الثالثُ: أن تُزَادَ قبلَ المفعولِ، نحو: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ﴾ [الأنبياء: آية ٢٥] الأصلُ: ما أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رَسُولاً.
فزيدت (من) فَتَحَصَّلَ أن (من) إذا زِيدَتْ قبلَ النكرةِ في سياقِ النفيِ نَقَلَتْهَا من الظهورِ في العمومِ إلى التنصيصِ الصريحِ في العمومِ. وأنها تُزَادُ قبلَ النكرةِ بِاطِّرَادٍ في ثلاثةِ مواضعَ: قَبْلَ المبتدأِ، وقبلَ الفاعلِ، وقبلَ المفعولِ.
وقولُه: ﴿فِي الأَرْضِ﴾ قال بعضُ العلماءِ: إنما خَصَّ دوابَّ الأرضِ دونَ دوابِّ السماءِ - مع أن في السماءِ دَوَابَّ أيضًا، كما قال: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ﴾ [الشورى: آية ٢٩]- لِتَهْوِينِ أَمْرِهِمْ؛ لأنه أَرَادَ أن يُبَيِّنَ - لَمَّا قالَ الكفارُ: ﴿لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ﴾ - أنه لا يُهْمِلُ شيئًا، وهو قائمٌ بمصالحِ دوابِّ الأرضِ التي هي مِنْ أَحْقَرِ الأشياءِ، فكيف يُهْمِلُ مصالحَ الآدَمِيِّينَ (١)!! ولو كان لكم في الآيةِ المقترحةِ فائدةٌ لأَتَاكُمْ بها.
وقال بعضُ العلماءِ: عُبِّرَ لهم بما عَرَفُوا في الأرضِ، وَتُرِكَ غيرُه؛ لأنهم لم يَعْرِفُوهُ، فَأُرِيدَ مخاطبتُهم بِمَا عَلِمُوا (٢).
وقولُه: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ﴾ قال بعضُ العلماءِ: إذا كان الطيرُ نازلاً يَمْشِي في الأرضِ فقد يَصْدُقُ عليه اسمُ (الدابةِ) لِدَبِيبِهِ في الأرضِ، وإذا طارَ في جوِّ السماءِ قابضًا وَصَافًّا لم يَصْدُقْ عليه في ذلك الوصفِ اسمَ الدبيبِ، وإنما يَصْدُقُ عليه أنه يطيرُ بِجَنَاحَيْهِ لاَ يدبُّ بِرِجْلِهِ.
_________
(١) انظر: ابن جرير (١١/ ٣٤٤)، البحر المحيط (٤/ ١١٩).
(٢) انظر: القرطبي (٦/ ٤٢٠).
وأما إذا كان ليس قَبْلَهَا حرفُ عطفٍ فإن الهمزةَ تُحْذَفُ، كقولِه: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا» (١)، «مُرُوهُمْ بِالصَّلاَةِ لِسَبْعٍ، وَاضْرِبُوهُمْ لِعَشْرٍ» (٢).
أما (أَخَذَ) و (أكل) فالأجودُ فيهما حذفُ الهمزةِ في الأمرِ، تقولُ: «خُذْ» وَلاَ تقولُ: «أُخذ» وتقول: «كل» ولا تقول: «ءُأْكل» ورَدُّهُما إلى أصلِهما لغةٌ قليلةٌ.
_________
(١) البخاري في الطلاق، باب قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ... ﴾ الآية. حديث رقم (٥٢٥١، ٥٣٣٣)، (٩/ ٣٤٥)، ومسلم في الطلاق، باب: تحريم طلاق الحائض بغير رضاها. حديث رقم (١٤٧١)، (٢/ ١٠٩٣).
