تأنيثًا لَفْظِيًّا، وأكثرُ العلماءِ (١) على أن (البأساءَ): هي ما كان من جهةِ الفقرِ، والفاقةِ والجوعِ وضياعِ الأموالِ. وأن (الضراءَ): هي ما كان من قبيلِ أمراضِ الجسومِ وآلامِها وما يقعُ فيها. والمعنى: أَنَّا ابتليناهم بالضرِّ في أموالِهم وفي أبدانِهم فَأَفْقَرْنَاهُمْ، وأعدمنا أموالَهم، حتى صَارُوا في جوعٍ وفي فقرٍ وفي فاقةٍ اختبرناهم بهذا لِيُنِيبُوا إلى اللَّهِ ويبتهلوا إليه، فلم يَنْفَعْ فيهم هذا الاختبارُ بالشَّرِّ، فلما لم يَنْجَحْ فيهم هذا الاختبارُ بالشَّرِّ ابتليناهم بالخيرِ، وَبَدَّلْنَا عنهم السيئةَ بالحسنةِ، فجعلنا لهم مكانَ المرضِ صحةً وعافيةً، ومكانَ الفقرِ غِنًى، ومكانَ الجوعِ شِبَعًا، فلم يَنْفَعْ فيهم هذا أيضًا. والله (جل وعلا) يبتلي خلقَه بالشرِّ والخيرِ ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ [الأنبياء: آية ٣٥] ﴿وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الأعراف: آية ١٦٨].
وهذه الآيةُ الكريمةُ - من سورةِ الأنعامِ - بَيَّنَتْ أن اللَّهَ إذا أرسلَ رسولاً إلى قومٍ ابْتَلاَهُمْ أولاً بالشدائدِ، فَسَلَّطَ عليهم الفقرَ والجوعَ والفاقةَ فإذا لم يَنْفَعْ فيهم هذا أزالَ عنهم ذلك وأغناهم وصحَّحهم وأغدقَ عليهم نِعَمَ الدنيا، حتى يُهْلِكَهُمْ وهم في غفلةٍ، فِي أَشَدِّ وَقْتٍ غفلةً وَبَطَرًا - والعياذُ بالله - وقد صَرَّحَ تعالى في سورةِ الأعرافِ أن هذا النوعَ من الابتلاءِ - المبدوءَ بالابتلاءِ بالشرِّ ثم الابتلاءِ بالخيرِ - عَامٌّ في جميعِ الأممِ التي أُرْسِلَتْ إليها الرسلُ، وهنا - في الأنعامِ - لم يأتِ بصيغةٍ عَامَّةٍ، وإنما قال: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِّنْ قَبْلِكَ﴾ [الأنعام: آية ٤٢] وقوله: ﴿أُمَمٍ﴾ جَمْعٌ مُنَكَّرٌ.
_________
(١) انظر: ابن جرير (٣/ ٣٤٩ - ٣٥٠)، (٤/ ٢٨٨)، (١١/ ٣٥٤)، القرطبي (٦/ ٤٢٤).

تَنَوَّرْتُهَا مِنْ أَذْرُعَاتٍ وَأَهْلُهَا بِيَثْرِبَ أَدْنَى دَارِهَا نَظَرٌ عَالِ (١)
ولو كانت يائيةَ العينِ لَقَالَ: تَنَيَّرْتُهَا بالياءِ، ولم يَقُلْ: «تَنَوَّرْتُهَا»، (٢) واشتقاقُ النارِ من «نَارَتِ الظبيةُ» إذا ارْتَفَعَتْ جافلةً؛ لأَنَّ عادتَها إذا أُوقِدَتِ الارتفاعُ. ونارُ الآخرةِ- والعياذُ بالله- أَشَدُّ حَرًّا من هذه بِسَبْعِينَ ضِعْفًا.
