و (الحمدُ) في لغةِ العربِ (١): هو الثناءُ (٢) باللسانِ على المحمودِ بجميلِ صفاتِه، سواء كان من بابِ الإحسانِ أو من بابِ الاستحقاقِ. وهو معنًى معروفٌ في كلامِ العربِ.
و (الشكرُ) في لغةِ العربِ (٣): فعلٌ يُنْبِئُ عن تعظيمِ الْمُنْعِمِ بسببِ كونِه مُنْعِمًا. إلا أن الشكرَ اصطلاحًا هو الحمدُ لغةً، والحمدُ لغةً هو الشكرُ اصطلاحًا (٤).
[٣/ب] والمعنىَ: كُلُّ ثناءٍ جميلٍ ثابتٌ لخالقِ / السماواتِ والأرضِ. فمعنى: ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ أنه سيدُ الخلائقِ وَمُدَبِّرُ شؤونِهم الذي لا يَسْتَغْنُونَ عنه طرفةَ عَيْنٍ، وَكُلُّ مَنْ يُدَبِّرُ الأمورَ وَيَسُوسُهَا تقولُ العربُ له (رَبًّا)، و (الرَّبَابَةُ): سياسةُ الأمورِ وتدبيرُها، تقولُ العربُ: «فلانٌ رَبُّ هذا الْحَيِّ». يَعْنُونَ: أنه هو الْمُدَبِّرُ شؤونَه. وهو معنًى معروفٌ في كلامِ العربِ (٥)، ومنه قولُ علقمةَ بنِ عَبَدَةَ التميميِّ (٦):
_________
(١) انظر: المفردات (مادة: حمد)، ص ٢٥٦، المصباح المنير (مادة: حمد) (٥٧ - ٥٨).
(٢) قال شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله): «الحمد: الإخبار بمحاسن المحمود مع المحبة لها» اهـ (الفتاوى ٨/ ٣٧٨، وانظر: (٦/ ٢٥٩، ٢٦٦)، واللباب في تفسير الاستعاذة والبسملة وفاتحة الكتاب ص ٢١٣.
(٣) راجع ما مضى عند تفسير الآية (٥٢) من سورة البقرة.
(٤) انظر: الكليات ص ٣٦٦، ٥٢٣، ٥٣٤، ٥٣٥، وفي الفرق بينهما راجع (اللباب في تفسير الاستعاذة والبسملة وفاتحة الكتاب ص ٢١٤).
(٥) انظر: المفردات (مادة: رب) ص ٣٣٦ - ٣٣٧.
(٦) البيت في المجمل ص ٢٧٩، المفضليات ص ٣٩٤، المفردات (مادة: رب) ص ٣٣٧.
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا (١)﴾ [الكهف: الآية ١] أي: لم يَجْعَلْ فيه اعْوِجَاجًا ما، لا في معانيه، ولا في ألفاظِه، ولا في أحكامِه، ولا في أخبارِه. أخبارُه كُلُّهَا حَقٌّ صِدْقٌ، وأحكامُه كُلُّهَا عدلٌ، وهو في غايةِ الاستقامةِ، لم يَجْعَلِ اللَّهُ فيه اعوجاجًا ﴿قَيِّمًا﴾ أي: مُسْتَقِيمًا في غايةِ الاستقامةِ. ثم لَمَّا ذَكَرَ هذه الأصنافَ الثلاثةَ التي انْقَسَمَتْ إليها أمةُ الكتابِ الذي أُورِثَتْ إياه بدأ بالظالمِ لنفسِه في قولِه: ﴿فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ﴾ ثم وَعَدَ الجميعَ بوعدِه الصادقِ الذي لا يُخْلِفُ دخولَ الجنةِ، قال: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (٣٣) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (٣٤) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (٣٥)﴾ [فاطر: الآيات ٣٣ - ٣٥] فهذا الظالمُ المعدودُ مِمَّنْ أُورِثُوا الكتابَ، الموعود بالجنة، ظُلْمُهُ: ظُلْمٌ دونَ ظُلْمٍ. وَأَصَحُّ التفسيراتِ في (الظالمِ)، و (المقتصدِ)، و (السابقِ) (١)، فيما يظهرُ:
أن (الظَّالِمَ) هو مَنْ يُطِيعُ الشيطانَ مَرَّةً، ويعصيه أُخْرَى، ويطيعُ اللَّهَ مرةً، وربما عَصَاهُ، من الذين قال اللَّهُ فيهم: ﴿خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا﴾ [التوبة: الآية ١٠٢].
والمقتصدُ: هو الذي يَمْتَثِلُ أوامرَ اللَّهِ، ويجتنبُ نواهيَ اللَّهِ، ولكنه لا يتقربُ بزيادةِ الطاعاتِ الغيرِ الواجبةِ.
وأما السابقُ بالخيراتِ: فهو الذي يجتنبُ محارمَ اللَّهِ، ويمتثلُ أوامرَ اللَّهِ، ويستكثرُ من القرباتِ والطاعاتِ الغيرِ الواجبةِ مرضاةً لِلَّهِ.
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١٠٦) من هذه السورة.
