إِلَيَّ. فحصرَ الاتباعَ في المُوحَى إليه، واللَّهُ يقولُ: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب: آية ٢١] فَعَلَيْنَا أن لا نتبعَ إلا خُصوصَ الوحيِ، ولا نخرج عنه إلى رَأْيٍ. وأمثالُ هذا من الآياتِ التي يستدلُّ بها الظاهريةُ كثيرةٌ جِدًّا (١).
ونحن نقولُ: إن الجوابَ: أَنَّا لا نخرجُ عمَّا يُوحَى، إلا أَنَّ مَا يُوحَى منه ما هو منصوصٌ به ظاهرٌ، ومنه ما هو مفهومٌ من حُكْمِ المنصوصِ به، ولا خروجَ في هذا عن حُكْمِ الوحيِ؛ لإجماعِ العقلاءِ على أن نظيرَ الحقِّ حق، ونظيرُ الباطلِ باطلٌ، فالشرعُ قد يَذْكُرُ الشيءَ ويسكتُ عن نظيرِه المماثلِ له في علةِ الحكمِ فَيَفْهَمُ العقلاءُ أنه مثلُه، وهذا الجمودُ الذي يَدَّعِيهِ ابنُ حزمٍ متمسكًا بعشراتِ أو مئاتِ الآياتِ من هذا النوعِ، يقول: كُلُّ ما نَصَّ عليه اللَّهُ فحكمُه ظاهرٌ، وما لم يَأْتِ في نَصٍّ مِنْ كتابِ اللَّهِ ولا سُنَّةِ نَبِيِّهِ فهو مسكوتٌ عنه وهو عَفْوٌ، ولا لنا أن نبحثَ عنه، ولا نسألَ عنه؛ لأن اللَّهَ سَكَتَ عنه غيرَ نسيانٍ، بل سَكَتَ عنه رحمةً بنا، فليس لنا أن نبحثَ عنه.
هذا الذي يقولُه ابنُ حَزْمٍ، ويستدلُّ عليه بعشراتِ الآياتِ، نحن نقولُ بِمُوجَبِهِ. ومعنى: (نقولُ بمُوجَبِهِ) أننا نقدحُ فيه بالقادحِ المعروفِ في عِلْمِ الأصولِ بـ (القولِ بالمُوجَبِ) (٢)،
وهو أن نقولَ: أنتَ صادقٌ فيما قلتَ، ولكن هذا لا حجةَ لكَ فيه، ولا يقطعُ نزاعَنا معكَ. والمعنَى: نحنُ نُصَدِّقُكَ بأن اللَّهَ أباحَ أشياءَ، وحرَّم أشياءَ،
_________
(١) انظر: الإحكام ص ٩٤٦، المحلى (١/ ٥٦).
(٢) وهو بفتح الجيم وبالكسر، وهو نفس الدليل؛ لأنه الموجِبُ للحكم.
وفي الاصطلاح: تسليم مقتضى الدليل مع بقاء النزاع في الحكم. انظر: شرح الكوكب المنير (٤/ ٣٣٩ - ٣٤٠)، نثر الورود (٢/ ٥٤١).
قَفَاهُ (١)؛ لأنه لا يستطيعُ السجودَ، كما قال تعالى: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ (٤٢)﴾.
وقد ثَبَتَ عن النبيِّ - ﷺ - في الأحاديثِ الصحاحِ في قصةِ الرجلِ المشهورةِ الذي هو آخِرُ أَهْلِ النارِ خُرُوجًا من النارِ أنه يقول: «يَا رَبِّ أَخِّرْنِي عَنِ النَّارِ. يَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ إِنْ أَخَّرْتُكَ لَعَلَّكَ تَطْلُبُ غَيْرَ ذَلِكَ. فَيَقُولُ: لَكَ عَلَيَّ مِنَ الْعُهُودِ وَالْمَوَاثِيقِ أَنْ لاَ أَطْلُبَكَ غَيْرَ ذَلِكَ. ثُمَّ يَمْكُثُ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ يَقُولُ لَهُ: افْعَلْ لِي كَذَا، أَوْ: إِلَى هَذِهِ الشَّجَرَةِ. وَيَقُولُ لَهُ: وَيْلَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مَا أَغْدَرَكَ!! فَيُعْطِيهِ مِنَ الْمَوَاعِيدِ وَالْمَوَاثِيقِ أَنَّهُ لاَ يَطْلُبُ شَيْئًا سِوَى ذَلِكَ، حَتَّى يَقُولَ لَهُ: رَبِّ اصْرِفْ وَجْهِي عَنِ النَّارِ. إِلَى أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ» (٢).
