وهذه الآيةُ الكريمةُ تَرُدُّ مذهبَ المعتزلةِ، وتوضحُ أن الهدى والضلالَ كُلُّ ذلك بمشيئةِ اللَّهِ، يُضِلُّ قومًا وله بذلكَ الحكمةُ البالغةُ، وَيَهْدِي آخَرِينَ وله في ذلك الحكمةُ البالغةُ.
اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، فَمَنْ خلقَه اللَّهُ للخيرِ هَدَاهُ إلى ما يُرْضِيهِ، ومن خلقَه للشرِّ - والعياذُ بالله - بعكسِ ذلك؛ ولذا قال: ﴿مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ (الصراط) في لغةِ العربِ: هو الطريقُ الواضحُ (١). فَكُلُّ طريقٍ واضحٍ تُسَمِّيهِ العربُ: (صِرَاطًا). و (المستقيم): هو الذي لا اعوجاجَ فيه (٢). ووزنُه بالميزانِ الصرفيِّ (٣): (مُسْتَفْعِل) وياؤه مُبْدَلَةٌ من واوٍ، أصلُه: (مُسْتَقْوِم) على وزنِ (مُسْتَفْعِل)؛ لأن مادةَ (الاستقامةِ) واويةُ العينِ، وهذا معروفٌ في كلامِ العربِ؛ وذلك أن دينَ الإسلامِ طريقٌ واضحٌ، مَحَجَّةٌ بيضاءُ، تَرَكَهَا نَبِيُّنَا - ﷺ - بما أوضحَ به وَبَيَّنَهَا محجةً بيضاءَ، ليلُها كنهارِها، لا يزيغُ عنها إلا هَالِكٌ.
وقوله: ﴿مُّسْتَقِيمٍ﴾ طريقُ دِينِ الإسلامِ في غايةِ الاستقامةِ، ليس فيه اعوجاجٌ. ومعنى استقامتِه: أن طَرَفَهُ بِيَدِ المسلمين، وَطَرَفهُ الآخَر فِي الجنةِ، إذا ثَبَتُوا عليه استقامَ بهم إلى الجنةِ، فَأَدْخَلَهُمْ إياها من غيرِ أن يعدلَ بهم عنها يَمِينًا ولا شِمَالاً، وإذا تركوه ذَهَبُوا إلى بُنَيَّاتِ الطرقِ.
وقد ضَرَبَ النبيُّ - ﷺ - لهذا مثلاً (٤)، فَخَطَّ ذلك الخطَّ
_________
(١) انظر: القاموس (مادة: سرط) (٨٦٥).
(٢) انظر: ابن جرير (١/ ١٧٠)، المحتسب (١/ ٤٣)، الدر المصون (١/ ٦٤).
(٣) انظر: معجم مفردات الإبدال والإعلال ص (٢٢٧).
(٤) جاء هذا في حديث أخرجه الإمام أحمد في المسند، رقم: (٤١٤٢، ٤٤٣٧) (٦/ ٨٩، ١٩٩) (تحقيق أحمد شاكر)، والحاكم (٢/ ٣١٨) وقال: «هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه» اهـ، وابن جرير في التفسير، رقم: (١٤١٦٨، ١٤١٧٠) (١٢/ ٢٣٠).
وقد أطال ابن كثير في تخريجه وذكر طرقه، انظر: تفسير ابن كثير (٢/ ١٩٠)، والحديث صححه أحمد شاكر (رحمه الله) في تعليقه على المسند، وتفسير ابن جرير، والألباني في تعليقه على كتاب السنة لابن أبي عاصم (١/ ١٣).
