(أَجَابَ) (١). ومن الدليلِ عليه أن العربَ الفصحاءَ نَطَقُوا بما يَدُلُّ على ذلك، ومنه قولُ كعبِ بنِ سعدٍ الغَنَوِيِّ (٢):
وَدَاعٍ دَعَا يَا مَنْ يُجِيبُ إِلَى النَّدَى فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ
فجاء بـ (المجيب) اسمَ فاعلٍ (لَمْ يَسْتَجِبْهُ)، فعرفنا أنه أرادَ بـ (لم يستجبه): لَمْ يُجِبْهُ مُجِيبٌ. ﴿إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ﴾ الذي يُجِيبُكَ إلى ما تَدْعُو إليه، ويؤمنُ بكَ الإيمانَ الذي تطلبُ ﴿الَّذِينَ يَسْمَعُونَ﴾ الأحياءُ الذين لهم سَمْعٌ يَفْهَمُونَ به عنكَ ﴿وَالْمَوْتَى﴾ أي: الكفارُ الذين خَتَمَ اللَّهُ على قلوبِهم وأسماعِهم، فإنكَ لاَ يمكنُ أن تُسْمِعَهُمْ؛ لأَنَّهُمْ مَوْتَى، كما قال: ﴿إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ﴾ [النمل: آية ٨٠] وَلِذَا قال: ﴿يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ﴾ أي: مِنْ قُبُورِهِمْ يومَ القيامةِ إلى الجزاءِ.
﴿ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾ قد تَقَرَّرَ في فَنِّ المعانِي في مبحثِ القصرِ، وفي فنِّ الأصولِ في مبحثِ دليلِ الخطابِ - أعني مفهومَ المخالفةِ - أَنَّ مِنَ الصيغِ الدالةِ على الحصرِ: تقديمَ المعمولِ (٣). وقد قدَّم المعمولَ هنا، وهو الجارُّ والمجرورُ إيذانًا بالحصرِ. ثم يرجعون إليه وحدَه؛ لأنه ليس هناكَ عدةُ ملوكٍ يَرْجِعُ بعضُ الناسِ إلى واحدٍ ليحاسبَه، وبعضٌ إلى واحدٍ لِيُحَاسِبَهُ. بل هو الْمَلِكُ الواحدُ القهارُ، الذي إليه مَرْجِعُ الجميعِ؛ ولذا قَدَّمَ المعمولَ فقال: ﴿ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾.
_________
(١) انظر: الدر المصون (١/ ١٥٩)، (٢/ ٢٩١)، (٤/ ٥٠٠).
(٢) البيت في المصدر السابق (١/ ١٥٩).
(٣) مضى عند تفسير الآية (٤٧) من سورة البقرة.
رَجَا يوسفَ أنه حَيٌّ وهو قد مَاتَ، فهو ذاهبٌ عن علمِ الحقيقةِ في زَعْمِهِمْ، ومن الضلالِ بهذا المعنَى: ﴿لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنْسَى (٥٢)﴾ [طه: آية ٥٢] أي: لا يَخْفَى عليه عِلْمُ شيءٍ، ولا تذهبُ عليه حقيقةُ شيءٍ، ومنه بهذا المعنَى قولُه تعالى: ﴿فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا﴾ [البقرة: آية ٢٨٢] أي: تذهبُ عن علمِ حقيقةِ المشهودِ به بنسيانٍ ونحوِه ﴿فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى﴾ وَمِنَ الضلالِ بهذا المعنَى قولُ الشاعرِ (١):

وَتَظُنُّ سَلْمَى أَنَّنِي أَبْغِي بِهَا بَدَلاً أَرَاهَا فِي الضَّلاَلِ تَهِيمُ
يعني بالضلال: عدمَ معرفتِها للحقيقةِ حيث ظَنَّتْ أنه يبغي بها بَدَلاً، وهو لا يبغي بها بدلاً. هذه معانِي الضلالِ في القرآنِ وفي لغةِ العربِ.