وقولُه: ﴿مَثْوَاكُمْ﴾ الْمَثْوَى: مكانُ الثَّوَاءِ. والثَّوَاءُ: الإقامةُ على الدوامِ. ومنه قولُه: ﴿وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ﴾ [القصص: آية ٤٥] أي: مُقِيمًا فيهم (٣). وهو معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ الحارثِ بْنِ حِلِّزَةَ (٤):
آذَنَتْنَا بِبَيْنِهَا أَسْمَاءُ رُبَّ ثَاوٍ يُمَلُّ مِنْهُ الثَّوَاءُ
فَالْمَثْوَى: مكانُ الثَّوَاءِ. وهو مفتوحُ الواوِ على القياسِ؛ لأَنَّ المقررَ في فَنِّ التصريفِ أن الفعلَ المعتلَّ اللامِ الثلاثيَّ يبقى مصدرُه الميميُّ، واسمُ مكانِه، واسمُ زمانِه على (المَفْعَل) بفتحِ العينِ. وهذا مُطَّرِدٌ (٥). وَالْمَثْوَى: مكانُ الثَّوَاءِ.
وقولُه: ﴿النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ﴾، ﴿خَالِدِينَ﴾ حالٌ، ويُشْكِلُ العاملُ في الحالِ؛ لأن المَثْوى اسمُ مكانٍ، والمكانُ لا يعملُ في الحالِ.
_________
(١) البيت لامرئ القيس، وهو في ديوانه ص ١٢٤.
(٢) انظر: المفردات (مادة: نور) ص٨٢٨، اللسان (مادة: نور) (٣/ ٧٣٩)، معجم مفردات الإبدال والإعلال ص٢٦٣.
(٣) انظر: ابن جرير (١٢/ ١١٧)، المفردات (مادة: ثوى) ص١٨١.
(٤) شرح القصائد المشهورات (٢/ ٥١).
(٥) انظر: التوضيح والتكميل (٢/ ٨٣). الدر المصون (٣/ ٤٣٦)، معجم مفردات الإبدال والإعلال ص ٧٦.
ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري. ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري. ما هذا الرجل الذي بُعثَ فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري. فينادي مناد من السماء: أن كذب عبدي، فافرشوه من النار، وألبسوه من النار وافتحوا له باباً إلى النار. وفي بعض روايات الحديث: أنه يُسلط عليه أعمى أبكم، عنده مرزبة من حديد لو ضَرب بها جبلاً لبقي تراباً. يضربونه فيصرخ صرخة يسمعها كل الناس إلا الثقلين والعياذ بالله جل وعلا (١). وحديث البراء هذا جاءت بمثله أحاديث تدل على أن السماوات (... ) (٢).
﴿وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ﴾ التحقيق أن المراد بالجمل هنا هو البعير زوج الناقة المعروف. وعن ابن مسعود أنه سأله رجل عن الجمل هنا فاستهجن سؤاله وقال له: الجمل هو زوج الناقة (٣). كأنه يستهجن سؤاله، وأن هذا لا ينبغي أن يُسأل عنه.
والمراد بـ (السَّم) هو الثقب. و (الخِيَاط): الإبرة، والمعنى: أن الجمل -وهو البعير الضخم الكبير- لا يمكن أن تُدخله من ثقب إبرة الخياطة هذه، لا يمكن أن تدخل من وسطها جملاً بعِظَمِه وتفرّق قوائمه. فالجمل لا يدخل في ثقب إبرة أبداً، فهم لا يدخلون الجنة أبداً. فهذا أسلوب عربي معروف، يعلقون الشيء على ما لا يكون، فيدل على أنه لا يكون، فيقولون: لا يقع كذا حتى يقع كذا. فيكون
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٨) من هذه السورة.
(٢) في هذا الموضع وجد انقطاع في التسجيل.
