عَاتٍ متمردٍ من الإنسِ فهو (شيطانٌ)، كما دَلَّ عليه: ﴿وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ﴾ ﴿شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ﴾ ومنه بهذا المعنى قولُ جريرٍ - وهو عَرَبِيٌّ قُحٌّ - قال (١):
أَيَّامَ يَدْعُونَنِي الشَّيْطَانَ مِنْ غَزَلٍ وَكُنَّ يَهْوَيْنَنِي إِذْ كُنْتُ شَيْطَانَا
ومن إطلاقِ (الشيطانِ) على غيرِ الإنسِ والجنِّ حديثُ: «الْكَلْبُ الأَسْوَدُ شَيْطَانٌ» (٢). وما جَرَى مَجْرَى ذلك. هذا إطلاقُ (الشيطانِ) في لغةِ العربِ، وهو حقيقةٌ عُرْفِيَّةٌ في إبليسَ وذريتِه؛ لأن ذريةَ إبليسَ شياطينُ، يفعلون كما يفعلُ، كما يأتي في قولِه: ﴿أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً﴾ [الكهف: آية ٥٠].
وَاعْلَمْ أن المادةَ التي اشْتُقَّ منها (الشيطانُ) اختلفَ فيها علماءُ العربيةِ على قَوْلَيْنِ (٣)، أشارَ لكلِّ واحدٍ منهما الشيخُ عمرو - أعني
_________
(١) قال ابن كثير بعد أن ساق بعض طرق الحديث: «فهذه طرق لهذا الحديث، ومجموعها يفيد قوته وصحته. والله أعلم» اهـ من التفسير (٢/ ١٦٦) وانظر: في الكلام على سنده: مجمع الزوائد (١/ ١٥٩ - ١٦٠)، الفتح الرباني (١٩/ ٢٩)، تعليق شاكر على ابن جرير (١١/ ٥٣ - ٥٤)، ضعيف سنن النسائي ص ٢٤٢، الجامع لشعب الإيمان (هامش) (٧/ ١٧٨).
() البيت في المقاييس في اللغة، كتاب الشين، باب الشين والطاء وما يثلثهما ص ٥٢٤، القرطبي (١/ ٩٠)، اللسان (مادة: شطن) (٢/ ٣١٧) والمثبت في هذه المصادر: «وهُن يهوينني».
(٢) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الصلاة، باب ما يستر المصلي حديث (٥١٠)، (١/ ٣٦٥).
(٣) انظر: المقاييس في اللغة، كتاب الشين، باب الشين والطاء وما يثلثهما. (مادة: شطن) ص ٥٢٤، وباب الشين والياء وما يثلثهما. (مادة: شيط) ص ٥٤٥، اللسان (مادة: شطن) (٢/ ٣١٧)، (مادة: شيط) (٢/ ٣٨٩)، الدر المصون (١/ ١٠)، معجم مفردات الإبدال والإعلال ص ١٥٣.
﴿وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (٥٨)﴾ [ص: الآيات ٥٥ - ٥٨] وقولُه: ﴿وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (٥٨)﴾ المذكورةُ فِي سورةِ (ص) بَيَّنَتْ أن آيةَ: ﴿لاَبِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (٢٣) لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلاَ شَرَابًا (٢٤) إِلاَّ حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (٢٥) جَزَاءً وِفَاقًا (٢٦)﴾ [عم: الآيات ٢٣ - ٢٦] أنها الأحقابُ المقصورةُ عليها الحميمُ والغساقُ، وأن هنالك أشكالاً وأزواجًا أُخَرَ لا نهايةَ لها، كما قال: ﴿وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ﴾ قال: ﴿هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (٥٧) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (٥٨)﴾. وهذا معنَى قولِه: ﴿قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ﴾.
