أخذتُ نِعَمِي، وَسَلَبْتُهَا مِنْكُمْ، فتركتُكم عُمْيًا بعدَ الإبصارِ، وتركتُكم صُمًّا بعد السماعِ، وتركتُكم لا عقولَ لكم بعدَ الإدراكِ، فصرتُم لا بَصَرَ عندكم تُبْصِرُونَ به، ولا سمعَ تسمعونَ به، ولا عقلَ تفهمونَ به، مَنْ هو الذي يَقْدِرُ أن يَرُدَّ عليكم هذه المنافعَ، ويجعلُكم تسمعونَ وتبصرونَ وتفهمونَ؟! المعنى: لاَ أحدَ يقدرُ أبدًا على ذلك إلا اللَّهُ وحدَه. يعني: لَمَّا كانَ إنعامُ اللَّهِ عليكم بهذه المثابةِ، وقدرتُه على سلبِ إنعامِه عنكم بهذه المثابةِ، ما كان ينبغي لكم أن تَتَمَرَّدُوا وَتَكْفُرُوا وَتَصْرِفُوا نِعَمَهُ (جل وعلا) فيما يُسْخِطُهُ.
وهذا في الحقيقةِ أَمْرٌ يَعْرقُ منه الجبينُ، ويخجلُ منه مَنْ لَهُ عقلٌ، أن اللَّهَ مع عظمتِه وجلالِه وكمالِه يَمُنُّ على الواحدِ مِنَّا مع ضَعْفِ المسكينِ وحقارتِه، ويمنُّ عليه بهذه النعمِ، ويفتحُ له هاتين العينين في هذا الوجهِ على هذا الأسلوبِ الجميلِ الغريبِ وَيُعْطِيهِ هذا السماعَ، وَيُعْطِيهِ هذا العقلَ، ثم يصرفُ هذه النعمَ فيما يُسْخِطُ خالَقه (جل وعلا)، فهذا أمرٌ فظيعٌ، يعرقُ منه جبينُ العاقلِ، وَيَسْتَحِي منه مَنْ لَهُ عَقْلٌ.
وهذا معنى قولِه: ﴿قُلْ أَرَأَيْتَكُم﴾ أرأيتُم - أَخْبِرُونِي - أيها الناسُ ﴿إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ﴾ في أخذِه السمعَ وَجْهَانِ (١):
أحدُهما: أنه يأخذُ الأُذُنَ بِحَاسَّتِهَا، ولا يتركُ لها أَثَرًا، ويأخذُ العينَ حتى يتركَ الوجهَ مَطْمُوسًا، كما قال: ﴿مِّنْ قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا﴾ [النساء: آية ٤٧].
الوجهُ الثاني: أن المعنَى أنه يأخذُ حَاسَّةَ الإبصارِ والسمعِ والعقلِ وإن كانت الجوارحُ باقيةً؛ لأن صورةَ العينِ إذا نُزِعَ منها
_________
(١) انظر: القرطبي (٦/ ٤٢٨)، البحر المحيط (٤/ ١٣٢).
الماضِي. وهذا معروفٌ، كقولِك: «لم يأت زيد». بمعنَى: ما جاء زيدٌ في الماضِي. وهذا معروفٌ، فقلبُ المضارعِ ماضَوِيًّا ظَاهِرٌ، ولكن قلبَ النفيِ إثباتًا هو الذي يُشْكِلُ على طالبِ العلمِ، وإيضاحُه على هذا التفسيرِ: أن همزةَ الاستنكارِ المتقدمةَ على حرفِ (لم) أصلُها حرفُ إنكارٍ، فهو مشتملٌ على معنَى النفيِ، ويتسلطُ النفيُ الكامنُ في الهمزةِ على النفيِ الصريحِ في (لم) فَيَنْفِيهِ، ونفيُ النفيِ إثباتٌ، ويرجعُ النفيُ إلى الإثباتِ، والمُضَارَعَةُ إلى المَاضَوِيَّةِ. ومعنَى الْقَوْلَيْنِ وَاحِدٌ.
