امتثلَ الأوامرَ، واجتنبَ النواهيَ، هذا الْقِسْمُ من الناسِ هم المُبَشَّرونَ الذين فيهم: ﴿وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ﴾ وقال اللَّهُ فيهم: ﴿فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ يعني يومَ القيامةِ: ﴿وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾.
و (الخوفُ) في لغةِ العربِ: هو الغَمُّ من أمرٍ مستقبلٍ خاصةً.
و (الحزنُ) في لغةِ العربِ: هو الغمُّ من أمرٍ قد فاتَ وَمَضَى. تقولُ: «فلانٌ أُصِيبَ بالأمسِ، فهو اليومَ حزينٌ» وتقولُ: «فلانٌ خائفٌ» أي: يَغْتَمُّ مِنْ أمرٍ مستقبلٍ. هذا أصلُه معنى (الخوفِ) ومعنى (الحزنِ) (١) - أَعَاذَنَا اللَّهُ والمسلمين منهما - وربما وُضِعَ أحدُهما موضعَ الآخَرِ، وربما أَطْلَقَتِ العربُ (الخوفَ) على غيرِ (الحزنِ)، وَمِنْ إطلاقاتِ العربِ الخوفَ: إطلاقُها الخوفَ على العلم (٢)، تقولُ العربُ: «إِنِّي أخافُ أن يقعَ كذا» بمعنى: أعلمُ أن يقعَ كذا، وقد بَيَّنَّا هذا المعنَى في سورةِ البقرةِ في الكلامِ على قولِه: ﴿إِلاَّ أَنْ يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾ [البقرة: آية ٢٢٩] قال بعضُ العلماءِ معنَى: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا﴾ أي: فإن عَلِمْتُمْ ألاَّ يقيما حدودَ اللَّهِ. ومن إطلاقِ (الخوفِ) لاَ بمعنَى (الحزنِ)، بل بمعنَى العلمِ اليقينيِّ: قولُ أبي مِحْجَنٍ الثقفيِّ في بَيْتَيْهِ المشهورين (٣):

إِذَا مُتُّ فَادْفِنِّي إِلَى جَنْبِ كَرْمَةٍ تُرَوِّي عِظَامِي فِي الْمَمَاتِ عُرُوقُهَا
_________
(١) في الفرق بين الخوف والحزن انظر: القرطبي (١/ ٣٢٩)، الكليات ص ٤٢٨.
(٢) الكليات ص ٤٢٩، الخزانة (٣/ ٥٥٠ - ٥٥١)، الدر المصون (٢/ ٢٦٤ - ٢٦٥).
(٣) البيتان في الخزانة (٣/ ٥٥٠)، الدر المصون (٢/ ٢٦٥)، الكامل لابن الأثير (٢/ ٣٣١)، الإصابة (٤/ ١٧٥).
اللَّهِ. هذا محلُّ خلافِ العلماءِ، الذين قالوا: إِنَّ كُلَّ مَنْ مَاتَ مُشْرِكًا بِاللَّهِ يعبدُ الأصنامَ أنه في النارِ، ولو لم يَأْتِهِ نذيرٌ - استدلوا بظواهرِ آياتٍ دَلَّتْ على ذلك وبأحاديثَ، وَنَاقَشَهُمْ فيه خصماؤهم مناقشاتٍ سَنُلِمُّ ببعضِها. قالوا: قال اللَّهُ: ﴿وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (١٨)﴾ [النساء: الآية ١٨] ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ (٩١)﴾ [آل عمران: الآية ٩١] ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ﴾ [الحج: الآية ٣١] ﴿إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ﴾ [المائدة: الآية ٧٢] ﴿قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (٥٠)﴾ [الأعراف: الآية ٥٠] ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء: الآية ٤٨] إلى غيرِ ذلك من الآياتِ.
واستدلوا بأحاديثَ ثابتةٍ في الصحيحِ، صَرَّحَ فيها النبيُّ بتعذيبِ بعضِ مَنْ مَاتَ في الفترةِ، كما ثَبَتَ في صحيحِ مسلمٍ من حديثِ أنسِ بنِ مالكٍ (رضي الله عنه) أن النبيَّ - ﷺ - سَأَلَهُ رجلٌ فقال: أَيْنَ أَبِي؟ قال: «فِي النَّارِ»، فلما ولَّى الرجلُ دعاه، فقال: «إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ» (١) فهذا ثابتٌ من لفظِ النبيِّ في صحيحِ مسلمٍ. وقد ثَبَتَ في صحيحِ مسلمٍ من حديثِ أَبِي هريرةَ: أن النبيَّ - ﷺ - استأذنَ رَبَّهُ أن يزورَ أُمَّهُ فَأَذِنَ له أن يَزُورَهَا، واستأذنَه أن يستغفرَ لها فلم يُؤْذَنْ له. وفي بعضِ رواياتِه عندَ مسلمٍ: فَزَارَ قَبْرَهَا فَبَكَى وَأَبْكَى، وقال:
_________
(١) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب: (بيان أن من مات على الكفر فهو في النار... ) حديث رقم: (٢٠٣) (١/ ١٩١).
عذاب النار لا من حرّها ولا من نتنها ولا من أذاها، كما أن أهل النار لا ينالهم شيء مما في الجنة من النعيم، لا من بردها، ولا من نسيم روائحها الشذية، وهذا معنى قوله: ﴿وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ﴾.
