حُشِرَتْ} [التكوير: آية ٥] فلما كانوا أُمَمًا وأجناسًا يَعْرِفُ بعضُها بعضًا، وتُسافِدُ ذُكُورُهَا إِنَاثَهَا فَيَتَنَاسَلُونَ، وهذا أبٌ، وهذا أُمٌّ، والكلُّ مرزوقٌ، يرزقُه رازقٌ، يُدَبِّرُ شؤونَه، وَقَدَّر أرزاقَه، وقَدَّر آجالَه، القَدْرُ الذي يرزقُهم اللَّهُ مُحَدَّدٌ، والقَدْرُ الذي يعيشونَ في الدنيا محددٌ، وأوصافُهم وألوانُهم وغيرُ ذلك، وكلُّ هذا في كتابٍ، والآدميونَ كذلك يحتاجونَ إلى رازقٍ يَرْزُقُهُمْ، ويدبرُ شؤونَهم، يضبطُ آجالَهم وأعمالَهم وأرزاقَهم. من هذه الحيثيةِ صارت هذه أُمَمًا أمثالَنا.
وقد كان لسفيانَ بنِ عُيَيْنَةَ (رحمه الله) في هذه الآيةِ تفسيرٌ مشهورٌ (١) ارتضاه بعضُ العلماءِ، ولا يظهرُ عندنا كُلَّ الظهورِ، كان ابنُ عُيَيْنَةَ (رحمه الله) يقولُ في هذه الآيةِ الكريمةِ: إن اللَّهَ تباركَ وتعالى جعلَ في الآدميين شَبَهًا من أنواعِ البهائمِ، فَجَعَلَ في بعضِهم جراءةَ الأسدِ، وجعلَ في بعضِهم سرعةَ عَدْوِ الذيبِ، وجعلَ في بعضِهم فخرَ الطاووسِ وزهوَه، وجعلَ في بعضهم شَرَهَ الخنزيرِ، وهكذا، وَأَنَّ بَيْنَهُمَا مشابهاتٍ من هذا النوعِ.
وأكثرُ العلماءِ على أنهم إنما كانوا أُمَمًا أمثالنا؛ لأن كُلَّنَا مخلوقٌ مسكينٌ مرزوقٌ يُدَبِّرُ شؤونَه خالقٌ رازقٌ، وأن ذلك الخالقَ الرازقَ قَدَّرَ الأوقات الذي يُوجِدُنَا فيها، والأوقات التي يُمِيتُنَا فيها، والأرزاقَ التي يَرْزُقُنَا فيها، وَقَدَّرَ لِكُلٍّ منا قَدْرَ حياتِه وَرِزْقِه وَأَجَلِه وَقَدَّرَ صفتَه التي يكونُ عليها، ومقدارَه الذي يكونُ عليه، ونحو ذلك.
_________
(١) انظر: القرطبي (٦/ ٤٢٠)، البحر المحيط (٤/ ١٢٠)، شفاء العليل لابن القيم ص٧٧.
