الآيةَ، اقْتَرَحُوهَا عِنَادًا لا استرشادًا وطلبًا لِلْهُدَى، مع أنهم جاءهم من الآياتِ ما يَكْفِي، والناسُ عَايَنُوا من معجزاتِه - ﷺ - أشياءَ تُبْهِرُ العقولَ، كَشَقِّ الْقَمَرِ (١).
وتسبيحِ الحصى في يدِه (٢)، وكحنينِ الْجِذْعِ في هذا المسجدِ لَمَّا تَحَوَّلَ عنه إلى المنبرِ، سَمِعُوهُ يحنُّ حنينَ العشارِ، ولم يَسْكُتْ حتى جَاءَهُ - ﷺ - يسكتُه كما تسكتُ الأُمُّ
_________
(١) ما نزل. حديث (٤٩٨١) (٩/ ٣)، وأخرجه في موضع آخر. انظر: حديث رقم: (٧٢٧٤) ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد - ﷺ - إلى جميع الناس، ونسخ الملل بملته. حديث (١٥٢) (١/ ١٣٤).
() قال تعالى: ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ﴾ [القمر: آية ١] وقد روى واقعة انشقاق القمر جماعة من الصحابة منهم:
١ - ابن مسعود عند البخاري، الأحاديث: (٣٦٣٦، ٣٨٦٩، ٣٨٧١، ٤٨٦٤، ٤٨٦٥)، ومسلم، حديث (٢٨٠٠).
٢ - أنس بن مالك. عند البخاري، الأحاديث (٣٦٣٧، ٣٨٦٨، ٤٨٦٧، ٤٨٦٨)، ومسلم، حديث (٢٨٠٢).
٣ - ابن عباس. عند البخاري، الأحاديث (٣٦٣٨، ٣٨٧٠، ٤٨٦٦)، ومسلم، حديث (٢٨٠٣).
٤ - ابن عمر. عند مسلم، حديث (٢٨٠١).
(٢) ذكره البخاري في التاريخ الكبير (٨/ ١٤٤) في ترجمة الوليد بن سويد. وأخرجه البزار كما في كشف الأستار (٣/ ١٣٥ - ١٣٦) حديث (٢٤١٣، ٢٤١٤)، وساق له الدارقطني في العلل (٦/ ٢٤٢) عدة طرق، وعقبه بقوله: «والحديث مضطرب» اهـ كما أخرجه البيهقي في الدلائل (٦/ ٦٤ - ٦٥)، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (٤/ ٨٠٦ - ٨٠٧). والحديث ذكره ابن الجوزي في العلل المتناهية (٢/ ٢٠١ - ٢٠٣)، والهيثمي في المجمع (٥/ ١٧٩، ٨/ ٢٩٩).
قال الحافظ في الفتح (٦/ ٥٩٢): «وأما تسبيح الحصى فليست له إلا هذه الطريق الواحدة مع ضعفها» اهـ.
من عمرٍو» معناه: أنهما مشتركانِ في العلمِ إلا أن هذا يفوقُ هذا فيه، ولا يجوزُ أن تقولَ: «زَيْدٌ أعلمُ من الحمارِ»؛ لأن الحمارَ لاَ يشاركُه في العلمِ. وكذلك قولُه هنا: ﴿أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ لا يشاركُ الناسُ رَبَّهُمْ في علمِ عواقبِ الناسِ، وما يؤولون إليه من ضلالٍ وَهُدًى؛ لأن ذلك لا يعلمُه إلا اللَّهُ؛ ولذلك صيغةُ التفضيلِ هنا بمعنَى الوصفِ، وقد تقررَ في علومِ العربيةِ: أن صيغةَ التفضيلِ تأتِي بمعنَى الوصفِ ليس مُرَادًا بها التفضيلُ، كقولِهم (١): «الناقصُ والأشجُّ أعدلاَ بَنِي أُمَيَّةَ» (٢) أي: هما العادلانِ منهم. وهذا موجودٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ الفرزدقِ (٣):

إِنَّ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاءَ بَنَى لَنَا بَيْتًا دَعَائِمُهُ أَعَزُّ وَأَطْوَلُ
يعنِي: دعائمُه عزيزةٌ طويلةٌ. وقولُ الشَّنْفَرَى (٤):
وِإِنْ مُدَّتِ الأَيْدِي إِلَى الزَّادِ لَمْ أَكُنْ بِأَعْجَلِهِمْ إِذْ أَجْشَعُ الْقَوْمِ أَعْجَلُ
يعنِي: لم أَكُنْ أنا هو العَجِلُ منهم. وكذلك هنا: ﴿أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ﴾ هو الْعَالِمُ مَنْ يَضِلُّ عن سَبِيلِهِ.