وقولُه في هذه الآيةِ الكريمةِ: ﴿يُضِلُّوكَ﴾ هو من المعنَى الأولِ. أي: يُذْهِبُوكَ عن طريقِ الصوابِ إلى طريقِ الباطلِ، عن طريقِ الهدى إلى طريقِ الْجَوْرِ، وعن طريقِ الجنةِ إلى طريقِ النارِ.
وهذا معنَى قولِه: ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [الأنعام: آية ١١٦] السبيلُ في لغةِ العربِ: الطريقُ (٢). وهي تُذَكَّرُ وَتُؤَنَّثُ، فَمِنْ تَأْنِيثِهَا في القرآنِ: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي﴾ [يوسف: آية ١٠٨] ولم يَقُلْ: «هذا سبيلي».
وَمِنْ تذكيرِها في القرآنِ: ﴿وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً﴾... [الأعراف: آية ١٤٦] فَهِيَ من أسماءِ الأجناسِ التي تُذَكَّرُ
_________
(١) السابق.
(٢) انظر: المفردات (مادة: سبل) ص٣٩٥.
وأصل الاتقاء في لغة العرب (١): معناه أن تجعل بينك وبين الشيء وقاية تمنعك منه. تقول العرب: اتقيت السيوف بِمِجَنِّي، واتقيت الرمضاء بنعلي. فكل ما جعلت بينك وبينه شيئاً يقيك منه فقد اتقيته. وهو معنى معروف في كلام العرب، ومنه قول نابغة ذبيان (٢):
سَقَطَ النَّصيفُ ولم تُرِدْ إِسْقَاطَهُ فَتَنَاولَتْهُ واتَّقَتْنَا بِالْيَدِ
أي: جعلت يدها وقاية دون وجهها لئلا نراه. هذا أصل الاتقاء في لغة العرب.
وهو في اصطلاح الشرع: أن يجعل العبد في دار الدنيا وقاية تقيه من سخط الله وعذابه وعقابه، هذه الوقاية التي تَقِي سخط الله وعذابه، هي امتثال أوامر الله، واجتناب نهي الله. فمن امتثل أمر خالقه واجتنب نهيه فقد اتخذ وقاية تقيه سخطه وعذابه؛ ولذا سمي: الاتقاء.
وهو مراتب كثيرة: منها اتقاء الشرك، واتقاء المحرمات، واتقاء الشبهات خوفاً من الوقوع في الحرام كما هو معروف.
وربما اعتدَّت العرب بأصل (الواو) مبدلاً من (تاء) من غير زيادة شيء، كما قالوا: (تَقَاهُ يتْقيه) والأصل: (وقاه يقيه) فأبدلوه
_________
(١) السابق.
(٢) السابق.
لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ» (١) وتدل على ذلك الآيتان في سورة البقرة وسورة الأنفال؛ لأن الله قال في البقرة: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لله﴾ [البقرة: آية ١٩٣] فقوله: ﴿وَيَكُونَ الدِّينُ لله﴾ معناه: أنه لا يبقى شرك في الأرض؛ لأن الشرك ما دام في الأرض فالدين بعضه للشركاء، وآية الأنفال قوله: ﴿وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله﴾ [الأنفال: آية ٣٩] كما هو ظاهر.
وأطلقت الفتنة في سورة الأنعام على الحُجة في قوله: ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ﴾ وفي القراءة الأخرى: ﴿فتنتَهم﴾ (٢) أي: حجتهم ﴿إِلاَّ أَن قَالُواْ وَالله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: آية ٢٣].
﴿تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء﴾ كما أضللت الذين عبدوا العجل والذين قالوا: ﴿أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً﴾ [البقرة: آية ٥٥] ﴿وَتَهْدِي﴾ بها ﴿مَن تَشَاء﴾ فلا تفتنه.