وعليه: ﴿فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ﴾ أَيْ: لأَجْلِ كونِكم مؤمنينَ بآياتِي. قال الكوفيونَ: وَمِنْ هذا المعنَى: ﴿فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى (٩)﴾ [الأعلى: آية ٩]، قالوا: مَعْنَاهَا: إِذْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى ذَكِّرْ؛ لأَجْلِ أن الذِّكْرَى تنفعُ. قالوا: وهذا أسلوبٌ عربيٌّ معروفٌ. واستدلوا له من أشعارِ العربِ بقولِ الفرزدقِ- وهو عَرَبِيٌّ فصيحٌ قُحٌّ (١) -:

أتَغْضَبُ إِنْ أُذْنَا قُتَيْبَةَ حُزَّتَا جِهَارًا وَلَمْ تَغْضَبْ لِقَتْلِ ابْنِ خَازِمِ
قالوا: (إِنْ) هنا بمعنَى (إِذْ)، أَتَغْضَبُ إِذْ حُزَّتْ أُذُنَا قتيبةَ. هذا قولُ البصريين؛ ولذا كُلُّهُ أَجْرَوْهُ على سَنَنٍ واحدٍ. «وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ» قالوا: وإنا لاحقونَ إن شاءَ اللَّهُ ذلك. ﴿لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ﴾ [الفتح: آية ٢٧] أي: إِنْ شاءَ اللَّهُ ذلك. وهذا قولُ الكوفيين. وأما البصريونَ فَفَصَلُوا بَيْنَ الأَمْرَيْنِ، قالوا: أما قولُه: ﴿إِنْ كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ (٩١)﴾ فهي أداةُ شرطٍ جِيءَ بها للتهييجِ والإلهابِ؛ لأن مِنْ عَادَةِ العربِ أن يُهَيِّجُوا المُخَاطَبَ، تقولُ للرجلِ: «إِنْ كنتَ ابنَ الكرامِ، ابنَ فلانٍ وفلانٍ، فَافْعَلْ لِي كَذَا». وليس مقصودُك تعليقَ الشرطِ بالجزاءِ، بل مقصودُك تَهْيِيجَهُ وبعثَه للفعلِ، وهذا أسلوبٌ معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ أحدِ أولادِ الخنساءِ الشاعرةِ (٢):
لَسْتُ لِخَنْسَاءَ وَلاَ للأَخْزَمِ وَلاَ لِعَمْرِو ذِي السَّنَاءِ الأَقْدَمِ
إِنْ لَمْ أَرِدْ فِي الْجَيْشِ جَيْشِ الأَعْجَمِي مَاضٍ عَلَى الْهَوْلِ خِضَمٍّ خِضْرِم
_________
(١) البيت في الكتاب لسيبويه (٣/ ١٦١)، مغني اللبيب (١/ ٢٤)، خزانة الأدب (٣/ ٦٥٥)، الدر المصون (٤/ ١٩٣).
(٢) البيتان في الاستيعاب (٤/ ٢٩٧)، الإصابة (٤/ ٢٨٨).
بآيات الله فجحد بها وقال: إنها من السِّحر، أو من الشعر، أو من كلام الكهنة، أو من أساطير الأوّلين، أو أنها عَلَّمَهَا له بَشَرٌ. لا أحد أظلم من هذا وهذا.
ثم قال: ﴿أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ﴾ في قوله: ﴿أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ﴾ المراد بهذا النصيب الذي ينالهم من الكتاب فيه أقوالٌ متقاربة لعلماء التفسير لا يكذِّب بعضها بعضاً (١)، أرجحها: ما دلت عليه القرينة القرآنية، قال بعض العلماء: ﴿يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ﴾ يرجعون إلى ما هم صائرون إليه مما كُتب لهم أزلاً، فمن كُتب له أن يموت على ذلك الشقاء مات عليه، ومن كُتب له أن يتوب تاب.
والتحقيق في معنى هذه الآية: أنَّ معنى ﴿أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ﴾ أنهم ينالهم ما كتب الله لهم في الدنيا مما ينالونه من الخير ومن الشر، من الصحة، والعافية، والرفاهية، والأمراض، والأحزان، والأموال، والرزق، والآجال، حتى يستكملوا في دار الدنيا ما سبق في علم الله أنهم ينالونه من الأرزاق، والنعمة، والعافية، والأولاد، والآجال، وما يصيبهم من الخيرات، والخِصْب، والأموال، وكذلك ما يلاقونه أيضاً من البأساء، والأمراض، والفقر، وتحديد الآجال، حتى إذا انتهى نصيبهم في هذه الدنيا مما كُتب لهم من خير أو شر، ورزق ومال وأجل لا يزالون كذلك ﴿حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا﴾ [الأعراف: آية ٣٧] وعليه فـ (حتى) هذه غائية.
_________
(١) انظر: ابن جرير (١٢/ ٤٠٨)، القرطبي (٧/ ٢٠٣)، ابن كثير (٢/ ٢١٢).
