الثاني: هو (لولا) التحضيضيةُ. ومعنى (لولا) التحضيضيةُ: أن (لولا) حرفٌ يَدُلُّ على طلبِ الفعلِ بِحَثٍّ وَحَضٍّ؛ ولذا سُمِّيَتْ حرفَ تحضيضٍ. وهذه هي التي تنقسم قسمين؛ لأن لها حالتين: تارةً يكون الفعلُ المطلوبُ فيها بحرفِ التحضيضِ - الذي هو (لولا) - تارةً يكونُ مُمْكِنًا تَدَارُكُهُ مُمْكِنًا فِعْلُهُ، وتارةً يكونُ ذلك الفعلُ لم يبقَ فعلُه مُمْكِنًا؛ لأن فرصتَه ضَاعَتْ وَمَضَتْ، ولم يمكن تَدَارُكُهُ. وإذا كان فِعْلُهُ مُمْكِنًا فهي المعروفةُ بالتحضيضيةِ نحو: ﴿مِّنْ قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلاَ أَخَّرْتَنِي﴾ [المنافقون: آية ١٠] (لولا) هنا معناه: أَطْلُبُ مِنْكَ يَا رَبِّ بطلبٍ شديدٍ مُحَضِّض عليه، بِحَثٍّ وَحَضٍّ أن تُؤَخِّرَنِي ﴿إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ... ﴾ الآيةَ.
النوعُ الثاني: - ومنه الآيةُ التي بَيْنَ أَيْدِينَا - هي أن يكونَ الفعلُ المطلوبُ بأداةِ الطلبِ التي هي حرفُ التحضيضِ - أعني (لولا) التحضيضيةَ - يكونُ الفعلُ فاتَ تَدَارُكُهُ ولم يَبْقَ مُمْكِنًا أبدًا. فهي في هذا المعنى ينقلبُ تَحْضِيضُهَا إلى التوبيخِ والتنديمِ، تارةً يُوَبَّخُ بها موجودٌ، كقوله للذين تكلموا في عائشةَ وصفوانَ: ﴿وَلَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ﴾ [النور: آية ١٦] هذا العملُ المطلوبُ بـ (لولا) ضَاعَتْ فرصتُه عليهم؛ لأنهم قد تَكَلَّمُوا بما لا يَلِيقُ، فهي في هذا المعنى ينقلبُ تحضيضُها إلى التوبيخِ والتنديمِ. فكأنه يُوَبِّخُهُمْ وَيُنَدِّمُهُمْ على ما فَرَّطَ منهم. وتارةً يكونُ الْمُوَبَّخُ بها قد مَاتَ ولم يكن موجودًا، كقوله في هذه الآيةِ الكريمةِ: ﴿فَلَوْلاَ إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا﴾ [الأنعام: آية ٤٣] لأن وقتَ نزولِ الآيةِ هؤلاء الأممُ قد ماتوا وَانْقَضَوْا في أزمانٍ متناهيةٍ، قد مَضَوْا في الزمانِ الماضي، فلا يمكنُ حصولُ الفعلِ
أُعِيدُوا فِيهَا} [السجدة: الآية ٢٠] ﴿وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ (٣٧)﴾ [المائدة: الآية ٣٧] وَبَيَّنَ أنهم لاَ يُخَفَّفُ عنهم عَذَابُها قال: ﴿لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (٣٦)﴾ [فاطر: الآية ٣٦] ﴿فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَابًا (٣٠)﴾ [النبأ: الآية ٣٠] إلى غيرِ ذلك مِنَ الآياتِ (١). وهنا سؤالانِ: أحدُهما سؤالٌ على بابِه، سؤالُ إسلامٍ، والثانِي سؤالٌ إلحاديٌّ معروفٌ.
أما السؤالُ الإلحاديُّ المعروفُ فهو أن يقولَ الْمُلْحِدُ: أنتم تقولونَ: إن رَبَّكُمْ في غايةِ العدالةِ والإنصافِ- ونحنُ نقولُ: بلى هو في غايةِ الكمالِ والعدالةِ والإنصافِ- والمعاصِي التي فَعَلَهَا (٢)، والكفرُ الذي كان عليه، كان في أيامٍ معدودةٍ، وجزاءُ النارِ الذي تقولونَ إنه لاَ ينقطعُ في ملايينِ السنينَ، فأينَ العدالةُ والإنصافُ؟ المعصيةُ كان في وقتٍ قليلٍ مُعَيَّنٍ، والجزاءُ بهذا الصنفِ، فأينَ المعادلةُ بينَ العذابِ والذنبِ والجزاءِ، والإنصافُ أن يكونَ العقابُ بقدرِ الفعلِ؟ هذا سؤالٌ إلحاديٌّ معروفٌ، يُدْلِي به هنا كُلُّ مُلْحِدٍ. والجوابُ عن هذا السؤالِ (٣) أن نقولَ: إن اللَّهَ (جل وعلا) بَيَّنَ أن خبثَهم وكفرَهم الذي جُبِلُوا عليه باقٍ دائمٌ لا يزولُ ولو مَرَّتْ عليه ملايينُ السنينَ، فكان جزاؤُه دائمًا لا يزولُ.
ومن الآياتِ الدالةِ على بقائِه أبدًا أنهم لَمَّا عَايَنُوا العذابَ وَرَأَوُا النارَ وَنَدِمُوا على الكفرِ وقالوا: ﴿يا ليتنا نُرَدُّ ولا نكذِّبُ بآياتِ ربنا ونكونُ من المؤمنين﴾
_________
(١) انظر: حادي الأرواح ص ٢٥٤.
(٢) أي: الكافر.
(٣) انظر: كشف الأستار ص ١٢٦.