﴿أَنتَ وَلِيُّنَا﴾ الولي في لغة العرب التي نزل بها القرآن: هو مَنِ انْعَقَدَ بَيْنَكَ وبينه سبب يجعلك تواليه ويواليك (٣)، والله ولي المؤمنين ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ﴾ [المائدة: آية ٥٥] والمؤمنون أولياء الله ﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ (٦٣)﴾ [يونس: الآيتان ٦٢، ٦٣] فهم يوالونه بالطاعة وهو يواليهم بالثواب الجزيل والرحمة والغفران. وهذا معنى قوله: ﴿أَنتَ وَلِيُّنَا﴾.
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥٣) من سورة الأنعام.
(٢) انظر: المبسوط لابن مهران ص١٩٢.
(٣) مضى عند تفسير الآية (٥١) من سورة الأنعام.
وتشريعاته، فلا يقول إلا ما هو في غاية الإِحْكَام، ولا يَفْعَلُ إلا ما هو في غَايَةِ الإِحْكَامِ ولا يأمر إلا بالخَيْرِ، ولا ينهى إلا عَنِ الشَّرِّ، ولا يجازي بالشَّرِّ إلا الشر، ولا بالخير إلا الخير. وكان بعض العلماء يقول: الحكمة هي العلم النافذ الذي يَعْصِمُ الأقْوَالَ والأفْعَالَ أن يَعْتَرِيها الخلل.
وهي في الاصطلاح: إِيقَاعُ الأمور في مَوَاقِعِهَا ووضْعُها في مواضعها (١)، ولا تتم الحكمة إلا بالعلم، فلا تتم الحكمة إلا بتمام العلم، وبقدر ما يكون في العلم مِنَ النَّقْصِ يكون في الحكمة؛ لأنَّكَ تَرَى الحاذِقَ القُلَّب البَصِير يعمل الأمر يظن أنه في غاية الإحكام، وغاية الإتقان، وأنه وضعه في موضعه، وأوْقَعَهُ فِي مَوْقِعِهِ، ثم ينكشف الغيب بعد ذلك أن فيه هلاكه أو ضرراً عظيماً عليه فيندم ويقول: ليتني لم أفعل، ولو فعلت لكان كذا، كما قال (٢):
ليتَ شِعْرِي وأينَ منِّي ليتُ إنَّ (لواً) وإنَّ (ليتاً) عناءُ
وفي الحديث: «إِنَّ (لَوْ) تَفْتَحُ الْباب للشَّيْطانِ» (٣). قال الشاعر (٤):
أُلاَمُ عَلَى (لَوٍّ) وَلَوْ كُنْتُ عَالِماً بِأَذْنَابِ (لَوٍ) لَمْ تَفُتْني أوَائِلُهْ
والله وحده (جل وعلا) لا يجري عليه لو فعلت كذا لكان أصوب؛ لأنه عالم بخفايا الأمور، وما تنكشف عنه الغيوب، وما تجري به الأقْدَار، فلا يجري عليه شيء مِنْ ذلك، فلا يفعل فعلاً إلا وهو في غاية الإِحْكَامِ، ولا عملاً ولا تكليفاً ولا جزاءً إلا هو في غاية الحكمة، والوضع في الموضع، والإيقاع في الموقع؛ ولذا قال: ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ وهذان الوصفان من أسمائه (جل وعلا) من أعظم ما يستدعي الإنسان إلى أن يطيع ربه ولا يعصيه، وأن يَذْكُرَهُ ولا يَنْسَاهُ، فلأن كونه عليماً تعرف به أن علمه المحيط بكل شيء يقتضي أنه لا يدعوك إلا لما لك فيه الخَيْر والعواقب الحسنة الجميلة؛ لأنه يعلم عواقب الأمور، وما تؤول إليه، وما تنكشف عنه الغيوب،
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١٢٨) من سورة الأنعام.
(٢) السابق.
(٣) مضى عند تفسير الآية (٤٩) من هذه السورة.
(٤) مضى عند تفسير الآية (٨٣) من سورة الأنعام.


الصفحة التالية
Icon