ومعنَى عبادتِهم للشيطانِ ليست أنهم سَجَدُوا للشيطانِ، ولاَ ركعوا للشيطانِ، ولا صَامُوا للشيطانِ، ولا حَجُّوا للشيطانِ، وإنما عبادتُهم للشيطانِ: هي اتِّبَاعُهُمْ ما شَرَعَهُ من النُظُمِ على ألسنةِ أوليائِه، كما قَدَّمْنَا في قولِه: ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ﴾ ثم قال: ﴿وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (١٢١)﴾ [الأنعام: آية ١٢١]، فاللَّهُ- مثلاً- يقولُ: إن الميتةَ حرامٌ ﴿وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ [الأنعام: آية ١٢١] فالميتةُ حرامٌ ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ﴾ [البقرة: آية ١٧٣]، هذا من تشريعِ اللَّهِ الذي شَرَعَهُ على لسانِ نَبِيِّهِ.
فيأتي الشيطانُ فَيُشَرِّعُ نظامًا آخرَ غيرَ هذا ويقولُ: ما قَتَلَهُ اللَّهُ بيدِه الكريمةِ بسكينٍ من ذهبٍ أَحَلُّ وَأَكْرَمُ مما قَتَلَهُ الإنسانُ بيدِه؟ فالميتةُ ذبيحةُ اللَّهِ، وهي أَحَلُّ مِنْ ذبيحةِ الناسِ!! فهذا تشريعُ إبليسَ على ألسنةِ أولياءِ إبليسَ، فَصَرَّحَ اللَّهُ بأن مَنِ اتَّبَعَ تشريعَ إبليسَ وقال: بأن الميتةَ حلالٌ: أنه مشركٌ باللَّهِ، وهو قولُه: ﴿وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (١٢١)﴾ [الأنعام: آية ١٢١] وهذا الشركُ باللَّهِ هو عبادةُ الشيطانِ التي نَهَى اللَّهُ عنها في (يس) في قولِه: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ﴾ وليس المرادُ بعبادتِه أنهم يسجدونَ له ويركعونَ، لا؛ وإنما بطاعتِه فيما شَرَعَ، وَاتِّبَاعِهِ في نُظُمِهِ وقوانينِه، ثم بَيَّنَ أن الذين يتبعونَ ذلك من هذا الاستكثارِ المذكورِ في (الأنعام) حيث قال في (يس): ﴿وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيرًا﴾ أي: ومنهم الذين عَبَدُوهُ باتباعِ نظامِه وشرعِه وقانونِه: ﴿أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ﴾ فتتركونَ تشريعَ خالقِ السماواتِ والأرضِ إلى عبادةِ الشيطانِ باتباعِ نظامِه وقانونِه، ثم بَيَّنَ مصيرَ هؤلاء فقال: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٦٣) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٦٤) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ
والأمن والطمأنينة والرفاهية، وانتظمت علاقاتها على أكمل وجه، مع إرضاء خالق السماوات والأرض، والعمل لدار الكرامة والخلود في الجنة في الدار الأخرى.
وإذا نظرتم في القرآن فإنه لا يدعو إلى الإخلاد والضعف والعجز، لا وكلاَّ، بل إنه يدعو إلى التقدُّم والقوة في جميع ميادين الحياة، اقرءوا آية: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ﴾ [الأنفال: آية ٦١] فتجدوا نص هذه الآية الكريمة يأمر بإعداد القوة، وهو مساير للتطور مهما بلغ التطور، ولو مما لا يتصوره الإنسان، فالمتكاسل الذي لا يُعد القوة لرد الكفاح المسلح، وقمع أعداء الله، هو مخالف لنظام القرآن، غير ممتثل أمر الله؛ لأن الله يقول: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ﴾.
وإذا نظرتم في القرآن تجدونه يبين معالم السياسة، ومعالم الاجتماع، ومعالم الاقتصاد على أبدع الوجوه وأكملها في جميع مرافق الحياة.
فالسياسة الخارجية مثلاً يعرف العاقلون بالاستقراء أنها تتركز على أصلين:
أحدهما: إعداد القوة الكافية لرد الكفاح المسلَّح، وقمع الطغاة أعداء الإسلام. وفي هذا الأساس يقول الله: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ﴾ [الأنفال: آية ٦١].