بالله (١). وهذا معنى قوله: ﴿لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ﴾ [الأعراف: آية ٤١] ثم قال: ﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ﴾ الواضعين العبادة في غير موضعها، كالمشركين والعياذ بالله.
قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٤٢) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا الله لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣) وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ الله عَلَى الظَّالِمِينَ (٤٤) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُم بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ (٤٥) وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (٤٦)﴾ [الأعراف: الآيات ٤٢ - ٤٦].
يقول الله جلّ وعلا: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٤٢) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا الله لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣)﴾ [الأعراف: الآيتان ٤٢، ٤٣].
لما بيَّن (جلّ وعلا) ما أعدَّ للكفار من العذاب الأليم، وأنه يدخلهم جميعهم النار، وأنهم يلعن بعضهم بعضاً -والعياذ بالله- ويطلب الأتباع زيادة مضاعفة العذاب للمتبوعين، لما بين -والعياذ بالله- ما يناله أصحاب النار من العذاب، وهم الكفرة العتاة
_________
(١) انظر: ابن جرير (١٢/ ٤٣٥ - ٤٣٦).
ذلك (١)، ولا طريق صحيحة تثبت ذلك، إلا أن الأظهر أن هؤلاء الاثنتي عشرة أن كل واحدة منهم من سبط من أولاد يعقوب كما تقدم في قوله: ﴿وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا﴾ [المائدة: آية ١٢] لأن كل سبط من هذه الأسباط بعث الله موسى فيه نقيبًا سيدًا يتفقد شؤونه وأحواله؛ لتكون تلك الرجال الاثني عشر يُطلعون موسى على سرائر قومهم فيهون عليه الإصلاح من شؤونهم؛ ولذا قال هنا: ﴿وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا﴾ [الأعراف: آية ١٦٠] فعلى أن (قطعنا) بمعنى (صيرنا) فـ (اثنتى عشرة) هو المفعول الثاني، وعلى أن (قطعنا) بمعنى (ميزنا) بعضهم عن بعض، وفرقنا بعضهم عن بعض؛ لنجعل على كل فرقة منهم نقيبًا، فقوله هنا: ﴿اثْنَتَيْ عَشْرَةَ﴾ هي حال جامدة مؤولة، أي: ميزناهم وفرقناهم في حال كونهم بالغين هذا العدد الذي هو اثنتي عشرة، واختلف العلماء في مميز ﴿اثْنَتَيْ عَشْرَةَ﴾ (٢)
وظاهر القرآن أن مميزه ﴿أَسْبَاطًا﴾ ولكن المعروف في لغة العرب أن العدد كله من الثلاثة إلى العشرة يميز بالجمع مضافًا إليه العدد، أما غيره من الأعداد فإنه يميز بالمفرد التمييز المطابق للعربية المعروفة لو قيل: قطعناهم اثنتي عشرة سبطًا. وذهب بعض العلماء في الجواب عن هذا إلى أن الأسباط هنا جمع سبط مضمَّن معنى القبيلة، وأن الأسباط: القبيلة تكون فيها أسباط كثيرة، وعليه فالمعنى: قطعناهم اثنتي عشرة قبيلة. فالأسباط بمعنى القبيلة. وهذا مردود لما ذكرنا من أن الأسباط
_________
(١) انظر: تاريخ الطبري (١/ ١٦٣)، التفسير له (٣/ ١١١ - ١١٣)، القرطبي (٩/ ١٣٠)، البداية والنهاية (١/ ١٩٥). والذين ذكرهم الشيخ (رحمه الله) أحد عشر. والثاني عشر هو: (لاوي) على اختلاف في ضبط أسمائهم.
(٢) انظر: الدر المصون (٥/ ٤٨٤)..
إن سِيمَ خسْفاً وجْهُهُ تربَّدَا... هُمْ بَيَّتُونا بالوَتِيرِ هُجَّدَا...

وقَتَلُونَا رُكَّعاً وَسُجَّدَا فَانْصُرْ هَدَاكَ اللهُ نَصْراً أَيَّدَا
فقال صلى الله عليه وسلم: «لاَ نُصِرْتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرْكُمْ» (١).
وكان ذلك سبب غزوة [الفتح] (٢). هكذا قالوا إن هذا هو الذي جاءت فيه هذه الآيات، وأن قريشاً وبني الديل من بني بكر بن كنانة نقضوا وبَقِيَتْ قَبَائِل كِنَانَة الآخرين، وهم: بنو جذيمة بن عامر بن عبد مناة، وبنو مُدْلِج، وبنو ضمرة لم ينقضوا العهود كما سيأتي في قوله: ﴿إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً﴾ [التوبة: آية ٧] هكذا قالوا أنها نزلت قبل غزوة الفتح.
والتحقيق أنها ما نزلت إلا بعد غزوة تبوك، وأرسل النبي بها أبا بكر (رضي الله عنه) ينادي في الناس بها، ثم أتبعه علي بن أبي طالب (رضي الله عنه).
ومعنى الآية الكريمة: هذه براءة من الله، أو براءة من الله إلى الذين عاهدتم من المشركين جميعاً. يعني: من كان له منهم عهد أقل من أربعة أشهر، ومن لا عهد له أصلاً، ومن كان له عهد مطلق، ومن له عهد مؤقت إلا أنه خيف منه أن ينقض؛ لأن المُعاهَد من المشركين إذا خيف منه النقض وظهرت منه علامات ذلك وبوادره وجب إعلامه بنبذ العهد إليه ونقض عهده، كما قدمناه في سورة الأنفال في قوله تعالى: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ (٥٨)﴾ [الأنفال: آية ٥٨] فعرفنا أن قوله: {إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥٨) من سورة الأنفال.
(٢) في الأصل: «بدر» وهو سبق لسان.


الصفحة التالية
Icon