والتكاليفُ إنما هي عهودٌ ومواثيقُ تُؤْخَذُ على الإنسانِ أن يفعلَ أو أن لاَ يفعلَ. فهذا هو الصوابُ في هذه المسألةِ، أنهم معذورونَ في الدنيا بشهادةِ الآياتِ، وأن اللَّهَ يومَ القيامةِ يمتحنُهم بنارٍ يأمرُهم بالدخولِ فيها، فَمَنْ دَخَلَهَا دخلَ الجنةَ (١)،
وظهرَ فيه عِلْمُ اللَّهِ أنه كان يُطِيعُ الرسلَ لو جاءَته،
_________
(١) ورد في ذلك عدة أحاديث من أشهرها:
١ - حديث الأسود بن سريع (رضي الله عنه) عند أحمد (٤/ ٢٤)، وأبي نعيم في معرفة الصحابة، (٢/ ٢٨١)، والطبراني في الكبير (١/ ٢٨٧)، وابن حبان (الإحسان (٩/ ٢٢٥)، والبيهقي في الاعتقاد ص ٧٦، والبزار (كشف الأستار ٣/ ٣٣)، والضياء في المختارة (٤/ ٢٥٤، ٢٥٦). وقد صححه البيهقي في الاعتقاد ص ٧٧، وابن القيم في طريق الهجرتين ٣٩٧، والهيثمي في المجمع (٧/ ٢١٦)، والألباني في السلسلة الصحيحة (٣/ ٤١٩).
٢ - حديث أبي هريرة (رضي الله عنه) عند أحمد (٤/ ٢٤)، وابن أبي عاصم في السنة (١/ ١٧٦)، والضياء في المختارة (٤/ ٢٥٥ - ٢٥٦)، والبيهقي في الاعتقاد ص ٧٧، والبزار (كشف الأستار ٣/ ٣٣ - ٣٤). وقد صححه البيهقي في الاعتقاد ص ٧٧، وابن تيمية في الدرء (٨/ ٣٩٩)، وابن القيم في أحكام أهل الذمة (٢/ ٦٥٤)، والهيثمي في المجمع (٧/ ٢١٦)، والألباني في تخريجه لكتاب السنة (١/ ١٧٦)، والسلسلة الصحيحة (٣/ ٤١٩).
وللحديث طرق وشواهد عن عدد من الصحابة منهم: أبو سعيد الخدري، ومعاذ بن جبل، وأنس بن مالك. انظر في ذلك: مسند أبي يعلى (٧/ ٢٢٥)، المعجم الكبير للطبراني (٢٠/ ٦٠٥)، التمهيد (١٨/ ١٢٧ - ١٣٠)، كشف الأستار عن زوائد البزار (٣/ ٣٤)، الاعتقاد للبيهقي ص ٧٧، مختصر الفتاوى المصرية ٦٤٣، طريق الهجرتين ٣٩٨، أحكام أهل الذمة (٢/ ٦٥٠ - ٦٥٣)، تفسير ابن كثير (٣/ ٢٩ - ٣٠)، مجمع الزوائد (٧/ ٢١٥ - ٢١٧)، سلسلة الأحاديث الصحيحة (٥/ ٦٠٣).
قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية (رحمه الله): «وقد رُوي بأحاديث حسان عن النبي - ﷺ - أن من لم يكلف في الدنيا من الصبيان والمجانين، ومن مات في الفترة، يُمتحنون يوم القيامة... » ا. هـ مختصر الفتاوى المصرية ص ٦٤٣، وقال ابن كثير في التفسير (٣/ ٣١): «إن أحاديث هذا الباب منها ما هو صحيح كما نص على ذلك كثير من أئمة العلماء، ومنها ما هو حسن، ومنها ما هو ضعيف يتقوى بالصحيح والحسن. وإذا كانت أحاديث الباب الواحد متصلة متعاضدة على هذا النمط أفادت الحجة عند الناظر فيها» ا. هـ، وقال الحافظ في الفتح (٣/ ٢٤٦): «وقد صحت مسألة الامتحان في حق المجنون، ومن مات في الفترة من طرق صحيحة» ا. هـ.
