ومنه بهذا المعنى: ﴿وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ﴾ [الزخرف: آية ٢٣] أي: على شَرْعٍ وَمِلَّةٍ ودينٍ. ومنه بهذا المعنى قولُ نابغةِ ذبيانَ (١):
حَلَفْتُ فَلَمْ أَتْرُكْ لنَفْسِكَ رِيبَةً وَهَلْ يَأْثَمَنْ ذُو أُمَّةٍ وَهْوُ طَائِعُ؟
يعني: أن صاحبَ الدِّينِ والشرعِ لا يأثمُ ويخالفُ دينَه وشرعَه وهو طائعٌ.
والإطلاقُ الخامسُ: - الذي قُلْنَا إنه لو زَادَهُ إنسانٌ لكان غيرَ بعيدٍ (٢) - هو ما جاء في الآيةِ الماضيةِ من إطلاقِ (الأمةِ) على الجنسِ من الحيواناتِ والطيورِ، كما قال تعالى: ﴿وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ﴾ [الأنعام: آية ٣٨] فقد أطلقَ تعالى على كُلِّ نوعٍ من أجناسِ الدوابِّ والطيورِ اسمَ (الأمةِ).
وقولُه هنا: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ﴾ [الأنعام: آية ٤٢] هذه الأممُ هي أممُ بني آدمَ، كما جاء مفصلاً في بعضِ الآياتِ: أَرْسَلَ نوحًا إلى قومِه، وَبَيَّنَ لنا ما قابلوه به، وكذلك فصَّل لنا سيرَ جماعةٍ منهم، كقضيةِ نوحٍ مع قومِه، وهودٍ مع قومِه، وصالحٍ ولوطٍ وشعيبٍ وموسى وهارونَ مع فرعونَ، ونحو ذلك مما بَيَّنَهُ القرآنُ.
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا﴾ أي: أَرْسَلْنَا رُسُلاً ﴿إِلَى أُمَمٍ مِّنْ قَبْلِكَ﴾ أي: من الناس الذين مَضَوْا من قَبْلِكَ، في الزمنِ الماضي، يعني: فَكَذَّبُوا رُسُلَهُمْ؛ لأن اللَّهَ ما أرسلَ رَسُولاً إلى قومٍ إلا كذبوه وأهلكهم اللَّهُ،
_________
(١) ديوان النابغة الذبياني ص (٥٥).
(٢) وهو موجود في نزهة الأعين النواظر ص (١٤٤)، إصلاح الوجوه والنظائر (٤٤).
[الأنعام: آية ١٢٨] ثم إن أولياءَهم من الإنسِ، والمرادُ بأوليائهم: هم الذين كانوا يتبعونَ تشريعَهم في الدنيا، أو يُطَاوِعُونَهُمْ فيما زَيَّنُوا لهم من المعاصِي كالزنى وشربِ الخمرِ، وما جرى مجرَى ذلك. هؤلاء أولياؤُهم؛ لأنهم يُوَالُونَهُمْ، هؤلاء يُوَالُونَهُمْ في التشريعِ، وهؤلاء يوالونهم في الطاعةِ، والفاجرُ وَلِيُّ الفَاجِرِ، والكافرُ وَلِيُّ الْكَافِرِ، والمؤمنُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِ.
﴿وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مِّنَ الإِنْسِ رَبَّنَا﴾ [الأنعام: آية ١٢٨] معناه: يا خَالِقَنَا وَمُدَبِّرَ شُؤُونِنَا، ﴿اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ﴾ [الأنعام: آية ١٢٨] الاستمتاعُ: هو التمتعُ، والتمتعُ في لغةِ العربِ: الانتفاعُ، وقد انتفعَ بعضُنا في دارِ الدنيا من بعضٍ.
