قد بَيَّنَّا فيما مَضَى (١) أن فِعْلَ المشيئةِ إذا قُرِنَ بأداةِ شرطٍ حُذِفَ مفعولُه باتفاقٍ؛ لأن جزاءَ الشرطِ يكفي عنه. وتقريرُ المعنى: (مَنْ يَشَأِ اللَّهُ إِضْلاَلَهُ يُضْلِلْهُ، ومن يشأ جَعْلَهُ على صراطٍ مستقيمٍ يجعله على صراطٍ مستقيمٍ).
وهذه الآيةُ الكريمةُ تدلُّ على رَدِّ مذهبِ القدريةِ رَدًّا واضحًا لا شَكَّ فيه؛ لأنه بَيَّنَ أن الضلالَ بمشيئتِه، والهدى بمشيئتِه، فلا يقعُ في الكونِ تحريكةٌ ولا تسكينةٌ إلا بمشيئتِه جل وعلا ﴿وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ [الدهر: آية ٣٠] يعني مَنْ شاء أن يُضله، أي: يُزيغه عن طريقِ الصوابِ.
وقد قَدَّمْنَا فيما مَضَى أن الضلالَ جاء إطلاقُه في القرآنِ وفي لغةِ العربِ على ثلاثةِ أنحاءَ متقاربةٍ (٢).
وبعضُ العلماءِ يحاولُ أن يجعلَ مرجعَها في الأصلِ إلى شيءٍ واحدٍ.
أشهرُها: هو الذهابُ عن طريقِ الجنةِ إلى طريقِ النارِ، وعن طريقِ الْهُدَى - التي جاء بها النبيُّ - إلى طريقِ الكفرِ والمعاصِي التي سَنَّهَا الشيطانُ. وهذا الإطلاقُ هو أشهرُ إطلاقِ أنواعِ الضلالِ، ومنه هذه الآيةُ: ﴿مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ﴾ [الأنعام: آية ٣٩] أي: يُضْلِلْهُ عن طريقِ الحقِّ التي تُدْخِلُهُ الجنةَ إلى طريقِ الضلالِ التي تُدْخِلُهُ النارَ.
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٣٥) من سورة الأنعام.
(٢) انظر: المفردات (مادة: ضل) (٥٠٩)، نزهة الأعين النواظر (٤٠٦)، إصلاح الوجوه والنظائر للدامغاني (٢٩٢)، بصائر ذوي التمييز (٣/ ٤٨١)، أضواء البيان (٣/ ٥٣).
ومعناه التوكيدُ. أي: نحشرُهم في حالِ كونِهم مجتمعين فلم يَشِذَّ منهم أحدٌ.
﴿ثُمَّ نَقُولُ﴾ فَسَّرَهُ بعضُ العلماءِ (١): (يُقال). قال: لأَنَّ اللَّهَ ليس هو القائلَ؛ لأن كفرةَ الإنسِ لا يكلِّمُهم اللَّهُ، لأن اللَّهَ يقولُ عن الكفارِ: ﴿وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ﴾.
والتحقيقُ: أن اللَّهَ يكلمُ الكفارَ كلامَ توبيخٍ وتقريعٍ، الذي هو من جنسِ العذابِ، كقولِه لَمَّا قالوا: ﴿رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (١٠٧) قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ (١٠٨)﴾ [المؤمنون: الآيتان ١٠٧، ١٠٨] لأن هذا التكليمَ لهم ليس تكليمَ تشريفٍ، إنما هو تكليمُ توبيخٍ وتقريعٍ، وهو من أنواعِ عذابِه لهم، ولا مانعَ منه.
يقولُ اللَّهُ ذلك اليومَ مُخَاطِبًا عُتاةَ الشياطين الذين أَضَلُّوا بَنِي آدمَ حتى أَغْوَوْهُمْ وأدخلوهم النارَ: ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ﴾ المَعْشَرُ في لغةِ العربِ (٢): الجماعةُ، كُلُّ جماعةٍ تُسَمَّى مَعْشَرًا، وَيُجْمَعُ على: مَعَاشِرَ. كان بعضُهم يقولُ: لأن بعضَهم يُعاشِرُ بعضًا. وقد يُطْلَقُ المَعْشَرُ على الجماعةِ المتفقين في نِحْلَةٍ أو ناحيةٍ وإن لم يُعَاشِرْ بعضُهم بعضًا، كما في الحديثِ: «إِنَّا مَعَاشِرَ الأَنْبِيَاءِ لاَ نُورَثُ» (٣)
_________
(١) انظر: البحر المحيط (٤/ ٢٢٠)، الدر المصون (٥/ ١٤٨).
