خصوصِ خالقِ الكونِ (جل وعلا)، هذا أَمْرٌ مِنْ خَصَائِصِ اللَّهِ، ليس فيه شركٌ لأحدٍ. فَاللَّهُ (جل وعلا) إذا نَزَلَتْ بالناسِ الشِّدَدُ والبلايا والفظائعُ العظامُ فَمَلْجَؤُهُمْ الذي يلجؤون إليه هو خالقُهم (جل وعلا). وَسَيِّدُهُمْ في ذلك وقائدُهم فيه: هو سيدُنا محمدٌ - ﷺ -، كان إذا نَزَلَ به المكروهُ والشدائدُ أَخْلَصَ الالتجاءَ في ذلك الوقتِ لِمَنْ له ذلك الحقُّ الخالصُ، كما قال تعالى: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ﴾ [الأنفال: آية ٩].
وهذا المستغيثُ هو محمدٌ - ﷺ - يَلْتَجِئُ إلى اللَّهِ عندَ الشدةِ لِيُشَرِّعَ ذلك [لأُمَّتِهِ] (١)، ويبينَ لهم أن هذا حقُّ رَبِّهِمْ الخالصُ له وَحْدَهُ.
وقد أوضحَ اللَّهُ هذا المعنى بالسورةِ الكريمةِ - سورةِ النملِ - حيث قال: ﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا تُشْرِكُونَ﴾ [النمل: آية ٥٩] وفي القراءةِ الأُخْرَى: ﴿أَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ (٢) الجواب: اللَّهُ خَيْرٌ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. ثم (٣) قال: ﴿أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلاَلَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ [النمل: آية ٦١] ذَكَرَ في هذه الآياتِ خَلْقَهُ البحرَ والجبالَ وما فَعَلَ من عظائمِ رُبُوبِيَّتِهِ (جل وعلا)، وهذه خصائصُه وحقوقُه الخالصةُ.
ثم قال في
_________
(١) في الأصل: لخلقه.
(٢) قرأ أبو عمرو، وعاصم، ويعقوب بالياء، وقرأ الباقون بالتاء. انظر: المبسوط في القراءات العشر (٣٣٤).
(٣) قبل هذه الآية قوله تعالى: ﴿أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ... ﴾ الآية [النمل: آية ٦٠].
والنبيُّ - ﷺ - قد بَيَّنَ هذا لعديِّ بنِ حاتمٍ رضي اللَّهُ عنه، فإنه لَمَّا قال له: يا نَبِيَّ اللَّهِ: قولُ اللَّهِ تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا﴾ [التوبة: آية ٣١] كيف اتَّخَذُوهُمْ أربابًا؟ فقال: ألم يُحِلُّوا لهم ما حرَّم اللَّهُ، ويُحرِّمُوا عليهم ما أحلَّ اللَّهُ فَاتَّبَعُوهُمْ؟ قال: بلى. قال: بذلك اتَّخَذُوهُمْ أَرْبَابًا (١). وذلك هو عبادتُهم إياهم. فَكُلُّ تشريعٍ غيرِ تشريعِ اللَّهِ، وكلُّ نظامٍ غيرِ نظامِ السماءِ الذي يَمْشِي عليه كأنه يقولُ: تشريعُ خالقِ السماواتِ والأرضِ أفضلُ منه تشريعُ غيرِه!! فهو يُنَزِّلُ درجةَ الخالقِ- جل وعلا، سبحانَه عن ذلك وتعالى عُلُوًّا كبيرًا- إلى أن أوضاعًا مُلَفَّقَةً من أذهانِ الكفرةِ الفجرةِ الخنازيرِ أنه أحسنُ من تشريعِ اللَّهِ!! ولذا يعدلونَ عن نورِ القرآنِ والسنةِ النبويةِ الصحيحةِ إلى ما يسمونَه قانونًا ونظامًا وَضَعَهُ أبناءُ الكلابِ القردةُ الخنازيرُ من