﴿وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا﴾ [الأنعام: آية ١٢٨] أما انتفاعُ الإنسِ بالشياطين: فهو أنهم يَدُلُّونَهُمْ على لذاتِ الدنيا الحرامِ، وَيُزَيِّنُونَهَا لهم، فيستمتعونَ بالزنا، والتلذذُ بالنساءِ الجميلاتِ زِنًا، وبشربِ الخمرِ، وبقتلِ الأعداءِ ظُلْمًا، حتى يَتَشَفَّوْا وَيُشْفُوا غيظَهم، ومن جنسِ المظالمِ التي يُزَيِّنُونَهَا لهم ينتفعونَ ويتمتعونَ بها في الدنيا. وأما انتفاعُ الشياطين: فهو أنهم يكونونَ سادةً مُطَاعِينَ؛ لأن لذةَ الطاعةِ والرياسةِ أَمْرٌ عَظِيمٌ، أكثرُ من لذةِ ما ينالُه ذلك. وكان بعضُ العلماءِ (١) يقولُ في انتفاعِ الإنسِ بالجنِّ والجنِّ بالإنسِ: إنه كان قبلَ الإسلامِ إذا نَزَلَ الرجلُ بِوَادٍ في الليلِ وخافَ من الجنِّ قال: أعوذُ بسيدِ هذا الحيِّ من سفهاءِ قومِه. فَيُعِيذُهُ ذلك السيدُ، فينتفعُ الإنسيُّ بأن كبيرَ الشياطين مَنَعَهُمْ من الدنوِّ، وينتفخُ كبيرُ الشياطين
_________
(١) انظر: ابن جرير (١٢/ ١١٦)، القرطبي (٧/ ٨٤)، ابن كثير (٢/ ١٧٦)، البحر المحيط (٤/ ٢٢٠).
ولا تفتح لدعواتهم أبواب السماء لأنها غير مستجابة، ولا تفتح لهم أبواب السماء بالبركات، ولا تفتح أبواب السماء لأرواحهم إذا ماتوا.
وحديث البراء المشهور المعروف عند العلماء يستدل به المفسرون على دخول القول الأخير في الآية؛ لأن حديث البراء المذكور أخرجه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والإمام أحمد، وغير واحد عن البراء: أن النبي ﷺ أنهم خرجوا معه في جنازة أنصاري، وجلس ﷺ قبل أن يُلحد الأنصاري، وأمرهم أن يستعيذوا بالله من عذاب القبر، ثم ذكر لهم حال الميت المسلم والميت الكافر، فقال ﷺ ما حاصله وملخَّصه: إن الإنسان المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال إلى الآخرة نزل إليه من السماء ملائكة بيض الوجوه، كأن وجوههم الشمس، عندهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة، فجلسوا منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت فيجلس عند رأسه ويقول: أيتها النفس المطمئنة، اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، فتسيل نفسه كما تسيل القطرة من فمِ السِّقاء، فإذا سالت أخذها فلم يدعوها في يده طرفة عين، حتى يأخذوها ويجعلوها في ذلك الكفن وذلك الحنوط، فتخرج منها ريح كأحسن ما يكون من نفحة مسك على وجه الأرض، ثم يصعدون بها إلى السماء، كلما مروا بملأ من الملائكة قالوا: ما هذه الروح الطيبة؟ قالوا: هذا فلان بن فلان، بأحسن أسمائه التي كان يُسَمَّى بها في الدنيا. حتى ينتهوا إلى السماء السابعة، فيقول الله (جل وعلا): اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى. فَترد روحه إلى جسده، ويأتيه ملكان فيقعدانه فيقولان له: مَنْ رَبُّكَ؟ فيقول: ربي الله. فيقولان: وما دينك؟
الإطلاق الثاني: إطلاق الأمة على الرجل المقتدى به، كقوله في إبراهيم: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً﴾ [النحل: آية ١٢٠].
الإطلاق الثالث: إطلاق الأمة على القطعة والبرهة من الزمان، ومنه قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ﴾ [يوسف: آية ٤٥] أي: تذكر بعد برهة من الزمان وقطعة من الدهر. وهو بهذا المعنى قوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ﴾ [هود: آية ٨] أي: إلى مدة معينة في علمنا.