(٢) انظر: البحر المحيط (٤/ ٢٢٠)، الدر المصون (٥/ ١٤٨ _١٤٩)، القاموس (مادة: العشرة) ص٥٦٦.
(٣) روى هذا الحديث عن النبي - ﷺ - جماعة من الصحابة بألفاظ متقاربة. وممن رواه منهم:
١ - عمر (رضي الله عنه): عند البخاري في الفرائض، باب: قول النبي - ﷺ - «لاَ نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ» حديث رقم (٦٧٢٨)، (١٢/ ٦)، وأخرجه في مواضع أخرى، انظر الأحاديث: (٢٩٠٤، ٣٠٩٤، ٤٠٣٣، ٤٨٨٥، ٥٣٥٧، ٥٣٥٨، ٧٣٠٥)، ومسلم في الجهاد والسير، باب: حكم الفيء. حديث رقم (١٧٥٧) (٣/ ١٣٧٦).
٢ - عائشة (رضي الله عنها): عند البخاري في فضائل الصحابة باب: مناقب قرابة رسول الله - ﷺ - حديت رقم (٣٧١١_ ٣٧١٢)، (٧/ ٧٧)، وانظر الأحاديث (٦٧٢٥، ٦٧٢٧، ٦٧٣٠)، ومسلم في الجهاد والسير، باب قول النبي - ﷺ -: «لاَ نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ» حديث رقم (١٧٥٩)، (٣/ ١٣٨٠)، وانظر: حديث رقم (١٧٥٨).
٣ - أبو هريرة رضي الله عنه عند البخاري في الوصايا، باب: نفقة القيم للوقف. حديث رقم (٢٧٧٦)، (٥/ ٤٠٦)، وأخرجه في موضعين آخرين، انظر: حديث رقم (٣٠٩٦، ٦٧٢٩)، ومسلم في الجهاد، باب: قول النبي - ﷺ -: «لاَ نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ». حديث رقم (١٧٦٠)، (٣/ ١٣٨٢).
وقد أخرجه أحمد (٢/ ٤٦٣)، بنفس اللفظ الذي أورده الشيخ رحمه الله هنا.
ولكنكم لا تعلمون قدر ما ينالونه من العذاب المهين وشدته وهوله وألمه. وفي قراءة شعبة عن عاصم: ﴿ولكن لا يعلمونَ﴾ ولكن لا يعلم الجميع أن لكل منهم ضِعْفاً من العذاب، كانوا لا يعلمون ذلك، ويوم القيامة سيعلمونه: ﴿وَبَدَا لَهُم مِّنَ الله مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ﴾ [الزمر: آية ٤٧].
وهذه الآيات الكريمة تدل على أن المتبوعين في الضلالة، والأتباع في الضلالة، كلهم - والعياذ بالله - يضاعف لهم العذاب في النار، وهؤلاء الأتباع الذين يدعون على الرؤساء بقولهم: ﴿آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً﴾ [الأحزاب: آية ٦٨] وقوله هنا عنهم: ﴿فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النَّارِ﴾ لو ضاعف الله العذاب على الرؤساء ما كان ذلك ينفع الأتباع بشيء ﴿وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٩)﴾ [الزخرف: آية ٣٩] عذاب هؤلاء لا ينفع هؤلاء (١). وإذا كنتم أيها الناس تعلمون أن القرآن العظيم مصرِّح في آيات كثيرة بالخصومة بين أهل النار، بين الرؤساء والمرؤوسين - الأتباع والمتبوعين - وأنَّ مصير الجميع إلى النار، فاحذروا - رحمكم الله - أن تكونوا من رؤساء الضلالة والقادة إلى النار، واحذروا أن تكونوا من الأتباع الذين يتبعون الناعقين الداعين إلى الضلالة والنار، لئلا تكونوا من الفريقين. والمؤسف - والعياذ بالله - أن كفرة الإفرنج في هذا الزمن قادة وسادة في الضلال، يدعون الناس إلى الكفر والإلحاد في آيات الله، والطعن في الدين بأنه تقاليد قديمة لا فائدة فيها ولا تساير ركب الحضارة، ولا يمكن أن تنظم علاقات العالم بحسب تطورات الدنيا الراهنة.