(٣) أخرجه عبد الرزاق في تفسيره (٢/ ٢٩٩)، وسعيد بن منصور (التفسير)، (٩٤٨، ٩٥١)، (٥/ ١٣٨، ١٤١)، وابن جرير (١٢/ ٤٢٨، ٤٢٩)، والدولابي في الكنى (٢/ ١٥١)، والطبراني في الكبير (٨٦٩١، ٨٦٩٢)، (٩/ ١٥١).
بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٥٩)} [الأعراف: آية ١٥٩].
وقد قدمنا في سورة المائدة أن ظاهر القرآن أن هذه الأمة هي الأمة المقتصدة المذكورة في قوله: ﴿مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ﴾ [المائدة: آية ٦٦] وهذه الأمة غاية ما نوَّه الله به عنها أنها مقتصدة، وهذه الأمة الكريمة التي هي أمة محمد ﷺ لمَّا نوَّه عنها وعن كتابها جعل فيها مرتبة أعظم من المقتصدة، وذلك في قوله: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٣٢)﴾ [فاطر: آية ٣٢] فجعل فيهم سابقًا بالخيرات فوق المقتصد، ووعد الجميع ممن أورثوا هذا الكتاب بقوله: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ﴾ الآية [فاطر: آية ٣٣] فآية فاطر هذه تدل دلالة عظيمة واضحة على عظيم هذه الأمة المحمدية، وعلى عظيم نعمة هذا الكتاب والرحمة والنور الذي أنزل الله إليها من السماء على لسان سيد الخلق صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله لما قال: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا﴾ بيّن أن إيراث هذا الكتاب علامة الاصطفاء -وهو الاختيار من الله- ثم قسم هذه الأمة التي اصطفاها الله بإيراث هذا الكتاب إلى ثلاثة أقسام (١): قال: ﴿فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ ثم نوّه عن أن إيراث هذا الكتاب فضلٌ عظيم من الله قال: ﴿ذَلِكَ﴾ أي: إيراثه إياكم ذلك الكتاب ﴿هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾ من الله عليكم.
ثم وعد الجمِيع والأول منهم الظالم لنفسه بوعده الصادق إن الله لا يخلف الميعاد {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١٠٦) من سورة الأنعام.
وبعضهم ينقص، وبعضهم يزيد، والروايات متفقة على أنه أرسله بهذه السورة الكريمة، بشيء منها يؤذن بها في المواسم.
ومضمون ما كان يؤذن به عليٌّ (رضي الله عنه) راجع إلى أربع جمل: إحداها: أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ومن كان له عهد فعهده إلى مُدَّتِهِ.
وكان يؤذن في الناس بهذا. فعلم الكفار أنه لا عهود بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم، ومن العام القابل وهو عام عشر لم يحج البيت كافر، ولم يطف بعدها عريان، فحجّ النبي صلى الله عليه وسلم، ومعنى قوله: ﴿بَرَاءةٌ﴾ البراءة مصدر كالشناءة والدناءة. وإعرابه (١): قال بعض العلماء: هو مبتدأ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ؛ أَيْ: هَذِهِ بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ.
وقال بعض العلماء: لا مانع من كون قوله: ﴿بَرَاءةٌ﴾ مبتدأ، وسوَّغَ الابتداء بالنكرة لأنها وُصفت بقوله: ﴿مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ كما قال (٢):
.............................. ورَجُلٌ من الكِرَامِ عندنَا
وأن قوله: ﴿إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم﴾ خبر المبتدأ، والوجهان من الإعراب كلاهما صحيح، والمعنى: هذه براءة من الله. أو براءة من الله واصلة إلى الذين عاهدتم من المشركين. ولفظة (من) في قوله:
_________
(١) انظر: ابن جرير (١٤/ ٩٥)، الدر المصون (٦/ ٥).
(٢) هذا هو الشطر الثاني من أحد أبيات الخلاصة ص١٧، وشطره الأول:
«وَهَلْ فَتًى فِيكُمْ فَمَا خِلٌّ لَنَا»..........................................


الصفحة التالية
Icon