الإطلاق الرابع: إطلاق الأمة على الشريعة والدين، وهذا الإطلاق مشهور في القرآن، كقوله: ﴿وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ﴾ [الزخرف: آية ٢٣] أي: على شريعة وملة ودين، ومنه بهذا المعنى قوله: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ [الأنبياء: آية ٩٢] أي: دينكم وشريعتكم شريعة واحدة. وهذا الإطلاق معروف مشهور في كلام العرب، ومنه قول نابغة ذبيان (١):

حَلَفْتُ فَلَمْ أَتْرُك لِنَفْسِكَ رِيبَةً وَهَلْ يَأْثَمَنْ ذُو أمَّةٍ وَهُوَ طَائِعُ
يعني: أن من كان صاحب دين وشريعة لا يرتكب الإثم قاصدًا أبدًا، وهذا يقوله جاهلي، فكيف بالمسلم، فما ينبغي له أن يقول؟! وهذا معنى قوله: ﴿وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾.
﴿يَهْدُونَ بِالْحَقِّ﴾ أي: يهدون الناس بالحق، والمراد بالحق الذي يهدون به الناس: هو شرع الله ودينه الذي أنزله على رسله. ﴿وَبِهِ﴾ أي: بالحق المذكور ﴿يَعْدِلُونَ﴾ يصيبون العدالة
_________
(١) السابق.
فأجابه عثمان (رضي الله عنه) بما معناه: أن النبي ﷺ كان ينزل عليه القرآن، تنزل عليه السور والآيات ذوات العدد فيأمر بعض من يكتب له ويقول:
ضعوا هذا في السورة التي يُذكر فيها كذا، وضعوا كذا في محل كذا، وكانت [«الأنفال من أوائل ما أنزل بالمدينة» وبراءة من آخر القرآن، فكانت قصتها شبيهة بقصتها، فقُبض رَسُول الله ﷺ ولم يبيّن لنا أنها منها، وظنت أنها منها ] (١) كأنهما سورة واحدة، فمن ثم واليت بينهما وجعلت بينهما فصلاً، ولم أكتب بينهما ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ (٢). وهذه السورة الكريمة نزلت عام تسع [وكان النبي ﷺ قد بعث أبا بكر (رضي الله عنه) ليقيم للناس الحج] (٣) وأرسل في أثره علي بن
_________
(١) في هذا الموضع انقطع التسجيل، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام نقلتها من بعض روايات الحديث.
(٢) أخرجه أحمد (١/ ٥٧، ٦٩)، وأبو عبيد في فضائل القرآن (٢/ ١٠٠)، وفي غريب الحديث (٣/ ١٤٧ - ١٤٨)، (٤/ ١٠٤) وأبو داود في الصلاة، باب من جهر بها، رقم: (٧٧١) (٢/ ٤٩٥)، والترمذي في التفسير، باب ومن سورة براءة، رقم: (٣٠٨٦) (٥/ ٢٧٢)، وابن حبان (الإحسان ١/ ١٢٦)، والحاكم (٢/ ٢٢١، ٣٣٠)، والبيهقي في البكرى (٢/ ٤٢)، والدلائل (٧/ ١٥٣)، وابن أبي داود في المصاحف ص٣٩، وابن جرير (١/ ١٠٢)، والطحاوي في شرح المعاني (١/ ٢٠١ - ٢٠٢)، وفي مشكل الآثار (١/ ٣٨)، (٢/ ١٥١ - ١٥٦)، والنحاس في الناسخ والمنسوخ (٢/ ٣٩٦)، وأورده السيوطي في الدر (٣/ ٢٠٧) وعزاه لابن أبي شيبة والنسائي وابن المنذر وأبي الشيخ وابن مردويه. وضعفه أحمد شاكر في تعليقه على: المسند (١/ ٣٢٩)، ابن جرير (١/ ١٠٢).
(٣) في هذا الموضع انقطع التسجيل، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.


الصفحة التالية
Icon