واختلفَ علماءُ العربيةِ في إعرابِ (مَنْ) في قولِه هنا: {مَنْ
_________
(١) انظر: الدر المصون (٢/ ١٠)، ضياء السالك (٣/ ١٢٠)، التوضيح والتكميل (٢/ ١٣٣).
(٢) الناقص: هو يزيد بن الوليد بن عبد الملك بن مروان، سُمي بذلك لنقصه أرزاق الجند. والأشج: هو عمر بن عبد العزيز، سُمي بذلك لشجة كانت في وجهه من ضرب دابة. انظر: التوضيح والتكميل (٢/ ١٣٣).
(٣) مضى عند تفسير الآية (٥٨) من هذه السورة.
(٤) البيت في شرح الأشموني (٢/ ٥٥)، التوضيح والتكميل (٢/ ١٣٣).
المسلمين الذين ماتوا مرتكبي الكبائر يدخل بعضهم النار ويُخرجون منها حتى لا يبقى فيها أحدٌ ممن في قلبه مثقال حبة من إيمان، ولهم طبقة؛ لأن للنار سبعة أبواب، لكل باب منهم جزء مقسوم، فإذا خرج الموحدون منها فلا مانع من فناء الطبقة التي كانوا فيها، أما الكفَّار فقد دلت نصوص الوحي العظيمة على أنهم خالدون فيها أبداً خلوداً سرمديّاً لا انقضاء له أبداً. وفي خلودهم الأبدي سؤالات معروفة:
أحدهما أن الله قيده بالمشيئة في سورة الأنعام، وفي سورة هود، حيث قال في سورة الأنعام: ﴿قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ﴾ [الأنعام: آية ١٢٨] وقال في سورة هود: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ﴾ [هود: الآيتان ١٠٦، ١٠٧].
السؤال الثاني: أن الظرف في سورة النبأ -الظرف المُنَكَّر- يدل على المفهوم، وهو قوله: ﴿لاَبِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً (٢٣)﴾ [النبأ: آية ٢٣] فالأحقاب: أزمنة مُنكَّرة يدل على أن لها انقضاء.
السؤال الآخر: سؤال فلسفي بارد، يستدل به الفجرة الملاحدة، يقولون: العقل لا يدرك أن يخلدوا فيها أبداً؛ لأن الله أحكم الحاكمين، وهو ذو عدلٍ وإنصافٍ بالغ، هو الحَكَم العدل (جلّ وعلا)، وهم إنما ارتكبوا المعاصي في الدنيا في أيام محدودة قليلة، فكيف يكون زمن المعصية محدوداً قليلاً وزمن الجزاء لا انقطاع له أبداً؟! قال الملحدون في هذا: لا مناسبة إذاً بين العمل والجزاء، فالعمل في مدةٍ وجيزة، والجزاء لا انقضاء له. فيقول
﴿وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شيئًا﴾ [مريم: آية ٩] فصرح بأن المعدوم ليس بشيء.
والمعتزلة يقولون: إنّ المعدوم يصدق عليه اسم (الشيء) ويتعسفون الاستدلال لذلك من آية من كتاب الله، قالوا: إن الله قال: ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشيء إِذَا أَرَدْنَاهُ﴾ فسماه (شيئًا) قبل أن يريده، وقبل أن يقول له: «كن» وهو في ذلك الحين معدوم. وهذا لا دليل فيه؛ لأنه لما تعلقت إرادة الله به صار كأنه موجود بالفعل؛ لأن المتوقع وجوده كالموجود بالفعل. هذا معنى قوله: ﴿وَسِعَتْ كُلَّ شيء﴾.