(٢) ورد هذا الحديث مرفوعًا عن ثلاثة من الصحابة، وهم:
١ - سبرة بن معبد (رضي الله عنه) عند ابن أبي شيبة (١/ ٣٤٧)، والدارمي (١/ ٢٧٣)، وأبي داود في الصلاة، باب متى يؤمر الغلام بالصلاة. حديث رقم (٤٩٠)، (١/ ١٦١)، والترمذي في الصلاة، باب: ما جاء: متى يؤمر الصبي بالصلاة. حديث رقم (٤٠٧)، (٢/ ٢٥٩)، وابن خزيمة (٢/ ١٠٢)، والدارقطني (١/ ٢٣٠)، والبيهقي (٢/ ١٤)، (٣/ ٨٣)، والطحاوي في مشكل الآثار (٣/ ٢٣١)، وصحيح ابن خزيمة رقم (١٠٠٢)، وانظر: صحيح أبي داود رقم (٤٦٥)، وصحيح الترمذي رقم (٣٣٤)، ومشكاة المصابيح رقم (٥٧٢)، والإرواء (١/ ٢٦٦).
٢ - عبد الله بن عمرو (رضي الله عنه). عند أحمد (٢/ ١٨٠، ١٨٧)، وابن أبي شيبة (١/ ٣٤٧)، وأبي داود في الصلاة، باب: متى يؤمر الغلام بالصلاة. حديث رقم (٤٩١)، (١/ ١٦٢)، والدارقطني (١/ ٢٣٠)، والحاكم (١/ ١٩٧)، والبيهقي (٣/ ٨٤)، وانظر: صحيح أبي داود رقم (٤٦٦) والمشكاة رقم (٥٧٢)، والإرواء (١/ ٢٦٦).
٣ - أنس بن مالك (رضي الله عنه) عند الدارقطني (١/ ٢٣١)، وفي سنده داود بن المُحبَّر، قال أحمد: لا يدري ما الحديث ا. هـ. وقال ابن المديني: ذهب حديثه، ا. هـ وقال الدارقطني: متروك ا. هـ الميزان (٢/ ٢٠).
ذلك الكفر كامن في قلوبهم لا يزول، ومما يوضحه قوله في الأنفال ﴿وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْراً لاَّسْمَعَهُمْ﴾ (خيراً) نكرة في سياق الشرط، فهي تعم. معناه: أنّ الله لا يعلم في قلوبهم خيراً أبداً في وقتٍ من الأوقات كائناً ما كان، ولا زمن من الأزمان. ثم قال على الفرض: ﴿وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ﴾ [الأنفال: آية ٢٣]. فتبين أن ذلك الشر الذي عصوا به الرسل وتمردوا به على الله دائم لا يزول، فكان جزاؤه دائماً لا يزول، فتطابق الجزاء والعمل؛ ولذا قال تعالى: ﴿جَزَآءً وِفَاقًا (٢٦)﴾ [النبأ: آية ٢٦] أي: جزاءً موافقاً لأعمالهم.
وهذا معنى قوله: ﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [الأعراف: آية ٣٦] أعاذنا الله وإخواننا المسلمين منها.
فعلينا جميعاً في دار الدنيا أن نعمل العمل الذي يجنبنا النار، ونستعيذ بالله منها؛ لأنه لا قدرة لأحد على حر النار. وهذه النار التي هي كَلاَ شَيْءٍ بالنسبة إلى حَرِّ تِلْكَ النَّارِ إذا مسَّك منها لهب شديد، أو وقعت يدك على نارٍ عرفت شدة حرها، وأنك لا تطيق النار العظمى أبداً، كما قال تعالى في نار الدنيا: ﴿نَحنُ جَعَلْناهَا تَذْكِرَةً﴾ [الواقعة: آية ٧٣] فمن صَلِيَ بِحَرِّهَا تَذَكَّرَ نَارَ الآخرة، وعلم أنه لا يطيقها، فعليه أن يتحرَّز منها، ويتباعد عن أسبابها التي تُقرِّب إليها في دار الدنيا ما دامت الفرصة ممكنة. أما الذي يعلم بالنار، وبِحَرِّ النار، وهو في دار الدنيا يعمل عمل النار الذي يؤدي إليها فهذا كالفراشة التي تسقط في النار وتحرق نفسها، لا عقل له ولا تذكُّر. فعلى المسلم أن يعتبر بحرِّ النار وبشدة النار، ويضع يده قريباً من حر
الأخبار والسيرة، ولكن الله نص على ما يدل على هذا في سورة العنكبوت حيث قال تعالى: ﴿وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾ [العنكبوت: آية ٤٨] وهذا معنى (الأمي): الذي لا يقرأ ولا يكتب.
