﴿فَتَّحْنَا﴾ بتشديدِ التاءِ (١).
وقولُه: ﴿عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ في هذه الآيةِ الكريمةِ سؤالٌ معروفٌ، وهو أن يقولَ طالبُ العلمِ: كيف قال اللَّهُ: ﴿فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ وهو أصدقُ مَنْ يقولُ، مع أن كثيرًا من الأشياءِ لم تُفْتَحْ عليهم أبوابُه، لم تفتح عليهم أبوابُ الْهُدَى، ولا أبوابُ التوفيقِ، ولا أبوابُ طاعةِ اللَّهِ، ولا أبوابُ خيراتِ الجنةِ. ويصدقُ عليها اسمُ (الشيءِ)؟
وللعلماءِ عن هذا جَوَابَانِ (٢):
أحدُهما: ما قاله بعضُ العلماءِ أن المعنَى: فَتَحْنَا عليهم أبوابَ كُلِّ شيءٍ مما كُنَّا أَغْلَقْنَاهُ عليهم أيامَ الابتلاءِ بالشرِّ. يعني فتحنا لهم أبوابَ الصحةِ وقد كانت مغلقةً أيامَ المرضِ، وَفَتَحْنَا لهم أبوابَ الغِنَى بعدَ أن كانت مغلقةً أيامَ الامتحانِ بالشرِّ وهكذا.
الوجهُ الثاني: أن هذا من العامِّ المخصوصِ، وَجَرَتِ العادةُ في القرآنِ بأن يذكرَ اللَّهُ (كُلَّ شيءٍ) وهو يُرَادُ به أنه عامٌّ مخصوصٌ. كقولِه في بلقيسَ: ﴿وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [النمل: آية ٢٣] مع أن بعضَ الأشياءِ لم تُؤْتَه بلقيسُ. وكقوله في مكةَ المكرمةِ حَرَسَهَا اللَّهُ: ﴿حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [القصص: آية ٥٧] مع أن بعضَ الثمارِ لا يُجْبَى إليها. فهذا من العامِّ المخصوصِ، وهو أسلوبٌ عربيٌّ معروفٌ، وَتَذْكُرُ العربُ مثلَ هذا تقصدُ به الأغلبيةَ. وهذا معنى قولِه: ﴿فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ﴾.
_________
(١) انظر: المبسوط لابن مهران ص ١٩٤.
(٢) انظر: ابن جرير (١١/ ٣٥٨)، القرطبي (٦/ ٤٢٦)، الموافقات (٣/ ٢٦٨ - ٢٨٦)، قواعد التفسير ص ٦٠٨.
أي: نَجْعَلُ بعضَهم أولياءَ بعضٍ، فالكافرُ وَلِيُّ الكافرِ حيثما كَانَ، وَأَيْنَمَا كَانَ (١). واستدل له بقولِه: ﴿وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مِّنَ الإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ﴾ [الأنعام: الآية ١٢٨] وكان قتادةُ يقولُ: ﴿نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ﴾ أي: نُتَابِعُهُمْ طائفةً بعد طائفةٍ في النارِ يومَ القيامةِ (٢)، كما سيأتِي في قولِه لَمَّا ذَكَرَ الْجِنَّ والإنسَ: ﴿قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُم مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا﴾ [الأعراف: الآية ٣٨] وكونُه يومَ القيامةِ بالموالاةِ في النارِ ليس بأظهرِها، بل إنما هو تسليطُ بعضِهم على بعضٍ، فيؤذيه انْتِقَامًا من اللَّهِ من بعضِ الظلمةِ ببعضٍ، أو يُوَلِّي بعضَهم لبعضٍ؛ لأن الكافرينَ بعضُهم أولياءُ بعضٍ، كما صَرَّحُوا به لِلَّهِ في قولِه: ﴿وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مِّنَ الإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ﴾ [الأنعام: الآية ١٢٨] وجاء في حديثٍ أخرجَه ابنُ عساكرَ: «مَنْ سَلَّطَ ظَالِمًا أَعَانَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ» (٣) وهو من توليةِ بعضِ الظالمينَ على بعضٍ. وَالحديثُ فيه غرابةٌ معروفةٌ (غريبٌ).
