا في هذه الدروسِ مِرَارًا: أن الضلالَ- أَعَاذَنَا اللَّهُ والمسلمينَ منه- يُطْلَقُ في القرآنِ العظيمِ وفي اللغةِ العربيةِ إطلاقاتٍ متعددةً على ثلاثةِ أنحاءَ (٣): يُطْلَقُ الضلالُ في اللغةِ والقرآنِ على
_________
(١) الحديث أخرجه البخاري، كتاب الأنبياء، باب: قصة يأجوج ومأجوج، حديث رقم (٣٣٤٨)، (٦/ ٣٨٢)، وأخرجه في مواضع أخرى، انظر الأحاديث: (٤٧٤١، ٦٥٣٠، ٧٤٨٣). ومسلم، كتاب الإيمان، باب: قوله: (يقول الله:

يا آدم، أخرج بعث النار ) حديث رقم (٢٢٢)، (١/ ٢٠١)..
(٢) انظر: البحر المحيط (٤/ ٢١٠).
(٣) مضى عند تفسير الآية (٣٩) من سورة الأنعام.
وقوله: ﴿مِنكُمْ﴾ [الأعراف: آية ٣٥] يدل على أنه قد يوجد رسل آخرون ليسوا منا، وهو كذلك؛ لأن من الملائكة رسلاً، والملائكة ليسوا من جنسنا، كما قال الله: ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ﴾ [الحج: آية ٧٥] وقال: ﴿جَاعِلِ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ﴾ الآية [فاطر: آية ١]، ﴿يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ﴾ أي: إن يجئكم من تلقائي ومن عندي رسل من جنسكم ونوعكم أرسلتهم إليكم، كما قال للنبي ﷺ في أول سورة يونس: ﴿أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ﴾ [يونس: آية ٢] لا عجب في هذا ﴿أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ﴾ [الأعراف: آية ٦٣] لا عجب في هذا.
﴿إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي﴾ ﴿يَقُصُّونَ﴾ معناه: يقرءون ويتلون عليكم آياتي في كتبي التي نزلتها على رسلي لينذروكم بها، ويبينوا لكم فيها العقائد، والحلال، والحرام، والأمثال، والجنة، والنار، وخبر الدنيا والآخرة، وما يستوجب به العبد رضا الله، وما يستوجب به سخطه، ﴿إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي﴾ [الأعراف: آية ٣٥] فاعلموا أن من اتبع رسلي وأطاعني صار إلى أحسن ما يكون، ومن كذب رسلي واستكبر عن آياتي وعصاني فسيصير إلى أسوأ ما يكون؛ ولذا قال: ﴿فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ ﴿فَمَنِ اتَّقَى﴾ أي: اتقى الله بأن صدّق رسله وامتثل أوامره التي جاءت بها الرسل، واجتنب نواهيه التي جاء نهي عنها على ألسنة الرسل، وأطاع الله فيما جاءت به رسله، وأصلح عمله بطاعة الله (جلّ وعلا)،
السبعون من خيارهم وجاءهم فقالوا: أين السبعون؟ فقال: ماتوا. يقولون: أنت الذي قتلتهم!! ويقع فيهم الخلاف والشقاق والفساد الذي لا حد له، ومن هنا كان نبي الله موسى حريصًا جدًّا على أن الله يحييهم -على القول بأنهم ماتوا- أو يرفع عنهم الرجفة -على القول بأنهم سقطوا مغشيًا عليهم غير ميتين- كما هو معروف. وهذا معنى قوله: ﴿فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ﴾ قال موسى متضرِّعًا لِرَبِّهِ ألاّ يقتلهم في ذلك الوقت الحَرِج، وذلك الظرف العصيب الذي له عواقب سيئة في قومه: ﴿قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ﴾ يا رب لو شئت إهلاكهم أهلكتهم من قبل هذا الوقت؛ لأنه مَرَّتْ أوْقَات لو هلكوا فيها ما كان في إهلاكهم عاقبة سيئة، فلو قتلتهم بمحضر قَوْمِهِمْ وهم ينظرون لما كانوا يَتَّهِمُونِي ولا نشأ عن ذلك فساد ولا بلايا ﴿لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ﴾ أي: وأهْلَكْتَنِي مَعَهُمْ في غير هذا الظرف كان ذلك أهون عليَّ وأقل أذيةً لي.