اجتهاداتهم، تارةً يُحَرِّمُونَ ما أَحَلَّ اللَّهُ صريحًا، ويحللونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ صريحًا، يزعمونَ أن الهدى في هذا!! هذا- والعياذُ بالله- من أشنعِ الكفرِ والطغيانِ على اللَّهِ والتمردِ على نظامِ السماءِ، واحتقارِ الخالقِ -جل وعلا- حيث كان تشريعُه لا ينفعُ، وتشريعُ غيرِه من سَفَلَةِ الخنازيرِ أحسنَ من تشريعِه!! وهذا إنما وَقَعَ- والعياذُ باللَّهِ- بسببِ طمسِ البصيرةِ؛ لأن نورَ البصيرةِ إذا طُمِسَ من قلبِ الإنسانِ صارَ يرى الباطلَ حَقًّا، والحقَّ باطلاً، والحسنَ قَبِيحًا، والقبيحَ حَسَنًا، والذينَ يعدلونَ عن نورِ اللَّهِ يطلبونَ النورَ في تشريعِ المخلوقين هم في الحقيقةِ- بالكلمةِ التي هي بمعنَى الحرفِ الصحيحِ- هم خفافيشُ البصائرِ، أَعْمَاهُمْ ضوءُ القرآنِ فصاروا يطلبونَ الضياءَ في ظلامِ أفكارِ الكفرةِ الفجرةِ.
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥٧) من سورة الأنعام.
واقرءوا من سورة الأنفال قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا.... (١) [الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ﴾ فقوله: ﴿فَاثْبُتُواْ﴾ تعليم عسكري سماوي، يأمر به خالق السماوات والأرض بالصمود في الميدان في خطوط النار الأمامية. وفي هذا الوقت الضنك يقول الله (جل وعلا): ﴿وَاذْكُرُواْ الله كَثِيراً﴾ [الأنفال: الآية ٤٥] هكذا فليكن المؤمن قويّاً في جميع الميادين، محافظاً على آدابه الروحية، متصلاً بربه صلة روحية؛ لأن الروح المهذبة على ضوء التعليم السماوي تقود المادة والقوة قيادة طبيعية حكيمة ليس بها ويلة على البشر.
[١٧/أ] ثم أنتم تعلمون في التاريخ أنه]، / لمّا حاصرهم الأحزاب في غزوة الخندق ذلك الحصار العسكري التاريخي العظيم، الذي نوَّه الله بشأنه، وذكر هوله وشدته في سورة الأحزاب في قوله: ﴿إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ﴾ أي من الخوف ﴿وَتَظُنُّونَ بِالله الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً (١١)﴾ [الأحزاب: الآيتان ١٠، ١١] هذا ليس زلزال أرض، ولا أن المدينة تزلزلت أرضها وجبالها، ولكنه زلزال خوف وشدة هول من كثرة العدو وإحاطته وقوته، لما جاءهم هذا الأمر العظيم ماذا قابلوا به هذا الأمر العظيم؟! وهم في ذلك الوقت ضعاف في العَدد والعُدد، يقاطعهم جميع أهل الأرض في السياسة والاقتصاد، ليست بينهم روابط سياسية مع أحدٍ من أهل الدنيا في ذلك الحين، ولا روابط اقتصادية، وهو الوقت الذي رؤي فيه ﷺ يشدُّ حزامه على الحجارة من الجوع كما ذكره الأخباريون وأصحاب السير.
في هذا
_________
(١) في هذا الموضع وقع انقطاع في التسجيل، وتم استدراك النقص من كلام الشيخ (رحمه الله) عند تفسير الآية (١١٥) من سورة الأنعام.