وَلَمَّا سمعَ عبدُ اللَّهِ بنُ الزبيرِ بقتلِ عبدِ الملكِ للأشدقِ (٤) ذَكَرَ هذه الآيةَ: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ
_________
(١) انظر: ابن جرير (١٢/ ١٢٠).
(٢) المصدر السابق (١٢/ ١١٩).
(٣) لفظه: «من أعان ظالمًا سلّطه الله عليه» وقد أخرجه ابن عساكر (تاريخ دمشق ٣٤/ ٤) (وانظر: مختصر تاريخ دمشق لابن منظور ١٤/ ١٥٣، وأورده القرطبي في التفسير (٧/ ٨٥)، وابن كثير في التفسير (٢/ ١٧٦). وقال: «هذا حديث غريب» ا. هـ.
وانظر: كشف الخفاء (٢/ ٢٩٧)، مختصر المقاصد الحسنة ص١٨٦، وقال: (ضعيف جِدًّا) ا. هـ وضعيف الجامع رقم: (٥٤٥٣)، السلسلة الضعيفة رقم: (١٩٣٧) وقال: موضوع.
(٤) وهو: عمرو بن سعيد بن العاص. انظر ترجمته في مختصر تاريخ ابن عساكر لابن منظور (١٩/ ٢١٤).
فيها من الملاذ والكرامات لا يمكن أن يستحقها أحد إلا بعد تعب هائل، وعناء شديد عظيم طويل، فبين الله أنه في هذه الشريعة السمحة التي جاء بها هذا النبي الكريم، أن الجنة تنال -مع عظم قدرها، وما فيها من اللذات والكرامة، وجميع الخيرات- بعملٍ سهل، لا مشقة فيه، ولا عناء ولا تعباً شديداً فيه؛ ولذا قال قبل أن يأتي بالخبر الذي هو: ﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ﴾ [الأعراف: آية ٤٢] قال: ﴿لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ اعلموا أن جنتي التي بَينت لكم ما فيها من الخير، وما فيها من النعيم، والحور، والولدان، والجنان، والأشجار المثمرة، والغرف العالية، وأنهار العسل، والماء، واللبن، والنساء الحسان، وغير ذلك من اللذات والمكارم ونضرة النعيم والخلود الذي لا يزول، الذي لا يداخله سقم ألبتة، ولا هرم ولا مرض. اعلموا أن هذه الجنة التي هي بهذه المثابة من العظَم، وعلو الأمر، وارتفاع الشأن، أني أدخلكم إياها على عمل ليس بالصعب، ولا بالشديد، لا يستلزم المشقة الفادحة، ولا العناء العظيم، بل هو سهل خفيف، لا نكلف أحداً فيه إلا ما يطيقه، فمن عجز عن أن يصوم لسفر أو مرض أفطر ثم صام عدة من أيام أُخر، ومن لم يستطع الصلاة قائماً فليصل قاعداً، وهكذا، كما قال تعالى: ﴿وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ﴾ [الأنعام: آية ١١٩] فإنه عند الضرورات يبيح لكم ما كان محرَّماً، ويخفف عليكم عند المشقات، والتخفيف عند المشقات إحدى القواعد الخمس التي بني عليها الفقه الإسلامي، وهي معروفة في الأصول (١):
_________
(١) هذه القواعد الخمس يصدّر بها غالباً أصحاب القواعد كتبهم المصنفة في هذا الباب، كالسيوطي في الأشباه والنظائر وغيره.
﴿وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ﴾ الغمام: هو السحاب، وهو وعاء الماء. قالوا: وهو سحاب أبيض رقيق يُظَلِّلُهُمُ اللهُ به ويَقِيهِمْ حَرَّ الشَّمْسِ.