ومعنى: ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ﴾ يجئُكم في دارِ الدنيا رُسُلٌ منكم. الرُّسُلُ: جمعُ الرسولِ، والرسولُ: (فَعُول) بمعنَى (مُفْعَل) والمرادُ بهم هنا: مَنْ أَرْسَلَهُ اللَّهُ، فالرسولُ- طبعًا- يكونُ من الإنسِ ومن الملائكةِ، كما سيأتِي في قولِه: ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ﴾ [الحج: الآية ٧٥] أما الجنُّ فسنذكرُ الخلافَ فيهم- الآنَ- المعروفَ عندَ العلماءِ، فالرسلُ: جمعُ رسولٍ، وهو (فَعُول) بمعنَى (مُفْعَل) أي: مُرْسَلٌ، وأصلُه مصدرٌ، وإتيانُ المصادرِ على (فَعُول) قليلٌ جِدًّا، كالرسولِ، فأصلُه من معنَى الرسالةِ، وكالقبُولِ والوَلُوعِ، وكونُ الرسولِ أصلُه مصدرٌ فيه فوائدُ تفيدُ في التفسيرِ؛ لأن أصلَ الرسولِ مصدرٌ، تقولُ العربُ: «أرسلتُه رسولاً». أي: رسالةً. و «ما أرسلتُه برسولٍ». أي: برسالةٍ: فأصلُه: مصدرٌ، ومنه قولُ الشاعرِ (١):
_________
(١) البيت لكُثَيِّر عزة. وهو في ديوانه ص ١٧٦ اللسان (مادة: رسل) (٣/ ٧١)، ولفظه في الديوان:

لقد كذب الواشون ما بُحْتُ عندهم بلَيلى ولا أرسلتهم برسول
مشاهد الإنصاف ص٩٩ وفيه (بِسِرٍّ) بدلاً من (بقول).
أنه لما أدخل أهل الجنة الجنة حمدوا الله على نعمه، وذلك ذكره عنهم في مواضع كثيرة كقوله عنهم أنهم قالوا: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (٣٤) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (٣٥)﴾ [فاطر: الآيتان ٣٤، ٣٥] وقال عنهم هنا أنهم حمدوه أيضاً فقالوا: ﴿الحَمْدُ لله﴾ الحمد (١): معناه كل ثناءٍ جميل ثابت لله (جل وعلا)؛ لأنه يستحقه لذاته؛ ولأنه يستحقه علينا بما أنعم علينا حيث أدخلنا هذا النعيم الخالد الذي لا يزول.
﴿الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا﴾ أي: وفقنا للطريق التي ينال بها هذا الثواب العظيم وهو الجنة. نحمد الله على أن وفقنا في دار الدنيا، وهدانا إلى الإيمان به واتباع رسله حتى نِلْنَا بذلك العَمَلَ الصَّالِحَ هذا الجزاء المقيم، والنعيم العظيم. ﴿الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا﴾ ثم قالوا: ﴿وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ﴾ [الأعراف: آية ٤٣] هذه اللام هي التي تسمى في النحو بلام الجحود، وهي تؤكد النفي، تؤكد نفي هدايتهم لولا أن الله هداهم، وتسمى لام الجحود ولا تكون إلا بعد كونٍ منفي، نحو: ما كان، ولم يكن، والفعل منصوب بعدها بـ (أن) مضمرة (٢).
﴿وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ﴾ إلى الطريق التي هذا ثوابها وجزاؤها ﴿لَوْلا أَنْ هَدَانَا الله﴾ [الأعراف: آية ٤٣] المصدر المنسبك من (أن) وصلتها في محل رفع؛ لأن ما بعد (لولا) مبتدأ خبره محذوف غالباً.
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٤٥) من سورة الأنعام.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٣٧) من سورة الأنعام.
لا نَقْصَ فِيهِ ولا وصم. وإحسان العمل لا يمكن إلا بمراقبة خالق هذا الكون (جل وعلا).