﴿إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ﴾ الحكيمُ: هو الذي يَضَعُ الأمورَ في مواضعِها، وَيُوقِعُهَا في مواقعِها، فَاللَّهُ لا يضعُ أَمْرًا إلا فِي مَوْضِعِهِ، ولا يُوقِعُهُ إلا في موقعِه، فلاَ يُشَرِّعُ شَرْعًا إلا لمصلحةٍ، ولا يَنْهَى عن شيءٍ إلا وهو ضَارٌّ، ولا يعذبُ إلا مَنْ يَسْتَحِقُّ، ولا يُجَازِي بالخيرِ إلا مَنْ مُجَازَاتُهُ له واقعةٌ مَوْقِعَهَا. فأحكامُه كُلُّهَا عدلٌ وأفعالُه وتشريعاتُه وجزاؤُه.
لا يضعُ الأمرَ إلا في موضعِه، ولا يُوقِعُهُ إلا في موقعِه؛ لأنه حكيمٌ خبيرٌ، والحكمةُ إنما [تتمُّ وتتحققُ] (١) بوصفِ العلمِ، فترى الرجلَ القُلَّبَ الحكيمَ الخبيرَ يفعلُ الأمرَ ويظنُّه سدادًا ثم ينكشفُ الغيبُ عن أن فيه غيرَه، ويقولُ: يَا لَيْتَنِي لم أَفْعَلْ، ولو لم أَفْعَلْ لكانَ خَيْرًا!! كما قال الشاعرُ (٢):

لَيْتَ شِعْرِي وَأَيْنَ مِنِّيَ لَيْتٌ إِنَّ لَيْتًا وَإِنْ لَوًّا عَنَاءُ
_________
(١) في هذا الموضع كلمة غير واضحة. وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.
(٢) البيت لأبي زبيد الطائي، وهو في الشعر والشعراء ص١٩١ وفي الكتاب لسيبويه (٣/ ٢٦١) فتح الباري (١٣/ ٢٢٦).
وقوله: ﴿وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ﴾ أي: آمنت قلوبهم، وظهرت آثار ذلك الإيمان في القلوب على الجوارح، فعملت الجوارح بطاعة الله جل وعلا.
وقوله: ﴿وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ﴾ معناها: عملوا الفعلات الصالحات. والعمل الصالح ضابطه عند العلماء: هو (١) ما استكمل ثلاثة أمور، فكل عمل استكملت فيه هذه الأمور الثلاثة فهو صالح، وكل عمل اختل فيه واحدٌ منها أو أكثر، فهو عمل غير صالح:
الأول من هذه الأمور الثلاثة: أن يكون ذلك العمل مطابقاً لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله لا يقبل التقرُّب إليه بغير ما شرع، فكل مَنْ تَقَرَّبَ إلى الله بعمل لم يشرعه الله على لسان نبيه ﷺ فعَمَلُهُ مَرْدُود عليه، وذلك التقرُّب لا يزيد من الله إلا بُعْداً. فلو قال جاهل مثلاً: إن صلاة الصبح ركعتان، فهي قليلة، فأنا أريد أن أزيد بركعة تقرباً لله، فيجعلها ثلاثاً كالمغرب، فإنها تبطل وتُرد عليه، ويضرب بها وجهه؛ لأنه جاء بها على غير الوجه الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم. فلا يزيد ولا ينقص، فالزيادات على ما شرعه الله بدعوى التقرب هي باطلة. مثالها عند العلماء كالورم، فهو زيادة في العين بأن يكون العضو كبيراً وهو في الحقيقة نقصان؛ لأنه ألمٌ وفَسَادٌ، فالذي ينبغي هو اتباع سُنَّتِهِ ﷺ -كما ينبغي طبق الأصل- من غير أن يزيد وأن لا ينقص. فهذا هو الأول من الأمور الثلاثة، أن يكون مطابقاً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله يقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥٤) من سورة الأنعام.
العرب: هو كل إلقاء جامع بين الخفاء والسرعة تسمية العرب (وحيًا)، فكل من ألقى شيئًا بخفاء وسرعة فهو وحي في كلام العرب؛ ولأجل ذلك كانت العرب تطلق اسم الوحي على الكتابة، وعلى الإشارة، وعلى الإلهام؛ لأن كلاً من هذه إلقاء في سرعة وخفاء. ويطلقون الوحي على الإلهام، ومنه قوله تعالى: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ﴾ [النحل: آية ٦٨] أي: ألهمها. ويطلق الوحي على الإشارة، وهو أصح القولين في قوله عن زكريا: ﴿فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشيًا﴾ [مريم: آية ١١] أي: أشار إليهم.