﴿وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى﴾ أكثر المفسرين على أن (المن) هو الترنجبين، والترنجبين شيء يشبه العسل الأبيض ينزل كنزول الندى والثلج ثم يجتمع كثيرًا، لونه أبيض، وطعمه طعم العسل، فهو عسل أبيض، أو شيء يشبه العسل الأبيض، بالغ في الحلاوة واللذاذة.
وقال بعض العلماء: المن أعم من هذا، واستدلوا بحديث الصحيحين الثابت عن النبي ﷺ من حديث سعيد بن زيد (رضي الله عنه) أن النبي ﷺ قال: «الْكَمْأَةُ مِنَ المَنِّ، وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ» (١) وفي بعض رواياته: «مِنَ المَنِّ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى» جاءت في بعض روايات الحديث. فبعض العلماء يقول: الظاهر أن المَنَّ كان أعم من الترنجبين. وأكثر علماء التفسير يقولون: هو الترنجبين، والحديث على نوع التشبيه. وظاهر حديث النبي ﷺ أن الكمأة من ذلك المن الذي أُنزل إليهم (٢).
وقوله: ﴿وَالسَّلْوَى﴾ التحقيق أن المراد بالسلوى طائر، وعليه جماعة المفسرين (٣)، قال بعض العلماء: هو طائر يشبه السُّمَانَى، وقال بعض العلماء: هو السُّمَانَى بعينه، وهو طائر. فالترنجبين شبه الشراب والفاكهة، والسُّمَانَى لحم طير لذيذ. فهو أكل وغذاء عظيم لذيذ.
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥٧) من سورة البقرة.
(٢) السابق.
(٣) مضى عند تفسير الآية (٥٧) من سورة البقرة.
وقول الثاني (١):

يُبَشِّرُنِي الغُرَابُ بِبَيْنِ أَهْلِي فَقُلْتُ لَهُ ثَكِلْتُكَ مِنْ بَشِيرِ
هذا هو التحقيق أنها أساليب عربية، وأن البشارة تغلب للإخبار بما يسر، وأنها تطلق على الإخبار بما يسوء، هذا هو الظاهر، ومعلوم أن علماء البلاغة يقولون: إن البشارة حقيقة في الإخبار بما يسر، وأما البشارة بما يسوء فهي مما يسمونه الاستعارة (العِنَادِيَّة) المعروفة عندهم، وهي منقسمة إلى تهكُّمِيَّة وتمليحية كما هو معروف مُقَرَّر في علم البيان عند أهله (٢).
ونحن نقول دائماً: إن مثل هذا أساليب عربية نَطَقَت بها العرب، وكلها أسلوب عربي فصيح في محله، وهذا معنى قوله: ﴿فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [آل عمران: آية ٢١] الظاهر أن تَنْكِيرَ العَذَابِ هنا للتفخيم والتعظيم، ومن المعاني التي يستجلب لها التنكير: التفخيم والتعظيم، ويدل على هذا قوله: ﴿أَلِيمٍ﴾ والأليم: (فَعِيل) بمعنى (مُفْعِل) أي: مؤلم. واعلم أن إتيان (الفَعِيل) بمعنى (المُفْعِل) واقع في القرآن وفي كلام العرب، فما ذكروا عن الأصمعي أن (الفعيل) لا يكون في اللغة بمعنى (المُفعل) فهو خلاف التحقيق (٣). فمعنى أليم: مؤلم، أي: شديد الألم، وإتيان (الفعيل) بمعنى: (المُفْعِل) أسلوب عربي معروف يكثر في كتاب الله وفي لُغَةِ العَرَبِ، ومِنْ إِتْيَانِهِ في القرآن قوله: ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾ [سبأ: آية ٤٦] وقوله: ﴿نَذِيرٌ﴾ أي: منذر فهو (فعيل)
_________
(١) السابق.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٤٨) من سورة الأنعام.
(٣) مضى عد تفسير الآية (٧٣) من سورة الأعراف.


الصفحة التالية
Icon