وَغُلاَمٍ أَرْسَلَتْهُ أُمُّهُ بِأَلُوكٍ فَبَذَلْنَا مَا سَأَلْ (١)
والعربُ تقولُ: (أَلِكْنِي إليها): (احْمِلْ إليها مَأْلَكَتِي) أي: رِسَالَتِي فَبَلِّغْهَا عَنِّي، ومنه قولُ أبِي ذؤيبٍ الْهُذَلِيِّ (٢):
أَلِكْنِي إِلَيْهَا وَخَيْرُ الرَّسُو لِ، أَعْلَمُهُمْ بِنَوَاحِي الْخَبَرْ
وعلى هذا فأصلُ المَلَكِ: (مَأْلَك) على وزن (مفْعَل) من (الأَلُوكَة) وهي: الرسالةُ. فَدَخَلَهُ القلبُ الصرفيُّ المعروفُ، وهو جعلُ العينِ مكانَ الفاءِ، والفاءِ مكانَ العينِ، فَجُعِلَتِ الهمزةُ التي كانت موضعَ الفاءِ في موضعِ العينِ، فصارَ: (مَلْأَكَ)، ووزنُ (المَلْأَك) بالميزانِ الصرفيِّ: (مَعْفَل) لأن العينَ جاءت في موضعِ الفاءِ، والفاءَ في موضعِ العينِ. وربما نَطَقَتِ العربُ به على هذا القلبِ بلفظِ (مَلأَك)، كقولِ الشاعرِ (٣):
وَلَسْتَ لإِنْسِيٍّ وَلَكِنْ لِمَلأَكٍ تَحَدَّرَ مِنْ جَوِّ السَّمَاءِ يَصُوبُ
فَخُفِّفَتِ همزةُ المَلْأَكِ، وَأُلْقِيَتْ حركتُها على اللامِ، فقيلَ: (مَلَك). كما تسقطُ في قولِه: (سَلْهُمْ). أصلُها: (اسألهم). ومما
_________
(١) البيت للبيد، وهو في ابن جرير (١/ ٤٤٦)، القرطبي (١/ ٢٦٢)، اللسان (مادة: ألك) (١/ ٨٥)، الدر المصون (١/ ٢٥٠).
(٢) البيت في ابن جرير (١٣/ ٧)، القرطبي (٧/ ٢٥٥)، اللسان (مادة: ألك) (١/ ٨٥).
(٣) نسبه بعضهم لعلقمة بن عبدة، وبعضهم نسبه إلى غيره. وهو في الكتاب (٤/ ٣٨٠)، المفضليات ص ٣٩٤، ابن جرير (١/ ٣٣٣)، القرطبي (١/ ٢٦٣)، الدر المصون (١/ ٢٥٠)، اللسان (مادة: ألك) (١/ ٨٥) ولفظه في بعض هذه المصادر:
ولَسْتَ لإِنْسِيٍّ ولكنْ لمَلأكٍ | تَنَزَّلَ مِنْ جَوِّ السَّمَاءِ يَصُوبُ |
وما أدري وسوفَ إِخَالُ أَدري | أَقَومٌ آل حصنٍ أم نساءُ |
(١) مضى عند تفسير الآية (٨٠) من سورة الأنعام.
(٢) السابق.
﴿وَإِنَّهُ﴾ جل وعلا ﴿لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أي: كثير المغفرة لعباده المؤمنين التائبين؛ الرحيم بهم.
وقد جرت العادة في القرآن أن الله (تعالى) يجمع فيه بين الوعد والوعيد؛ لأن مطامع العقلاء محصورة في أمرين: هما جلب المصلحة، ودفع المضرة، والله (جل وعلا) يأتي بالوعد والوعيد ليستحث الناس بذلك إلى طاعته كما قال هنا: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ﴾ لمن عصاه ﴿وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ لمن أطاعه. فهذا الوعد يطمعنا فيما عنده، وهذا الوعيد يخوّفنا مما عنده، كما قال تعالى: ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ (٥٠)﴾ [الحجر: الآيتان ٤٩، ٥٠] وكما قال تعالى: ﴿حم (١) تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢) غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣)﴾ [غافر: الآيات ١ - ٣] والآيات في مثل هذا كثيرة، وهذا معنى قوله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [الأعراف: آية ١٦٧].
﴿وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٦٨)﴾ [الأعراف: آية ١٦٨].
﴿وَقَطَّعْنَاهُمْ﴾ معناه: جعلناهم قطعًا متفرقين في أرض الله لا تكاد تجد أرضًا إلا وفيها شِرذِمَةٌ منهم. أجرى الله العادة بتفريقه اليهود في أقطار الدنيا لحكمة يعلمها هو (جلّ وعلا)؛ ولذا قال: ﴿وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا﴾ أي: طوائف متفرقة في أنحاء الدنيا. ثم قال: ﴿مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ﴾ منهم قوم صالحون مطيعون لله، وهم الذين كانوا على شرع موسى بن عمران، لم يغيروا ولم يُبَدِّلُوا حتى ماتوا على ذلك، أو أدركوا محمدًا ﷺ فآمنوا به، كعبد الله بن سلام.
إلى المَلِكِ القَرْمِ وابْنِ الهُمَامِ | ولَيْثِ الكَتِيبَةِ فِي المُزْدَحَم |
إِنِّي لأعظم في صدر الكَميِّ على | ما كان في زَمَنِ التَّجْدِيرِ والقِصَرِ |
حُيِّيتَ من طَلَلٍ تَقَادَمَ عَهْدُهُ | أَقْوَى وأَقْفَرَ بَعْدَ أُمّ الهَيْثَمِ |
واختار كبير المفسرين أبو جعفر بن جرير الطبري -رحمه الله- أن هذه المعاني كلها يجب حمل (الإلِّ) عليها؛ لأنه شاملٌ لِلْعَهْدِ والقرابة، والحلف (٣)؛ أي: لا يُرَاعُونَ فِيكُمْ عَهْداً، ولا قرابة، ولا حلفاً، ولا يُرَاعُونَ اللهَ فِيكُمْ. وهَذَا الذي ذهب إليه هو مِنْ حَمْلِ المُشْتَركِ على مَعَانيه، وحمل المشترك على معنييه أو معانيه مما اخْتَلَفَ فِيهِ عُلَماء الأصُول، والذي حَرَّرَهُ المحققون من أصوليي أصحاب المذاهب الأربعة هو جواز حمل المشترك على مَعْنَيَيْهِ أو معانيه (٤)، فيجوز أن تقول مثلاً: عدا اللصوص البارحة على
_________
(١) البيت في اللسان (مادة: جدر) (١/ ٤١٧).
(٢) البيت في ديوانه ص ١١٨.
(٣) تفسير ابن جرير (١٤/ ١٤٨).
(٤) انظر: شرح الكوكب المنير (٣/ ١٨٩ - ١٩٥)، البحر المحيط في أصول الفقه (٢/ ١٢٦ - ١٤٨، ٣/ ١٦٦ - ٤٧٢)، مجموع الفتاوى (١٣/ ٣٤٠ - ٣٤١)، زاد المعاد (٥/ ٦٠٦)، قواعد التفسير (٢/ ٨١٩).
الصفحة التالية