أن معنَى ﴿وَتَنْسَوْنَ﴾ تَتْرُكُونَهُ عَمْدًا، تنسونَ الشركاءَ، أي: تَتْرُكُونَ دُعَاءَهَا وقتَ الشدةِ عمدًا؛ لِعِلْمِكُمْ بأن الكرباتِ والشدائدَ لا يكشفُها إلا اللَّهُ (جل وعلا)، فتتركونها عمدًا.
والنسيانُ يُطْلَقُ على تركِ الشيءِ عمدًا، كما قال: ﴿فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا﴾ [الأعراف: آية ٥١] معناه: نَتْرُكُهُمْ عَمْدًا كما تَرَكُوا العملَ للقاءِ يومِ القيامةِ عمدًا. وهذا معروفٌ في كلامِ العربِ، أنها تُطْلِقُ النسيانَ على تركِ الفعلِ عمدًا، وتطلقُه على تَرْكِهِ نِسْيَانًا.
الوجهُ الثاني: أنه من شدةِ الهولِ نَسُوا غيرَ اللَّهِ (جل وعلا)، ولم يَخْطُرْ في أذهانِهم إلا اللَّهُ؛ لأنهم عارفونَ أنه لا يكشفُ الكرباتِ إلا هُوَ؛ ولذا قال: ﴿وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ﴾.
[٣/أ] / ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (٤٢) فَلَوْلاَ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٤٣) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (٤٤) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٤٥) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (٤٦) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (٤٧)﴾ [الأنعام: الآيات ٤٢ - ٤٧].
يقول اللَّهُ جل وعلا: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (٤٢) فَلَوْلاَ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٤٣) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ
فيها حوادثُ السرقةِ هي هذه البلادُ - نرجو اللَّهَ أن يوفقَ ولاتِها إلى ما يُحِبُّهُ - وإنما ذلك بفضلِ اللَّهِ ثم بفضلِ قطعِ يدِ السارقِ، وإن الإحصاءاتِ العالميةَ إذا أُحْصِيَتْ تَجِدْ آلافَ حوادثِ السرقةِ بل ملايينها في كلِّ محلٍّ، وأقلُّ ما يُوجَدُ فيه هذا المحلُّ، الذي يُقَامُ فيه هذا الحدُّ من حدودِ اللَّهِ؛ وذلك مما يُبَيِّنُ أن حكمةَ اللَّهِ في تشريعِه هي الحكمةُ الكفيلةُ للمخاليقِ بجميعِ مصالحهم.
ولا يَسَعُنَا في الوقتِ أن نتتبعَ جميعَ هذه التي ينكرونَ فنُظْهِرَ حِكَمَهَا الواضحةَ بفلسفةٍ عقليةٍ لا تَخْفَى على أَحَدٍ، كتعددِ الزوجاتِ، وكتفضيلِ الرجلِ في الميراثِ، وكالرجمِ، وما جرَى مَجْرَى ذلك، فإنها أحكامٌ عادلةٌ في تشريعاتٍ سماويةٍ، وكمسألةِ الرقِّ، إلى غيرِ ذلك من المسائلِ، فهي في الحقيقةِ من أبرزِ المسائلِ وأظهرِها. ومن أشدِّ ما ينكره الفجرةُ على الإسلامِ: مسألةُ الرقِّ، وَهُمْ في الحقيقةِ يرتكبونَ أعظمَ منها!! وَسَنُبَيِّنُ حكمتَها تَنْبِيهًا بها على غيرِها (١).
وإنما أَوْجَبَ الإسلامُ الرقَّ لأن اللَّهَ خَلَقَ هذا الإنسانَ وأمرَه أن يكونَ إعانةً وعضوًا صَالِحًا في المجتمعِ ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (٥٦)﴾ [الذاريات: آية ٥٦] وقد وَضَعَ اللَّهُ نظامًا أرادَ به الخيرَ لِخَلْقِهِ، هو نظامُ السماءِ الذي شرعَه على لسانِ نَبِيِّهِ - ﷺ -، يريدُ للناسِ إذا اتبعته أن يسودَهم العدالةُ والطمأنينةُ والرخاءُ والمساواةُ في الحقوقِ، إلى غيرِ ذلك من أنواعِ الخيرِ، فقامَ الكافرُ واستعملَ جميعَ نِعَمِ اللَّهِ في كُلِّ ما يُسْخِطُ اللَّهَ، وخرجَ على نظامِ السماءِ ليقلبَ الحكمَ السماويَّ إلى غيرِه!! ومعلومٌ أن كُلَّ دولةٍ من هذه الدولِ التي تُنْكِرُ الرقَّ لو أَغْدَقَتِ النِّعَمَ على رجلٍ منها، ثم تَمَرَّدَ عليها وحاولَ إسقاطَ حُكْمِهَا، وقَلْبَ
_________
(١) انظر: الأضواء (٣/ ٤٢٤)، (٧/ ٤١٩).