وتطلق العرب الوحي على الكتابة؛ لأنها معان تُلْقَى بِأَفْعَالٍ سَرِيعَةٍ خُفْيَةً، وإطلاق الوحي على الكتابة إطلاق كثير مشهور في كلام العرب، وكان بعض المفسرين يقول: منه قوله في زكريا: ﴿فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ﴾ أي: كتب لهم، والأظهر: الإشارة، كما يدل عليه قوله: ﴿إِلاَّ رَمْزًا * وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا﴾ [آل عمران: آية ٤١] وإطلاق العرب الوحي على الكتابة مشهور جدًّا في كلامها، كثير جدًّا في أشعارها، ومنه قول لبيد بن ربيعة في معلقته (١):
فَمَدافِعُ الرَّيَانِ عُرِّيَ رَسمُها خَلَقًا كما ضَمِنَ الوُحيَّ سِلاَمُها
الوُحيُّ: جمع وحي، وهو الكتابة، وهو (فَعْلٌ) مجموع على (فُعُول)، كَفَلْس وفلوس، ومنه قول عنترة (٢):
كوحي الصَّحائفِ منْ عهدِ كسرى فأهْدَاهَا لأعْجَمَ طِمْطِمي
_________
(١) شرح القصائد المشهورات (١/ ١٣٠)، والمدافع هنا: الأودية التي يتصل بعضها ببعض، كأن بعضها يدفع السيل إلى بعض. و «الريان» واد. و «عُري»: خلا. و «الرسم»: الأثر. و «خلَقًا»: متجردًا بعد جدته.
(٢) مضى عند تفسير الآية (١١٢) من سورة الأنعام.
الإعراب الوجهان الجائزان في (براءة) (١) يجوز أن يكون (أذان) خبر مبتدأ محذوف، أي: هذا أذان من الله. ويجوز أن يكون (أذان) مبتدأ سوغ الابتداء فيه بالنكرة كونها وُصفت بقوله: ﴿وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾.
والأذان معناه: الإعلام، وهو اسم مصدر (أذَّن) (يؤذّن) (أذاناً)، (وآذن) (يوذن) (أذاناً) والعَرَب ربما جعلت (الفَعَال) قائماً مقام «التفعيل»؛ لأن العرب تقول: آذنته أعلمته، وأذنت أعلمت. ومعروف في علم التصريف أن (فعّل) بالتضعيف ينقاس مصدرها على (التفعيل)، ولكنه يُسمع كثيراً إتيان المصدر منها على (الفَعَال) كما قالوا: سلَّّم عليه سلاماً، أي: تسليماً. وكلّّمه كلاماً، أي: تكليماً. وطلَّقها طلاقاً، وبيَّنَهُ بياناً. إلى غير ذلك من الأوزان. وكذلك ربما جاء (الفعَال) في موضع (الإفعال) كقول العرب: آمنته أؤمِنه إيماناً: إذا جعلته في أمان. فإنهم يقولون: آمنه أماناً، وآذنه أذاناً، أي: أعْلَمَهُ إِعْلاَماً. والأذان في لغة العرب: الإعلام. قال بعض العلماء: هو الإعلام المقترن بنداء؛ لأن اشتقاقه من الأذن، لأن النداء يقع في الآذان فيحصل بذلك الفهم والإعلام، ومنه الأذان للصلاة؛ لأنه إعلام بها بنداء. وكون الأذان بمعنى الإعلام معنى معروف في كلام العرب، ومنه قول الحارث بن حِلّزة (٢):
آذَنَتْنَا بِبَيْنِهَا أَسْمَاءُ رُبَّ ثَاوٍ يُمَلُّ مِنْهُ الثَّوَاءُ
يعني أَعْلَمَتْنَا بِبَيْنِهَا.
_________
(١) انظر: الدر المصون (٦/ ٦).
(٢) مضى عند تفسير الآية (١٢٨) من سورة الأنعام.


الصفحة التالية
Icon