﴿وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ﴾ الأعراف في اللغة: جمع عُرْف، والفُعْل يُجمع على أفعال. والعُرْف في لغة العرب هو كل مكان من الأرض مرتفع تسميه العرب عُرْفاً (١)، فالجبل المرتفع والرمل المرتفع تسميه العرب عُرْفاً، ومن ذلك عرف الديك لارتفاعه على سائر بدنه، وعُرْف الفرس لارتفاعه على سائر بدنها، فكل مرتفع تسميه العرب عُرْفاً، وتجمعه على أعراف، وربما قالوا للعُرْف عُرُف بضمتين، ومنه قول الكُميت (٢):
أبْكَاكَ بِالعُرُفِ المَنْزِلُ وما أَنْتَ والطَّلَلُ المُحْوِلُ
وهذه الأعراف معناها بإطباق المفسرين: أماكن مرتفعة عالية، وأكثر المفسرين على أنها هي أعاليها، والسور وشرفاته؛ لأن هذا الحجاب المضروب بين أهل الجنة والنار، والسور الذي له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب له شرفات -أي: أعاليه له شرفات- مرتفعة في أعلاه هي الأعراف التي عليها هؤلاء الرجال المذكورون. وعلى هذا القول أكثر المفسرين، خلافاً لمن زعم أن الأعراف مرتفعات فوق الصراط عليها رجال على هذه المرتفعات
_________
(١) انظر: المجمل لابن فارس، كتاب العين، باب العين والفاء وما يثلثهما. ص٥١٣ تفسير ابن جرير (١٢/ ٤٤٩)، القرطبي (٧/ ٢١١)، الدر المصون (٥/ ٣٢٨)، معجم البلدان (٤/ ١٠٥).
(٢) البيت في الصحاح، باب الفاء، فصل العين (٤/ ١٤٠١)، معجم البلدان (٤/ ١٠٥).
العرب معناه: الخروج عن طاعة الله. كل من خرج عن شيء فقد فسق (١). والعرب تقول: «فسقت هذه الرواحل عن قصدها»؛ أي: جارت عن طريقها، ومنه قول رُؤْبَة بن العَجَّاجِ (٢):
يَهْوَيْنَ في نَجْدٍ وغَوْرًا غَائِرًا فَوَاسِقًا عن قَصْدِهَا جَوَائِرا
والفسق في الشرع: الخروج عن طاعة الله، كما قال تعالى: ﴿فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾ [الكهف: آية ٥٠] أي: خرج عن طاعة ربه. هذا هو معنى الفسق. والخروج عن طاعة الله قد يكون خروجًا أعظم وهو الخروج المخرج عن دين الإسلام، وقد يكون خروجًا دون خروجٍ وهو الفسق بارتكاب كبيرة. ولأجل هذا المعنى كان الفسق يطلق في القرآن على الخروج عن طاعة الله بمعناه الأعظم وهو الكفر بالله كقوله: ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ﴾ [البقرة: آية ٢٦] وقوله: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ﴾ [السجدة: آية ٢٠] وقد يطلق الفسق على خروج دون خروج بارتكاب بعض الكبائر كقوله: ﴿وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [النور: آية ٤] وقوله: ﴿إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا﴾ [الحجرات: آية ٦] وهذا معنى قوله: ﴿وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ﴾.
﴿فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ (١٦٦)﴾ [الأعراف: آية ١٦٦] (لمّا) هذه هي التي تربط جملة بجملة رَبْط الشرط بالجزاء. و (لما) تأتي في اللغة العربية على ثلاثة
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥٩) من سورة البقرة.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٥٩) من سورة البقرة.
وعلى كل حال فالقرآن كلام الله وصِفَته الأزَلِيَّة، ليس بمخلوق، منه بدأ وإليه يعود، وهو صفته الأزلية لم يتجرد عن كونه متكلماً يوماً ما، وهو في كل يوم يتكلم بما شاء، كيف شاء، على الوجه اللائق بكماله وجلاله (جَلّ وعلا) من غير مشابهةٍ للخلق، ومن غير تعطيل له من صفته (جَلّ وعلا). وهذا معنى قوله: ﴿فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ﴾.
﴿ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ﴾ [التوبة: آية ٦] أَبْلَغَهُ إِيَّاهُ: أَوصَلَهُ إِلَيْهِ. والمأمن هنا: اسم مكان -أيضاً- كالمرصد، فالمأمن والمرصد كلاهما اسم مكان، فالمرصد مكان الرصد، والمأمن: مكان الأمن، أي: أبلغه مكان أمنه، وهو داره الذي جاء منها، وأهله الذي جاء من قِبَلِهم. وهذا معنى قوله: ﴿أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ﴾ ثم قال: ﴿ذَلِكَ﴾ المذكور من الأمر بإجارة المشرك المستجير حتى يسمع كلام الله ويَتَفَهَّمَهُ وَاقِع بسبب أنَّهُمْ ﴿قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ﴾ لا يعلمون الْوَحْيَ، ولا يفهمون عن الله، فإذا طلبوا أن يعلموا ويتعلموا ويسمعوا ما جاء عن الله فلا تمنعوهم من ذلك، فأمِّنوهم حتى يسمعوا ويَتَفَهَّمُوا ويَعْرِفُوا الحَقَّ لَعَلَّ اللهَ يَهْدِيهم، وهذا معنى قوله: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ﴾.
قال تعالى: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧) كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (٨) اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (٩) لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (١٠) فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ


الصفحة التالية
Icon