قال اللَّهُ: ﴿فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ﴾ [محمد: آية ٢٣] وقال: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾ [البقرة: آية ٧] وقال: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً﴾ [الجاثية: آية ٢٣].
وقد قَدَّمْنَا أن هذا الصممَ والعَمَى إنما هو من ذلك الختمِ الذي يضعُ اللَّهُ على قلوبِهم، الذي عُبِّرَ عنه تارةً بـ (الختمِ) في قولِه: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ﴾ [البقرة: آية ٧] وتارةً بـ (الطبعِ): ﴿بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ﴾ [النساء: آية ١٥٥] ﴿كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ﴾ [يونس: آية ٧٤] وعنها تارةً بـ (الرَّانِ): ﴿بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [المطففين: آية ١٤] ومرةً بـ (الأَكِنَّةِ): ﴿إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا﴾ [الكهف: آية ٥٧].
قد بَيَّنَّا وجهَ الجوابِ منه عن حُجَّةِ الجبريةِ (١)؛ لأنهم يقولونَ: «إذا كان اللَّهُ جعلَ على قلبِه الختمَ، وعلى عيونِه [الغشاوةَ] (٢)، وجعلَ عليه الطبعَ والأكنةَ، ومنعَه من الفهمِ والسماعِ إِذَنْ هو مجبورٌ»!! وقد أَجَبْنَا عن هذا: أن الآياتِ القرآنيةَ دَلَّتْ بكثرةٍ: أن ذلك الختمَ والطبعَ إنما يجعلُه اللَّهُ عليهم بعدَ أن بَادَرُوا إلى الكفرِ، وَتَمَرَّدُوا على اللَّهِ، وَكَذَّبُوا رُسُلَهُ وَعَانَدُوا وَلَجُّوا في الباطلِ، فعند هذا يطمسُ اللَّهُ بصائرَهم جزاءً وِفَاقًا، كما قال:
_________
(١) في هذا الموضوع راجع الباب الخامس عشر (في الطبع والختم والغل والسد والغشاوة، والحائل بين الكافر وبين الإيمان، وأن ذلك مجعول للرب تعالى) من كتاب شفاء العليل ص (٨٥).
(٢) في الأصل «وقر» وهو سبق لسان.
عليها، وقالَها إكراهًا وقلبُه مطمئنٌ بالإيمانِ لا يؤاخذُه اللَّهُ بها؛ لأن اللَّهَ قال كما يأتِي في سورةِ النحلِ: ﴿إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ﴾ [النحل: آية ١٠٦] وهذا معنَى قولِه: ﴿إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ﴾.
وقولُه: ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ﴾ قرأه القراءُ (١): ﴿وإن كثيرًا ليَضلونَ﴾ وقرأه الكوفيون (٢): ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ﴾ فعلى قراءةِ ﴿يَضِلُّونَ﴾ فالفعلُ لازمٌ لا مفعولَ له. والمعنَى: أنهم يَضِلُّون ويذهبونَ عن طريقِ الحقِّ. وعلى قراءةِ الكوفيين ﴿يُضلون﴾ فهو متعدٍّ للمفعولِ، والمفعولُ محذوفٌ. والمعنَى: كثيرًا من الناسِ ليُضلون الناسَ عن طريقِ الحقِّ بأهوائهم (٣). وحَذْفُ المفعولِ إذا دَلَّ المقامُ عليه سائغٌ أسلوبٌ عربيٌّ معروفٌ مشهورٌ.
﴿بِأَهْوَائِهِم﴾ الأهواءُ: جمع الهوَى، وأصلُ الهوى: (هَوَيٌ) بواوٍ وياءٍ، اجتمعَ فيه موجبَا إعلالٍ فوقعَ الإعلالُ في الحرفِ الأخيرِ الذي هو الياءُ على القاعدةِ الأغلبيةِ (٤).
وأصلُ (الهوى) في لغةِ العربِ ميلُ النفسِ. وكثيرًا ما يُطْلَقُ على ميلِها إلى ما لاَ ينبغي (٥)، وربما أُطْلِقَ نادرًا على مَيْلِهَا لِمَا ينبغي (٦).
_________
(١) وَهُمْ: نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر.
(٢) وَهُمْ: عاصم، وحمزة، والكسائي. انظر: السبعة ص ٢٦٧.
(٣) انظر: حجة القراءات ص٢٦٩، الدر المصون (٥/ ١٣٠).
(٤) مضى عند تفسير الآية (٥٦) من سورة الأنعام.
(٥) السابق.
(٦) انظر: جامع العلوم والحكم (٢/ ٤٣٨).
لما شهدوا على أنفسهم أنهم كانوا في دار الدنيا كافرين حتى ماتوا على ذلك بيّن جزاءهم فقال إن الله يقول لهم يوم القيامة ما قصَّ هنا، قال الله لهم، أو قالها لهم خازن النار بأمر من الله (جل وعلا). والظاهر أن القائل هو الله؛ لأنه إذا لم يقيد بما يدل على أنه المَلك انصرف إلى أن الله هو الذي أمر بإدخالهم النار؛ لأنهم لا يدخلونها إلا بأمره -جلّ وعلا- قال الله لأولئك الكفار: ﴿ادخُلُواْ﴾ في النار ﴿فِي أُمَمٍ﴾ في جملة أمم، والأمم: هي أجيال الناس المتقدمة مِنَ الكَفَرَةِ. ادخلوا في زمرة أمم ﴿قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ﴾ مضت من قبلكم وماتوا وهم كافرون فدخلوا النار، ادخلوا في زمرتهم في النار -والعياذ بالله- وقوله: ﴿قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ﴾ أي: قد مضت من قبلكم، ومضى زمانها قبل زمانكم. والمعنى: أنه كانت قبلكم في الوجود أمم كافرة فأدخلتها النار، فادخلوا في جملتهم في النار والعياذ بالله.