الثاني: اجتماع الكلمة اجتماعاً صحيحاً حقّاً حول كلمة لا إله إلا الله، لا تتخلله عداوات، ولا مباغضات، ولا مداهنة بالكلام جوفاء مع العداوات الباطنة. والله يقول في هذا: ﴿وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُم﴾ [الأنفال: آية ٤٦] {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ الله جَمِيعاً وَلاَ
المحذوف، وما احتجوا به من قراءة نافع وابن عامر (١) في سورة الشورى في قوله: ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ (٣٠)﴾ [الشورى: آية ٣٠] قالوا: لم تكن في قراءة نافع وابن عامر الفاء، بل قرآ: ﴿وما أصابكم من مصيبة بما كسبت أيديكم﴾ وكذلك هو في مصحف عثمان بن عفان الذي بقي عنده بالمدينة ليس فيه فاء ﴿فَبِمَا كَسَبَتْ﴾ وكذلك في المصاحف التي أُرسلت إلى الشام. والتحقيق أن قراءة نافع وابن عامر هذه من السبعة: ﴿وما أصابكم من مصيبة بما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير﴾ لا تدل على خلو جملة الجزاء من الفاء إن كانت لا تصلح أن تكون فعلاً للشرط، بل (ما) من قوله: ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ﴾ على قراءة نافع وابن عامر موصولة لا شرطية. والمعنى: والذي أصابكم من المصائب كائن وواقع بسبب ما كسبت أيديكم. أما على قراءة بقية السبعة: فـ (ما) شرطية؛ ولذلك اقترنت الجملة بالفاء في قراءتهم وفي المصاحف التي أُرسلت إلى أقطارهم.
وهذا الشرك في قوله: ﴿إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: آية ١٢١] أجمع العلماء على أنه شرك أكبر مخرج عن ملة الإسلام؛ لأن من حكَّم تشريع غير الله فقد كفر بالله. وهذا الشرك هو الذي وبخ الله صاحبه ويوبخه على رؤوس الأشهاد في سورة (يس) ويبين مصيره وقراره النهائي -والعياذ بالله- وذلك في قوله: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ﴾ معنى عبادتهم الشيطان: هي اتباع نظامه وتشريعه وقانونه فيما أحل لهم من الكفر والمعاصي لله،
_________
(١) مضت عند تفسير الآية (٣) من سورة الأعراف. وانظر: الأضواء (٧/ ١٧٠).
شأن الهجرة بصلح الحديبية، واتصل المسلمون بالكفار، وانتشر المسلمون في أقطار الجزيرة العربية، وهذا معنى قوله: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ﴾ [الأنفال: الآية ٧٥] قبل فتح مكة وبعد صلح الحديبية، كما قاله بعض العلماء.
﴿فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ﴾ معكم وينالهم الفضل العظيم، وإن كان شرف الأسبقية لا يناله من جاء بعدهم كما قال: ﴿لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا﴾ [الحديد: الآية ١٠].
﴿فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ﴾ أي: هم من جملتكم وإن كان بعضكم أفضل من بعض.
ثم قال تعالى: ﴿وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ﴾ (أولوا الأرحام) معناه: أصحاب الأرحام، وهم ذوو القرابات. و (أولوا) اسم جمع لا واحد له من لفظه، هو يُعرب إعراب الجمع المذكر السالم، يرفع بالواو وينصب ويخفض بالياء، وهو من الأسماء الملازمة للإضافة. والأرحام: جمع رحم، والرحم مؤنثة، وشذ قوم هنا وقالوا: إن المراد بها أرحام العصبات خاصة، وممن نصر هذا القول: أبو عبد الله القُرْطُبِي في تفسيره (١). وهو ليس بصواب، وما استدلوا به في ذلك لا ينهض حجة؛ لأنهم قالوا: إن العرب كثيراً ما تُطلق الرحم على قرابة العصبات دون قرابات غيرهم، قالوا: تقول العرب: وصلتك رحم. يعنون به رحم العصبات لا غيرها. وقالت قتيلة بنت الحارث، أو بنت النضر بن الحارث في رجزها المشهور لما قتل
_________
(١) تفسير القرطبي (٨/ ٨).