وقد قَدَّمْنَا فِي هَذِهِ الدروس مرارًا (١) أن العلماء أجمعوا على أنه لم ينزل الله واعظًا من السماء إلى الأرض ولا زاجرًا أكْبَر مِنْ وَاعِظِ المُرَاقَبَة المُعَبَّر عنه هنا بالإحسان، وقد ضرب العلماء لهذا مثلاً قالوا: لو فرضنا أن في هذا البراح من الأرض ملكًا عظيم البطش، شديد النكال، وسيَّافه قائم على رأسه، والنطع مبسوط، والسيف يقطر منه الدم -ولله المثل الأعلى- وهذا الملك الذي هذا بطشه وشدته ينظر، أترى أن أحدًا من الحاضرين يهتم بريبة مع بناته أو زوجاته أو نسائه؟! لا، كلهم خاشع الطرف، ساكن الجوارح، أمنيته السلامة -ولله المثل الأعلى- فرب العالمين أعظم اطلاعًا وأشد بطشًا، وحِمَاه في أرضه محارمه، فمن لاحظ أن رب السماوات والأرض مطلع عليه، وأنه يرى كل ما يفعل إن كان عاقلاً لا بد أن يُحاسِب.
ولو علم أهل بلد أن أمير ذلك البلد بات مطلعًا على كل ما يفعلون من القبائح والخسائس لكفوا عن كل ما لا ينبغي، ولم يرتكبوا إلا ما يجمل -ولله المثل الأعلى- فكيف بخالق السماوات والأرض الذي يعلم خطرات القلوب، وكيف يجهل خطرات القلوب خالق خطرات القلوب؟ ﴿أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٤)﴾ [الملك: آية ١٤] ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (١٦)﴾ [ق: آية ١٦] معناه: أن المحسنين الذين يراقبون
_________
(١) السابق.
حتى إذا سَلَخا جُمَادى ستَّةً جُزْءاً فطَالَ صِيَامُهُ وصِيَامُهَا
والأَشْهُر: جمع شهر. و «الأفْعُل» جمع قِلّة؛ لأنها أرْبَعَةٌ.
والحُرُم: جَمْع حرام، وهو الصفة المشبهة من حَرُمَ الشيء فهو حَرَام.
وإنما قيل للواحد منها «حرام» لأَنَّ اللهَ حَرَّمَ فيه القتال (١)، وهذا معنى قوله: ﴿فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ﴾ على القَوْلَيْنِ المذْكُورَيْنِ ﴿فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ﴾ الذين يشركون بالله (جلّ وعلا)، اقتلوهم كلهم ﴿حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ﴾ (حيث): كلمة تدل على المكان، كما تدل (حين) على الزمان، وربما ضُمِّنَتْ مَعْنَى الشَّرْطِ، ويجوز فيها لغةً لا قراءة إبدال يائها واواً وتثليث ثائها (٢).
ومعنى ﴿حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ﴾: في أي مكان من أمكنة الأرض وجدتموهم فاقتلوهم. وقال بعض العلماء: هذا ما لم يكونوا في الحرم (٣). وقال: عموم هذه الآية يخصصه عموم قوله تعالى: ﴿وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: آية ١٩١]. وعلى هذا القول يكون القتال لا يجوز في الحرم إلا إذا بدؤوا بالقتال. بهذا قال جماعة من العلماء، وقال جماهير من أهل العلم: إنهم يُقْتَلُون في كل مكان، كما دَلَّ عليه عموم (حيث) هنا، وإن كانوا في الحَرَم. قالوا: أمَّا آيَة: ﴿وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ﴾ [البقرة: آية ١٩١] فإنها
_________
(١) انظر: ابن جرير (١٤/ ١٣٦)، القرطبي (٨/ ٧٢).
(٢) مضى عند تفسير الآية (٥٨) من سورة البقرة.
(٣) انظر: القرطبي (٢/ ٣٥١، ٨/ ٧٣).


الصفحة التالية
Icon