وقوله: ﴿فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ﴾ قال بعض العلماء (١): ﴿فِي النَّارِ﴾ بدل من قوله: ﴿فِى أُمَمٍ﴾ والظاهر أن الصواب أنها ليست بدلاً منها، وأن المعنى: ادخلوا في جملة أجناسكم من الكفرة، ادخلوا أنتم وهم في النار.
وقوله: ﴿مِّن الْجِنِّ وَالإِنسِ﴾ [الأعراف: آية ٣٨] هذه الأمم التي أدخلت النار بعضها من الجن وبعضها من الإنس، وهذه الآية نص صريح في أن كفرة الجن في النار مع كفرة الإنس كما قدمناه مراراً (٢).
وكون كافر الجن في النار لا خلاف فيه بين العلماء، وإنما
_________
(١) انظر: البحر المحيط (٤/ ٢٩٥)، الدر المصون (٥/ ٣١٢).
(٢) مضى عند تفسير الآية (١٣٠) من سورة الأنعام.
﴿وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ [الأعراف: آية ١٥٨] أمر الله هذه الأمة أن تتبع سيد الخلق (صلوات الله وسلامه عليه) ومعنى اتباعه: هو الاقتداء به فيما جاء به من عقائد وأفعالٍ وأقوال، هذا هو معنى الاتباع. ﴿لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ أي: لأجل أن تهتدوا، أو على رجائكم الهداية باتباعه صلى الله عليه وسلم، وهذا معنى قوله: ﴿وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾.
﴿وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ﴾ [الأعراف: آية ١٥٩] بيّن الله أن قوم موسى -وهم بنو إسرائيل- منهم قوم ﴿يَهْدُونَ بِالْحَقِّ﴾ وهو كتاب الله الذي أنزله على نبيه، يهدون بما فيه من الحق، يأمرون الناس فيه بالخير الذي يرضي الله جل وعلا ﴿وَبِهِ﴾ أي: بذلك الحق الذي هو ضد الباطل ﴿يَعْدِلُونَ﴾ من العدل الذي هو ضد الجور. جرت عادة المفسرين بعضهم يذكر عند هذه الآية الكريمة من سورة الأعراف قصةً غريبةً معروفة عن بعض بني إسرائيل الله أعلم بها (١)، يزعمون أن طائفة من بني إسرائيل آمنوا وثبتوا وأطاعوا الله تمامًا، ولم ينجرفوا مع الذين غَيَّرُوا وبَدَّلُوا وكفروا وعصوا، وسألوا الله أن يثبتهم على ما هم فيه، وأن الله شق لهم نفقًا من الأرض، وأنهم مشوا في ذلك النفق أكثر من سنة، وأنهم خرجوا من وراء بلاد الصين، وأنهم كانوا هناك في بلاد شاسعة وراء بلاد الصين، وأنهم على إيمانهم، يزعمون كثيرًا هذا، ويذكره جماعة منهم عند هذه الآية من سورة الأعراف، والله أعلم بذلك.
وظاهر القرآن: أن الله أثْنَى على قوم موسى أن منهم أمة يأمرون
_________
(١) وهي في ابن جرير (١٣/ ١٧٣).
﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ﴾ الآية [المائدة: الآية ٥٥] إلى غير ذلك من الآيات، فيجب علينا الاقتداء بالنبي ﷺ فنوالي المؤمنين ونلين لهم، ونرفق بهم، ونعَادي الكفار ونكون أشداء عليهم؛ لأن الشدة في محل اللين خرق وحمق، واللين في محل الشدة خور وضعف، والصحيح أن يكون كل شيء في محله، وهذا في موضعه، وهذا في موضعه، كما لا يخفى، وهذا معنى قوله: ﴿إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ﴾ [الأنفال: الآية ٧٣].
﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٧٤)﴾ [الأنفال: الآية ٧٤] [شرع] (١) الله (جل وعلا) وبيّن للمؤمنين أن يكونوا أولياء للمؤمنين، والكفار بيّن أنهم أولياء الكفار، وأثنى على المهاجرين والأنصار؛ لأن بعضهم أولياء بعض، مدح المهاجرين والأنصار وزكاهم وهو المطلع على ضمائرهم وخبايا ما يضمرون، بيّن أن إيمانهم أنه إيمان حق لا شك فيه لا نفاق ولا ضعف، فأثنى عليهم ومدحهم مدحاً عظيماً من رب العالمين، قال: ﴿والَّذِينَءَامَنُواْ﴾ -بالله ورسوله وكل ما يجب به الإيمان- ﴿وَهَاجَرُوا﴾ -أوطانهم وأموالهم وديارهم- ﴿بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ فسرناه.
وهذه الصفات كلها يُقصد بها المهاجرون الذين هاجروا إلى المدينة هذه، وهم النبي ﷺ وأصحابه الذين هاجروا معه رضي الله عنهم.
_________
(١) في هذا الموضع انقطع التسجيل، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.


الصفحة التالية
Icon