القرآنية الدالة على هذا كثيرة؛ ولذا ثبت أن عدي بن حاتم (رضي الله عنه) سأل النبي ﷺ عن قوله: ﴿اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ الله﴾ [التوبة: آية ٣١] كيف اتخذوهم أربابًا من دون الله؟ قال: «ألم يحلوا لهم ما حرم الله، ويحرموا عليهم ما أحل الله؟» قال: بلى. قال: «بذلك اتخذوهم أربابًا» (١) والعياذ بالله. ولذلك بين هنا صفات من يُتبع تشريعه ويُعمل به ليبين للخلق أن التشريع لا يُقبل ولا يُتبع إلا ممن هو أهل لأن يشرع؛ ولذا لما ذكر أنه أرسل هذا النبي الكريم لجميع الناس كافة بيَّن أن الذي أرسله بهذا التشريع وهذه الأوامر والنواهي والحلال والحرام أنه الذي له ملك السماوات والأرض، لا إله إلا هو يحيي ويميت. هذه صفات المشرع الذي يُحَلِّلُ ويُحَرِّمُ، وأما غير مَنْ هذه صفاته فليس له حق في ذلك، فاتباع تشريعه كفر برب العالمين كما أوضحناه مرارًا. وهذا معنى قوله: ﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ لأنه (جل وعلا) هو ملك السماوات والأرض النافذ تصرفه فيها، لا يُسأل فيها عما يفعل، لا معقب لحكمه؛ ولذا كان أمره ونهيه هو اللازم أن يُتبع.
وهذا معنى قوله: ﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾.
وقوله: ﴿لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ﴾ قال بعض العلماء: هو في معنى البدل والبيان من: ﴿لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ لأن المعبود الذي يستحق أن يُفرد بالعبادة وحده هو الذي له ملك السماوات والأرض، الذي يحيي ويميت؛ ولذا قال: ﴿لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ﴾ أي: لا معبود يُعْبَدُ بالحق إلا هو وحده (جل وعلا) وقد ذكرنا مرارًا أن الإله في (٢)
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥٧) من سورة الأنعام.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٣٨) من سورة المائدة.
مكتوب مؤكد تسميه كتاب الله.
[١٠/ب] / وقال بعض العلماء: كتاب الله: هو اللوح المحفوظ لأن الله كتب ذلك في اللوح المحفوظ (١) كما قال تعالى: ﴿وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلاَّ أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً... ﴾ [الأحزاب: الآية ٦] فآية الأحزاب كأنها بَيَّنَتْ آيَةَ الأنفال هذه، وقال بعض العلماء: المراد بكتاب الله: القرآن؛ لأن الله بيّن المواريث في كتاب الله في القرآن في سورة النساء بيّنها بآية الصيف وآية الشتاء، فآية الشتاء هي: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ﴾ [النساء: الآية ١١] إلى آخر الآيات، وآية الصيف هي التي في آخر السورة: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ﴾ [النساء: الآية ١٧٦].
وقد قدمنا (٢) أن الكتاب بمعنى المَكْتُوب، وأن إِتْيَان (الفِعَال) بمعنى (المفْعُول) مسموع في كلام العرب موجود في أوْزَان مَعْرُوفة، كَكِتَاب بمعنى مكتوب، ولباس بمعنى ملبوس، وإله بمعنى مألوه، أي: معبود، وإمام بمعنى مُؤتم به. وقد قَدَّمْنَا (٣) أن مادة الكاف والتاء والباء في لغة العرب (كَتب) أن معنى هذه المادة في اللغة التي نزل بها القرآن معنى (كتب): ضم وجمع، فالكَتْب في لغة العرب معناه: الضم والجمع، وكل شيء ضممته وجمعت بعضه إلى بعض فقد كتبته، ومنه سميت الكتيبة من الجيش؛ لأنها قطعة عظيمة ضُمَّ بعضها إلى بعض، وجُمع بعضها مع بعض،
_________
(١) انظر: ابن جرير (١٤/ ٩٠).
(٢) مضى عند تفسير الآية (٣٨) من سورة الأنعام.
(٣) السابق.


الصفحة التالية
Icon