يقول بعض المفسرين: إنه لما عمم سعة رحمته لكل شيء أن إبليس طمع ومد عنقه، وأنه لما قال: ﴿فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ أنه يئس ورجع. هكذا يقولون، والله أعلم بصحته (١). ويزعمون أن أهل الكتابين قالوا: نحن ممَّنْ يَتَّقِي. فلمّا جاء بعض الصفات علموا أنها لا تنطبقُ كل الانطباق إلا على هذه الأمة الكريمة المرحومة (٢)؛ ولذا قال: ﴿فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾.
﴿فَسَأَكْتُبُهَا﴾ أجعلها مكتوبة مُقَدَّرَةً مقضيةً لهم، والعرب كل شيء لازم محتوم تسميه مكتوبًا، وهو معروف في لغتهم، ومنه: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾ [البقرة: آية ١٨٣] ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ﴾ [البقرة: آية ١٧٨] لأن (كَتْب الشيء) معناه: جعله لازمًا، وهذا معروفٌ في لغة العرب، ومنه قول الشاعر (٣):
_________
(١) انظر: ابن جرير (١٣/ ١٥٧).
(٢) المصدر السابق (١٣/ ١٦٣).
(٣) البيت في ابن جرير (٣/ ٣٦٥)، المقاييس في اللغة (٥/ ١٥٩).
شيء مما عند المسلمين، وليس لهم على المسلمين من النصر إلا إن استنصروهم على عدو في الدين خاصة كما سيأتي إيضاحه.
الطائفة الثانية: هم الأنصار، أهل المدينة، الذين كانوا قبلهم.
الطائفة الثالثة: هم الذين هاجروا بعد ذلك، فهم مهاجرون وأنصار، وطائفة جاءوا بعد ذلك كما سيأتي تفاصيله وإيضاحه؛ ولذا قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أي: بالله ورسوله وبكل ما يجب به الإيمان ﴿وَهَاجَرُوا﴾ هاجروا أوطانهم وأموالهم وديارهم. والمُهَاجَرَة: هَجْرُ الشَّيْءِ أصْلُهُ المُبَاعَدَةُ مِنْه. وقد هاجروا أولاً إلى الحبشة، وثانياً إلى المدينة. ثم إن هذه الهجرة التي كان بها التَّوَارُث ولا يقبل من أحد إلا أن يفعلها نُسِخَتْ بِفَتْحِ مكة، وقال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيّةٌ» (١).
والتحقيق أن الهِجْرَةَ لا تنقطع أبَداً، إلا أن الهجرة المخصوصة التي كانت إلى النَّبِي ﷺ وأصحابه بالمدينة هي التي انقطعت بفتح مكة لانتشار الإسلام في جزيرة العرب، أما الهجرة التي لا تَنْقَطِعُ فَهِيَ أنَّ كُلَّ إنسان تُعُرِّض له في دينه، وصار لا يقدر على إقامة شعائِرِ دِينِهِ في مَحل فواجب عليه بإجماع العلماء أن ينتقل من هذا المحل، ويبذل في ذلك كل مجهود حتى يَصِلّ إِلَى محل يتمكن فيه مِنْ إِقَامَةِ شَعَائِر دينه، وهذه الهجرة التي لا تَنْقَطِعُ. والمهاجر الحقيقي هو مَنْ
_________
(١) أخرجه مسلم في الإمارة، باب: المبايعة بعد فتح مكة على الإسلام. حديث رقم: (١٨٦٤) (٣/ ١٤٨٨) من حديث عائشة (رضي الله عنها) مرفوعاً. وقد أخرجه البخاري في مناقب الأنصار، باب: هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، حديث رقم: (٣٨٩٩) (٧/ ٢٢٦) موقوفاً على ابن عمر. وأطرافه (٤٣٠٩، ٤٣١٠، ٤٣١١).


الصفحة التالية
Icon