فعلى كل مسلم ألا يغتر بالشعارات الزائفة، والكلمات المضلة التي تحمل في وسطها الكفر والإلحاد، والتمرد على الله من اسم الحضارة، واسم التمدُّن، واسم التقدم، فإن هذه شعارات هي في حقيقتها المقصودة عند أهلها الذين جاءوا بها تحمل الطعن في الدين، والإلحاد في آيات الله، والكفر بالله، وتحمل كل شر وطغيان فيها والعياذ بالله. فعلى شباب المسلمين أن لا يغتروا بها، ولا يجعلوا الكفرة الفجرة الخنازير سلفهم ومتبوعيهم؛ لئلا يقع بهم ما يقع بالأتباع والمتبوعين من دعاة النار والعياذ بالله، وهذا معنى قوله: ﴿حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِن لاَّ تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: آية ٣٨].
﴿وَقَالَتْ أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ (٣٩)﴾.
لما شكا الأتباع من المتبوعين، وقالوا لربهم: ﴿هَؤُلاء أَضَلُّونَا﴾ قرأ ﴿هؤلاء يضلونا﴾ بإبدال الهمزة الأخيرة ياءً نافِعٌ وابنُ كثير وأبو عمرو، وقرأ الباقون: ﴿هَؤُلاء أَضَلُّونَا﴾ بتحقيق الهمزتين (١). لما قال الأتباع هذا، وشكوا المتبوعين، وسألوا الله أن يضاعف عليهم العذاب، وهم المراد بقوله: ﴿أُخْرَاهُمْ﴾ لأن الأتباع يدخلون النار متأخرين؛ لأن الرؤساء أعظم منهم ذنباً فـ ﴿أُخْرَاهُمْ﴾ في دخول النار، أو ﴿أُخْرَاهُمْ﴾ درجة في الكفر هم الأتباع، و ﴿أُولاَهُمْ﴾ دخولاً في النار، وفي مرتبة الكفر: هم
_________
(١) انظر: إتحاف فضلاء البشر (١/ ١٩٦)، (٢/ ٤٨).
تنفذ كلماته (جل وعلا). والكلام صفته الأزلية التي لم يتجرد عنها يومًا ما، فهو (جل وعلا) متصف بكلامه الأزلي الذي لم يتجرد عنه يومًا ما، وفي كل يوم يتكلم بما شاء كيف شاء على الوجه اللائق بكماله وجلاله سبحانه (جل وعلا) ما أعظم شأنه.
وقوله تعالى: ﴿وَاتَّبِعُوهُ﴾ الضمير المنصوب في قوله: ﴿وَاتَّبِعُوهُ﴾ لهذا النبي الأمي (صلوات الله وسلامه عليه) أمر الله باتباعه؛ لأن اتباعه هو عين طاعة الله جل وعلا ﴿مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ [النساء: آية ٨٠] ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ [آل عمران: آية ٣١].
وقوله: ﴿لعلكم تهتدون﴾ أشهر معاني (لعل) في القرآن عند المفسرين معنيان (١):
أحدهما: أنها لمعنى التعليل، وهو الأنسب هنا. قال بعض علماء العربية: كل (لعل) في القرآن فهي للتعليل إلا التي في سورة الشعراء: ﴿وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (١٢٩)﴾ [الشعراء: آية ١٢٩] قالوا: هي بمعنى: كأنكم تخلدون. وإتيان (لعل) بمعنى التعليل صحيح معروف في كلام العرب، ومنه قول الشاعر (٢):

فقلتُم لنا كُفُّوا الحُروبَ لعلَّنَا نكُفُّ ووثَّقْتُم لنا كُل موثقِ
«كفوا الحروب لعلنا نكف» أي: كفوا لأجل أن نكف.
_________
(١) راجع ما سبق عند تفسير الآية (٥٢) من سورة البقرة.
(٢) السابق.
وأما أصحاب القرابات الذين ذهب إلى مذهبهم أبو حنيفة (رحمه الله) فهم يعملون بالأقرب فالأقرب، قالوا: ما دام أبو الإنسان يوجد شيء من أولاده كأولاد بناته وأبناء بناتهم ونحو ذلك لا يعطى شيء يدلي بجده ويعطى بنو جد دنيه قبل الجد الذي فوقه وهكذا، ولم يزل يُعطى من يدلي بمن هو أقرب ثم من هو أقرب حتى ينتهي الأمر في ذلك. وتفاصيل مذاهبهم معروفة في فروعهم، رحم الله الجميع.


الصفحة التالية
Icon