أَكَلْنَا الرُّبى يَا أُمَّ عمروٍ وَمَنْ يَكُنْ لَدَيْكُمْ غَريبًا يأكُلُ الحَشَرَاتِ
أي: لشدة جوعه. وسُئل أعرابي عن جماعته من البدو: ما تأكلون؟ قال: نأكل كل ما دب ودرج إلا أم حُبين. فقال: لِتَهْنِ أم حُبين العافية. وأم حبين دويبة معروفة، يفر الإنسان ويستقذرها إذا رآها. فعلى هذا القول فالاستخباث الطَّبعي من العرب الذين لم تلجئهم ضرورة الجوع قد يكون عنوانًا للتحريم عند بعض العلماء، وهو مذهب الشافعي (رحمه [٢٠/ب] الله) ومن وافقه، قال:/ دلت هذه الآية وأمثالها في القرآن على أن كل ما يستخبثه الطبع العربيُّ السليم الذي لم يَشْتَد جوعه أنه لا يجوز؛ لأنه يصدق عليه اسم الخبيث في لغة العرب التي نزل بها القرآن. والخبائث حَرَّمَهَا اللهُ في كتابه على لسان رسوله، وتحريم هذا النبي الكريم للخبائث من أعلام نبوته (صلوات الله وسلامه عليه)؛ لأنه مكتوبٌ في الكتب السابقة أنه إذا بُعث: من صفاته أنه يحرم الخبائث، فإذا جاء محرمًا لها كان ذلك من معجزاته ومصداقًا لنبوته صلى الله عليه وسلم.
والحاصل أن الذي يستخبثه الطبع السليم العربي كأشياء كثيرة كالخنفساء والحشرات، وما جرى مجرى ذلك، والعقارب والحيات: بعض العلماء يقول: هو حرام لهذه الآية الكريمة، كالشافعي، وأن الذين أجازوا ذلك كمالكٍ وأصحابه قالوا: ليس المراد بالخبث استخباث الطبع، وإنما المراد به ما دَلَّ الشرع على خبْثِهِ كما هو مُقَرَّرٌ في مذاهب الأئمة، وهذا معنى قوله: ﴿وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ﴾.
﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ﴾ قرأ هذا الحرف عامة السبعة غير ابن عامر: ﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ﴾ بكسر الهمزة وإسكان الصاد، وقرأه ابن عامر وحده: {ويضع عنهم آصَارهم والأغلال التي كانت
ثم أتبع ذلك بأن الكفار بعضهم أولياء بعض، ويُؤخذ من هذا -من قطع الولاية أولاً بين الكفار والمؤمنين- أنه لا يرث كافر مسلماً ولا مسلم كافراً؛ لأن الميراث لا بد له من ولاية بين الوارث والموروث، وقد قطع الله الولاية بينهما، وما دل عليه ظاهر هذه الآية الكريمة جاء مصرحاً به في الحديث الصحيح عنه (صلوات الله وسلامه عليه) حيث يقول: «لا يَرِثُ الكَافِرُ المُسْلِمَ وَلاَ المُسْلِمُ الْكَافِرَ» (١) وهذا لا نزاع فيه بين المسلمين، دل عليه عموم هذه الآيات الكريمة، وصرح به النبي صلى الله عليه وسلم. ومن هذه الموالاة قال بعض العلماء (٢): منها ولاية النكاح، فالمرأة المؤمنة لا يلي عقدها أبوها الكافر؛ لأن الله قطع الولاية بين المؤمنين والكافرين، والله يقول: ﴿وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً﴾ [النساء: الآية ١٤١] وقد قدمنا أن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب (٣).
وكذلك قال العلماء: لو كانت كافرة ذمية وأراد مسلم تزويجها ولها ولي ابن عم أو أب من المسلمين فإنه لا يتولى عقد نكاحها ولو للمسلم، لانقطاع الولاية بين الكفار والمسلمين، وإنما يزوجها أقرباؤها من أهل دينها أو أساقفتهم. وشَذَّ في هذه المسألة أصبغ -أحد أصحاب مالك بن أنس رحمه الله- فقال: إن الكافرة إذا كان لها ولي مسلم يزوجها من مسلم، قال: فعقد المسلم لها خير للمسلم
_________
(١) أخرجه البخاري في الفرائض، باب لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم، حديث (٦٧٦٤) (١٢/ ٥٠) ومسلم في الفرائض، في فاتحته، حديث رقم: (١٦١٤) (٣/ ١٢٣٣).
(٢) انظر: القرطبي (٨/ ٥٧).
(٣) راجع ما سبق عند تفسير الآية (٥٧) من سورة الأنعام.


الصفحة التالية
Icon