ثم إنه قال مُنَاجِيًا رَبَّهُ، وهذا الاستفهام -على التحقيق- استفهام استعلام مع تذللٍ واستعطاف ﴿أَتُهْلِكُنَا﴾ تهلكني أنا وإياهم. وقال بعض العلماء: تهلك جميع بني إسرائيل؛ لأنهم إن ماتوا في ذلك اتهموا نبيَّهُمْ ووقع فيهم الخلاف والقيل والقال الذي لا يرتفع.
﴿بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا﴾ السفهاء: جمع سَفِيهٍ. والمراد بهم هنا: الذين فعلوا الموجب الذي أخذتهم الرجفة بسببه سواء قلنا: إنه قولهم: ﴿أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً﴾ [البقرة: آية ٥٥] ولا سفه أكبر من ذلك، أو عبادتهم العجل، أو عدم نهيهم من عَبَدَ العجل، إلى غير ذلك.
حَكِيمٌ} [الأنفال: الآية ٧١] ضمير واو الفاعل في قوله: ﴿وَإِن يُرِيدُواْ﴾ راجع على الأسارى الذين في أيدي النبي ﷺ وأصحابه؛ لأنهم كانوا يقولون: آمنا بك وشهدنا أنك رَسُول الله، ووالله لننصحن لك على قومك، ولنكونن معك. ﴿وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ﴾ بهذا الكلام، إن كان هذا الكلام أرادوا به الخيانة والمكر والخديعة فلا تهتم بشأنهم ﴿فَقَدْ خَانُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ﴾ ظرف مقطوع من الإضافة مبني على الضم. أي: قد خانوا الله من قبل يوم بدر بالكفر، وعبادة الأصنام، وتكذيب رسوله ﷺ فأمكن الله منهم. هذا الفعل الذي هو (أمكن) يتعدى إلى مفعول، ومفعوله محذوف، والمعنى: فأمْكَنَكُمُ الله منهم. وَحَذْفُ الفضْلة إذا دَلَّ المقام عليه شَائِعٌ مُطَّرِدٌ في القرآن وفي كلام العرب، والعرب تقول: أمكنني من كذا: إذا هَيَّأَهُ لِي وجَعَلَهُ فِي قَبْضَتِي، وهو معنى معروف في كلامها، وهو مُتَعَدٍّ إلى المفْعُول كما هو معروف، فالمفعول هنا محذوف، وليس الفعل لازماً كما لا شك فيه، ومما يدل على ذلك من كلام العرب قولُ كُثَيِّر عزَّة وهو عربي قحّ، ذكروا أنه ناداه عبد العزيز بن مروان، وأحضر عزَّة وجعل دونها سجفاً؛ أعني: ستراً. وقال لكُثَيِّر: تمنَّ، فما تتمنى فهو حاضر. فتمنَّى إِبِلاً سوداً برعائها، أو غير ذلك من الأموال. فقال للغلام: ارْفَعِ السجف يا غلام. فرفعه عن عزة فإذا هي، فقال: لو تمنيت هذه لأعطيتكها وزوجتك إياها. فندم كُثَيِّر وقال، وهو محل الشاهد (١):
حَلَفْتُ بِرَبِّ الرَّاقِصَاتِ إِلَى مِنًى يَجُوبُ الفَيَافِي نصها وزميلها
_________
(١) البيتان في ديوانه ص٢٦٧ مغني اللبيب (١/ ١٩) (بشرح الأمير)، والثاني في رصف المباني ص٦٦.


الصفحة التالية
Icon