ولا يضمر له في ذلك حسداً ولا غِلاً، وذكر غير واحد عن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) أنه قال: «أرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال الله فيهم: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ﴾» ذَكَرَهُ عَنْ عَلِيٍّ (رضي الله عنه) غير واحد؛ قتادة وغيره، وكثير من طُرُقِهِ فيها انقطاع، والله أعلم بصحته إليه، ولكنه مشهور فائض على ألسنة المفسرين والعلماء والله أعلم بصحته عنه (١)،
ولا شك أنهم إن كان بينهم في الدنيا شيء؛ لأن طلحة والزبير ممّن قاتل عليّاً (رضي الله عنه) يوم الجمل، وبعضهم يزعم أنه كان بينه وبين عثمان بن عفان بعض الشيء، مع أن الذي يظهر أن عليّاً وعثمان لم يكن أحدهما يضمر للآخر إلا الطَّيِّب، وكان تسليم الحسن بن علي رضي الله عنه الخلافة إلى معاوية بن أبي سفيان (رضي الله عن الجميع) فيها أعظم منقبة لعلي بن أبي طالب (رضي الله عنه)؛ لأن كثيراً من الناس كانوا يتهمون عليّاً (رضي الله عنه) بما هو بريء منه، أن له ضلعاً في قتل عثمان، وأنه كان يقول له الوليد بن عقبة بن أبي معيط أخي عثمان من أمّه، يعرّض بعلي (٢):
_________
(١) الأثر في ابن أبي شيبة (١٥/ ٢٦٩، ٢٨١ - ٢٨٢)، وابن جرير (١٢/ ٤٣٨)، وابن سعد (٣/ (القسم الأول) ص٨٠، وابن أبي عاصم في السنة (١٢١٥)، واللالكائي (٢٥٧٣)، والحاكم (٣/ ١٠٥) وذكره الهيثمي في المجمع (٩/ ٩٧) وعزاه للطبراني في الكبير.
وأورده ابن كثير (٢/ ٢١٥)، والسيوطي في الدر (٣/ ٨٥) والزيلعي في تخريج الكشاف (١/ ٤٦٢)، وابن حجر في تخريج الكشاف ص٦، ورواية ابن سعد وابن جرير منقطعة، بخلاف رواية ابن أبي شيبة. وانظر: الفتح السماوي (٢/ ٦٣٥ - ٦٣٦).
(٢) البيتان في تاريخ دمشق (٥٦/ ٢٢٧)، مختصر تاريخ ابن عساكر (مختصر ابن منظور) (٢٦/ ٣٤٦)، الكامل للمبرد (٢/ ٩١٦)، مع شيء من الاختلاف في الروايات.
العلماء: هو السجود على الجَبْهَة، يسجدون (١). ثم إنهم أُمروا أيضًا بقول، وهو أن يدخلوا الباب وهم يقولون: (حطة) وأكثر المفسرين -وهو ظاهر القرآن والأحاديث الصحيحة- أنهم تُعبدوا بهذه اللفظة (حطة). وقراءة الجمهور التي لا يجوز العدول عنها: ﴿حِطَّةٌ﴾ بالرفع، وهي خبر مبتدأ محذوف، أي: مسألتنا حطة، والحطة فِعْلة من الحط الذي هو الوضع. والمعنى: مسألتنا لربنا هي حِطَّةٌ لذنوبنا وأوزارنا. معناه: مسألتنا لك أن تحط عنا ذنوبنا وأوزارنا، فهي كلمة استغفار تُؤْذِنُ بِحَطِّ الذنوب ووضع الأوزار، وهي خَبَر مبتدأ محذوف، (فِعْلَة) من الحط، بمعنى الوضع، هذا معناه. وقال بعض العلماء: الحطة: الكلمة التي تحط الذنوب، وهي لا إله إلا الله، والقول الأول أظهر.
وقد ثبت في صحيح البخاري وغيرِه من حديث أبي هريرة (رضي الله عنه) أنهم أُمروا بقول وأمروا بفعل، وأَمْرهم بالقول والفعل كلاهما مذكور في القرآن؛ لأن الله أمرهم بأن يدخلوا الباب سجدًا، وهو الفعل الذي أُمروا به، وأمرهم أن يقولوا: حطة، وهو القول الذي أُمروا به، وفي حديث أبي هريرة عند البخاري وغيره أنهم بدلوا القول الذي قيل لهم بقول غيره، وبدلوا الفعل الذي قيل لهم بفعل غيره؛ ولذا قال تعالى: ﴿فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ﴾ [الأعراف: آية ١٦٢] قال بعض العلماء: في الكلام حذفان، أي: فبدل الذين ظلموا بالقول الذي قيل لهم قولاً غير الذي قيل لهم، وبالفعل الذي قيل لهم فعلاً غير الذي قيل لهم، فالفعل الذي قيل لهم -وهو دخولهم الباب سجدًا- بدلوه فدخلوا يزحفون على أستاههم، كما ثبت
_________
(١) السابق.
وترك النقض انتهاء عما نهى الله عنه. وهذا معنى قوله: ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ [التوبة: آية ٤].
قال تعالى: ﴿فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (٥) وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ (٦) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧) كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (٨)﴾ [التوبة: الآيات ٥ - ٨].
يقول الله (جل وعلا): ﴿فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (٥)﴾ [التوبة: آية ٥].
اختلف العلماء في المراد بهذه الأشهر الحرم (١): فقال بعض العلماء: المراد بها الأشهر الحرم المعروفة الآتي ذكرها في قوله في هذه السورة الكريمة: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ﴾ [التوبة: آية ٣٦] وهذه الأشهر الأربعة الحرم ثلاثة منها سرد وواحد منها فرد،
_________
(١) انظر: ابن جرير (١٤/ ١٣٤) القرطبي (٨/ ٧٢)، الأضواء (٢/ ٤٣٠).


الصفحة التالية
Icon