وكثير من الخفافيش الذين ليس
_________
(١) انظر: الأضواء (٢/ ٣٠٠).
وأن القوانين الوضعية خزي ووبال وكفر على أصحابها، يعطون مُسْتَحَق خالق السماوات والأرض لأجهل خلق الله، وأخسهم وأكفرهم سبحانه (جل وعلا) أن يكون له في حكمه شريك، كما تقدس (تعالى) أن يكون له في عبادته شريك، فحكم الله (جل وعلا) كعبادته، فَكَمَا أنَّ مَنْ أشْرَك به في عبادته كافر به فكذلك مَنْ أشْرَكَ به في حكمه فهو كافر به.
والقرآن بين استوائهما، قال في الإشراك في العبادة: ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: آية ١١٠] وقال في حكمه: ﴿وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ﴾ [الكهف: آية ٢٧] ﴿وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: آية ٢٦] وقرأه ابن عامر من السبعة: ﴿ولا تُشْرِك في حكمه [٢١/ب] أحدًا﴾ (١) / فالحكم لخالق السماوات والأرض، لا تشريع لغيره، لا تحليل إلا لله، ولا تحريم إلا لله، ولا تشريع إلا لخالق السماوات والأرض ﴿قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (٥٩)﴾ [يونس: آية ٥٩] فما جعل (جل وعلا) بين إذنه والافتراء عليه واسطة.
وقد ذكرنا مرارًا (٢) أن هذه الآيات القرآنية تدل على أن الذين يتحاكمون إلى نظم وضعية وقوانين لم يشرعها خالق السماوات والأرض زاعمين أنها هي الكفيلة بتنظيم الحياة، ومسايرة ركب الحضارة، والكفالة للناس بحقوقهم، زاعمين -لطمس بصائرهم وقلة عقولهم- أن نور السَّمَاءِ الذي أنزله خالق السماوات والأرض
_________
(١) مضت عند تفسير الآية (١٠٩) من سورة الأنعام.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٥٧) من سورة الأنعام.
أي: وصدوا الهدي مَعْكُوفاً أن يَبْلُغَ مَحله، وقد نزلت في قفوله من الحديبية سورة الفتح: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً (١)﴾ [الفتح: الآية ١] نزلت في رجوعه من الحديبية كما قاله غير واحد، وقد وقع ما وقع، ولم يزالوا يراسلونه ليردوه عنهم، أرسلوا له عروة بن مسعود سيد ثقيف، ومكرز بن حفص، وسهيل بن عمرو وأضرابهم، حتى انعقد بينه وبينهم الصلح على يد سُهَيْلِ بن عَمْرو على المهادنة عشر سنين، وأغلظوا له في الصلح بأَنَّ مَنْ جَاءَهُ مِنْ قُرَيْش مسلماً رده إليهم، والذي جاء إلى قريش مرتدّاً عن الإسلام لا يردونه، وهذا معروف.
وقد كان النبي ﷺ قَبِلَ لهم هذه الشروط، وكتب وثيقة الصلح بينه وبينهم، وعقدها معه سهيل بن عمرو العامِرِي (رضي الله عنه) -من بني عامر بن فهر من قريش (رضي الله عنهم) - وكان عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) اغْتَاظَ مِنْ تَغْلِيظِ هَذِهِ الشروط، وقال: يا رَسُول الله، ألَسْنَا على الحق؟ ألَسْنَا نحن الذين على الحق؟ كيف نرضى لهم بهذه الدنية؟! وأبو بكر يقول له: استمسك بغرز رَسُول الله ﷺ فهو أعلم منك. وكان هذا الصلح أول الفتح العظيم الذي فتح الله به على المسلمين؛ لأن النبي ﷺ يعلم ما فيه من المصْلَحة؛ لأنه لما وقعت الهجرة والمهادنة، وأمن الناس بعضهم بعضاً صار الصحابة يرجعون إلى قبائلهم ويبثون فيهم الإسلام، فانتشر في الناس دين الإسلام، حتى إن الكفار مكثوا سنتين لم ينقضوا العهد، وقد نقضوا العهد الذي أبْرَمَهُ النبي ﷺ معهم في الحديبية؛ لأن بني بكر كانت بينهم وبين خزاعة دماء وحروب، ودخلت خزاعة في حلف النبي صلى الله عليه وسلم، وبنو بكر في عهد قريش،


الصفحة التالية
Icon