واختلف العلماء في منشأ النسبة إلى الأمي هذه (١)، فقال بعض العلماء: منسوب إلى أمة العرب؛ لأنهم أمةٌ أميون لا يكتبون ولا يحسبون؛ ولذا كانوا يعدون بالحصى؛ لأنهم لا يكتبون ولا يحسبون. (الأمي) أي: من أمة -منسوب إلى أمة- لا تحسب ولا تكتب ولا تقرأ.
قال بعض العلماء: منسوبٌ إلى أم القرى وهي مكة المكرمة حرَسَها الله.
وجماعةٌ من العلماء يقولون: الأمّيّ: الذي لا يقرأ ولا يكتب، منسوب إلى أمِّه؛ لأنه كأنه على الحالة التي ولدته بها أمُّه لم يتعلم بعدها كتابة ولا قراءة. هكذا زعمه بعضهم والله تعالى أعلم.
﴿يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ﴾ [الأعراف: آية ١٥٧].
قوله: ﴿يَجِدُونَهُ﴾ معناه يجدون صفته الكاشفة ونعوته الواضحة مكتوبةً عندهم في التوراة والإنجيل؛ لأن الله بَيَّن صفات هذا النبي الكريم ونعوته الكاشفة التي لا تترك في النبي لبسًا، بَيَّنها في التوراة، وهو الكتاب الذي أنزل على موسى، وبَيَّنها في الإنجيل، وهو الكتاب الذي أنزل على عيسى (عليهم وعلى نبينا صلاة الله وسلامه)، فصفاته موجودةٌ عندهم، حتى إن الله قال عنهم:
_________
(١) انظر: القرطبي (٧/ ٢٩٨)، الدر المصون (٥/ ٤٧٨).
قال بعض العلماء: الولاية المنفيَّة هُنَا هِيَ ولاية الميراث خاصة، وهو مروي عن ابن عباس (١) وجماعة من الصحابة فمَنْ بَعْدَهُمْ.
وقال بعض العلماء: هي جميع الأنواع: الموالاة من الميراث والمعاونة.
والتحقيق: أنها عامة إلا ما استثني منها وهو النصر الديني خاصة؛ لأن الله استثناه بقوله: ﴿وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ﴾ هذا الذي بقي من ولايتهم مع عدم هجرتهم. وهذا معنى قوله: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ﴾ وقد بيَّن عذر المستضعفين وعدم عذر الذين كانوا على قدرة وبقوا بين أظهر الكفار المحاربين للنبي ﷺ حتى يهاجروا.
ثم قال: ﴿وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ﴾ الاستنصار طلب النصر، وقد تقرر في علم العربية: أن من معاني السين والتاء: الطلب. استغفر: طلب المغفرة، واستطعم: طلب الطعام، واستسقى: طلب السقيا، واستنصر: طلب النصر، ﴿وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ﴾ أي: طَلَبُوا نَصْرَكُمْ في الدين.
قوله: ﴿فِي الدِّينِ﴾ يدل على أنهم لو استنصروهم نصر قَوْمِيَّة وعَصَبِيَّة أنهم ليس عليهم أن ينصروهم، وأن المناصرة إنما هي في الدين، فلا مناصرة في العصبيات، ولا في القوميات، ولا في الأراضي الفاسدة، وإنما المناصرة في الله، وفي دين الله (جل وعلا)؛ ولذا قال: ﴿فِي الدِّينِ﴾ والمراد بالدين: دين الإسلام كما قال: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ﴾ [آل عمران: الآية ١٩]
_________
(١) ابن جرير (١٤/ ٧٨) من طريق علي بن أبي طلحة.


الصفحة التالية
Icon