وقد بَيَّنَّا فيما مضَى القصةَ التي ذَكَرُوهَا عن عمرِو بنِ عُبَيْدٍ - مع أنه من عظمائِهم الأَجِلاَّءِ عندهم - أنه جاءَه ذلك البدويُّ، وقال له إن حِمَارَتَهُ أو دَابَّتَهُ سُرِقَتْ، وأنه [يطلب منه أن] (١) يدعوَ اللَّهَ له أن يَرُدَّهَا عليه. فقام يدعو ويتقربُ بهذا المذهبِ الباطلِ: اللَّهُمَّ إِنَّ دَابَّتَهُ سُرِقَتْ ولم تُرِدْ سَرِقَتَهَا؛ لأنك أكرمُ وأنزهُ وأجلُّ من أن تُرِيدَ هذه الرذيلةَ القبيحةَ - يعني السرقةَ -!! فالبدويُّ قال له: نَاشَدْتُكَ اللَّهَ يا هذا إلا ما كففتَ عَنِّي من دعائِك الخبيثِ، إن كانت سُرِقَتْ ولم يُرِدْ سرقتَها فقد يريدُ ردَّها ولا تُرَدُّ، ولا ثقةَ لي بِرَبٍّ يُفْعَلُ في مُلْكِهِ أشياءُ ليست في مشيئتِه، فهذا ليس بِرَبٍّ، ولا ثقةَ لِي به، فَاكْفُفْ عَنِّي من دعائكَ الخبيثِ (٢)!!
[٢/ب] فحقيقةُ هذا الأمرِ أن اللَّهَ (جل وعلا) غَنِيٌّ عن الخلائقِ. / ولكنه خَلَقَ الخلقَ، وَجَبَلَ بعضَهم في الأزلِ على القُبحِ والسوءِ، وجبلَ بعضَهم في الأزلِ على الطيبِ والطهارةِ، وَيَسَّرَ كلاًّ لِمَا خلقَه له، والحكمةُ في ذلك: أن يكونَ فيهم مُطِيعُونَ يظهرُ فيهم مظاهرُ بعضِ أسماءِ اللَّهِ وصفاتِه، يظهرُ فيهم من مظهرِ اسمِه: الرحيمِ، الكريمِ، الغفورِ الجوادِ، إلى غيرِ ذلك من صفاتِ الجودِ، والرحمةِ، والمغفرةِ، والكرمِ، كما أنه شاءَ أن يخذلَ قومًا آخرين، فتكون أعمالُهم غيرَ طَيِّبَةٍ؛ ليظهرَ فيهم أيضًا بعض مظاهرِ أسمائِه وصفاتِه من شدةِ البطشِ وقوةِ الانتقامِ، وعظمةِ النكالِ والعقابِ، إلى غيرِ ذلك. واللَّهُ (جل وعلا) إذا خلقهم وأوجدهم يصرفُ قُدَرَهم وإراداتِهم بقدرتِه وإرادتِه إلى ما سَبَقَ به العلمُ الأَزَلِيُّ،
_________
(١) زيادة يقتضيها السياق.
(٢) شرح أصول اعتقاد أهل السنة (٤/ ٧٤٠)، شرح الطحاوية (٣٢٣).
قرأ هذا الحرفَ عامةُ القراءِ ما عدا حَفْصًا عن عاصمٍ: ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا﴾ وقرأه حفصٌ- وحدَه- عن عاصمٍ: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا﴾ بالياءِ التحتيةِ (١).
أما قراءةُ الجمهورِ ففاعلُ الفعلِ ضميرٌ محذوفٌ تقديرُه: نحن. أي: نَحْشُرُهُمْ نحنُ. وصيغةُ الجمعِ في (نحشرهم) وفي (نحن) للتعظيمِ، كقولِه: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ﴾ [الحجر: آية ٩] ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى﴾ [يس: آية ١٢] وهو جل وعلا واحدٌ إلا أنه يُعَبِّرُ عن نفسِه بصيغةِ الجمعِ؛ لأجلِ التعظيمِ والإجلالِ. وعلى قراءةِ حفصٍ: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ﴾ فالفاعلُ ضميرٌ يَرْجِعُ إلى اللَّهِ. (يحشرُهم) هو. أي: اللَّهُ.
وقولُه هنا: ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ﴾ قال بعضُ العلماءِ: هو منصوبٌ بـ (اذْكُرْ) مُقَدَّرًا، أي: اذْكُرْ يومَ نحشرُهم. وقال بعضُ العلماءِ: هو منصوبٌ بالقولِ المحذوفِ الذي دَلَّ عليه المقامُ (٢). والمعنَى: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ﴾ أي: نقولُ: يا معشرَ الجنِّ قد اسْتَكْثَرْتُمْ. نقول ذلك القولَ: ﴿يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا﴾.
والحشرُ في لغةِ العربِ معناه: الجمعُ. وَكُلُّ شيءٍ قد جمعتَه فقد حشرتَه (٣). ومنه قولُ قومِ فرعونَ لفرعونَ: ﴿وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (١١١)﴾ [الأعراف: آية ١١١] ﴿وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (٣٦)﴾ [الشعراء: آية ٣٦] أي: قومًا جامعين، يجمعون السحرة، ويحشرونهم
_________
(١) انظر: السبعة ص٢٦٩، الموضح (١/ ٥٠٣)، النشر (٢/ ٢٦٢).
(٢) انظر: البحر المحيط (٤/ ٢١٩)، الدر المصون (٥/ ١٤٨).
(٣) انظر: القاموس (مادة: الحشر) ص ٤٨٠.
اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ (١٦٦)} [البقرة: آية ١٦٦] فلما تبرأ المتبوعون من الأتباع تمنى عند ذلك الأتباع الرجعة إلى الدنيا ﴿وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً﴾ (لو) هنا تمنياً، يا ليت لنا كرة. أي: رجعة ثانية إلى الدنيا ﴿فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ الله أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾ لما شكا الأتباعُ المتبوعين وقالوا لربهم: هؤلاء أضلونا فضاعف لهم العذاب عذاباً على الضلال وعذاباً على الإضلال.
قال الله مجيباً لهم: ﴿لِكُلٍّ ضِعْفٌ﴾ [الأعراف: آية ٣٩] لكل منكم ومنهم ضِعْف، أما ضعف المتبوعين الرؤساء فلا إشكال في مضاعفة العذاب عليهم؛ لأن ضِعْفاً على ضلالهم، وضِعفاً على إضلالهم؛ لأنهم هم الذين سنوا لهم الضلال «ومَنْ سنَّ سُنة سيئة فعَلَيْهِ وِزْرُها ووِزْرُ مَنْ عَمِلَ بها إلى يوْمِ القِيَامة لا ينقص ذلك مِنْ أوزَارِهِم شَيْئاً» (١) وقد بيّن الله أن رؤساء الضلالة المتبوعين عليهم وزر ضلالهم ووزر إضلالهم في آيات كثيرة كقوله: ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ﴾ [العنكبوت: آية ١٣] وكقوله جل وعلا: ﴿لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ (٢٥)﴾ [النحل: آية ٢٥].
ومضاعفة العذاب على الرؤساء قادة الضلالة لا إشكال فيه ﴿الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ يعني في أنفسهم ﴿وَصَدُّواْ﴾ غيرهم {عَن سَبِيلِ الله
_________
(١) أخرجه مسلم من حديث جرير (رضي الله عنه) في العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة... ، حديت رقم: (١٠١٧)، (٤/ ٢٠٥٩)، وقد أخرجه في موضع قبله (٢/ ٧٠٤، ٧٠٥).
كما أخرج نحوه من حديث أبي هريرة (رضي الله عنه) برقم: (٢٦٧٤).

أَلاَ مَنْ مُبْلِغٌ عَمْرًا رَسُولاً بِأَنِّي عَنْ فُتاحَتِكُم غَنِيٌّ
أي: رسالة. وهذا معنى قوله: ﴿إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ أي: مرسل من الله إليكم أيها الناس جميعًا. فقوله: ﴿جَمِيعًا﴾ يُعْرَبُ حَالاً ويُفسَّر توكيدًا. ﴿إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ﴾ في حال كونكم مجتمعين لم يشذ أحد منكم، بل رسالتي عامة لجميعكم في حال كونها شاملة لكم مجتمعين فيها. هذا معنى قوله: ﴿إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾.
ولما بيّن أنه مرسل من الله ذكر الله (جل وعلا) من صفات هذا الرب المُرسِل ما يدعو خلقه إلى القبول والامتثال، فبين أن هذه الرسالة جاءتكم من عند عظيم العظمة الكاملة، فهو جدير بأن يُطاع فلا يُعصى، وأن يُذكر فلا يُنسى، وألاَّ تكذَّب رسله ولا يُعصى؛ ولذا قال: ﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾.
اختلف علماء العربية والتفسير في موضع قوله: ﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ﴾ من الإعراب (١): فقال قوم: إنه في محل خفض نعتٌ للجلالة في قوله: ﴿إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ﴾ إني رسول الله الذي له ملك السماوات والأرض. قالوا: ولا يضر الفصل بين الصفة والموصوف بقوله: ﴿إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ لأنه معمول المضاف الذي هو ﴿رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ قالوا: وربما حيل بين النعت والمنعوت حتى ولو بأجنبي، كقوله: ﴿وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦)﴾ [الواقعة: آية ٧٦].
وقال قوم: هذه الحيلولة بين الصفة والموصوف لا تُغتفر،
_________
(١) انظر: الدر المصون (٥/ ٤٨٢).
بعض أصحاب النبي ﷺ أنهم ضُلاَّل، منابذون لهدْيِ الله، مخالفون لِكتَاب الله الذي هو آخر الكتب السماوية نزولاً من عند رب العالمين (جل وعلا) وهذا معنى قوله: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾ [الأنفال: الآية ٧٤].
قال بعض العلماء: (حقّاً) مصدر (١)، أي: حق ذلك حقّاً، أي: لما حققوه به من الإيمان والهجرة والجهاد بالنفس والمال في سبيل الله، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الصِّفَاتِ.
﴿لَّهُم مَّغْفِرَةٌ﴾ المغفرة (مَفعلَة) من الغفران، وأصل مادة الغين والفاء والراء (غفر) أصلها معناها الستر والتغطية أيضًا كَمَادَّةِ (الكُفْرِ) لأَنَّ اللهَ يَسْتُرُ بِحِلْمِهِ وفَضْلِهِ ذنوب التائبين إليه حتى لا يظهر لها أثر يتضررون به (٢).
﴿وَرِزْقٌ﴾ هو ما يرزقهم الله في الجنة.
وقوله: ﴿كَرِيمٌ﴾ كل شيء حسن مبالغ في الحسن والجمال تسميه العرب كريماً، وإنما وصف رزقهم بأنه كريم؛ لأن ما في الجنة من الأرزاق كله كريم ﴿كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً﴾ [البقرة: الآية ٢٥] وأرزاق الجنة مبيّنة في القرآن العظيم من مآكلها ومشاربها وغير ذلك. وهذا معنى قوله: ﴿لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ [الأنفال: الآية ٧٤].
_________
(١) انظر: القرطبي (٨/ ٨).
(٢) مضى عند تفسير الآية (١٥٥) من سورة الأعراف.


الصفحة التالية
Icon