وهذا معروف في كلامهم. وفي لُغَز الحريري في مقاماته: «هل يجوز أن يكون الحاكم ظالماً؟ قال: نعم إذا كان عالماً» (١) يريد أن القاضي إذا كان يضرب لبنه قبل أن يروب لا مانع من أن يُستقضى إذا كان من أهل العلم، وهو معروف كثير في كلام العرب، ومنه قول الشاعر (٢):

وَقَائِلَةٍ ظَلَمْتُ لَكُمْ سِقَائِي وَهَلْ يَخْفَى عَلَى العَكَدِ الظَّلِيمِ
والعَكَد: عَصَب اللسان. ويُروى: «على العكَد الظليم» ومنه قول الآخر في سقاء له من اللبن صبَّه وسقاه قومه قبل أن يروب (٣):
وَصَاحِبِ صِدْقٍ لَمْ تَرُبْنِي شكَاتُهُ ظَلَمْتُ وَفِي ظَلْمِي لَهُ عَامِداً أَجْرُ
ومنه قيل للأرض التي حُفرت وليست محل حفر: (مظلومة)، وقيل للتراب الذي يستخرج من حفر القبر: (ظليم) لأنه حَفرٌ في غير محل الحفر، لم يحفر قبل هذا، ولم يكن معهوداً لأن يحفر لاستخراج ماء ونحوه. ومِنْ إِطْلاقِهِ عَلَى الأرض التي حُفِرَتْ ولَيْسَتْ محلاًّ للحَفْرِ قَوْل نابغة ذبيان (٤):
إلا الأوَاريَّ لأْياً ما أُبَيِّنُها والنُّؤْيُ كَالحَوْضِ بالمَظْلُومَةِ الجَلَدِ
أي: بالأرض المظلومة المحفور فيها وهي ليست محلاًّ للحفر؛ لأن الحفر وُضع في غير موضعه. وهذا هو المعنى الصحيح، خلافاً لمن زعم أن المظلومة هي التي تأخر عنها المطر، ومنه قيل
_________
(١) السابق.
(٢) السابق.
(٣) السابق.
(٤) السابق.
مُسْلِمِينَ (٥٣) أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} [القصص: الآيات ٥١ - ٥٤]. وقوله في هذه الآية الكريمة: ﴿وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ﴾ أي: ومنهم أمة وناسٌ آخرون دون ذلك الصلاح؛ أي: منحطون عن مرتبة الصلاح، قاصرون عنها؛ لارتطامهم في المعاصي أو الكفر بالله جلّ وعلا.
وهذا الحرف قرأه عامة القراء: ﴿دُونَ ذَلِكَ﴾ بفتح النون ظرفًا غير متصرف، ولم يقرأه أحدٌ اسمًا. وكونه اسمًا يجوز لغة لا قراءة؛ لأن العرب تطلق (دون) إطلاقين (١): تطلقها ظرفًا جامدًا غير متصرف، وتطلقها اسمًا بمعنى الشيء الردي، ومن إطلاقها اسمًا: قول الشاعر (٢):
إِذَا مَا عَلاَ المَرْءُ رامَ العَلاَء ويقْنَعُ بالدونِ من كان دُونَا
فالرواية في قوله: «من كان دونا» أصله: «من كان دونًا» بالتنوين، أي: حقيرًا. وهذه الآية لم يُقْرأ فيها بجعله اسمًا متصرفًا. هذا معنى قوله: ﴿وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ﴾ أي: ومنهم أمة، كقوله: ﴿وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ (١٦٤)﴾ [الصافات: آية ١٦٤] أي: وما منا أحد إلا له مقام معلوم؛ أي: ومنهم طائفة ﴿دُونَ ذَلِكَ﴾ أي: منحطون عن رتبة الصلاح لكفرهم أو معاصيهم.
وقوله: ﴿وَبَلَوْنَاهُمْ﴾ البلاء: الاختبار. والحسنات جمع الحسنة، والحسنة المراد بها هنا الخصلة الطيبة كالخصب والعافية؛ لأن الله يبتلي بالطيبات ويبتلي بالبلايا. يبتلي الناس بأن يُغدق عليهم نعمه ويرزقهم العافية والأموال والأمطار ليبتليهم أيشكروا نعمة الله؟ وكذلك يبتلي بالسيئات كالجدب والمرض وغير ذلك من البلايا هل
_________
(١) انظر: اللسان (مادة: دون) (١/ ١٠٣٨).
(٢) البيت في اللسان (مادة: دون) (١/ ١٠٣٨)، فتح القدير (١/ ٥٢).
الرؤوس. ولم يقل: فإنها لا تعمى الأدمغة. أبداً؛ لأن العَقْلَ محلُّه القَلْب هذا جاء به الوحي الصحيح وكلام مَنْ خَلَقَ القَلْبَ وتَفَضَّلَ بالقَلْبِ، فلَمْ يَأْتِ فِي آيَةٍ واحِدَة ولا في حديثٍ واحد أن مَرْكَزَ العَقْلِ فِي الدِّمَاغِ أَبَداً، لم يقل الله: لهم أدمغة يفقهون بها. أبداً، ولكن يقول: ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ﴾، و ﴿وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ﴾ ولم يقل: وتأبى أدمغتهم.
أبداً، والذي خَلَقَ القَلْبَ وَمَنَّ به ووضعه لا شكّ أنه أعلم بالمحل الَّذِي وَضَعَ به مِنْ فَلْسَفَاتِ الكَفَرَةِ الفَجَرَةِ الجَهَلَةِ وأذْنَابِهِمْ، وهذا معنى قوله: ﴿وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ﴾ الفسق: الخروج عن طاعة الله، فكل خارجٌ عن طاعة الله فَهُو فَاسِق، ومنه قوله: ﴿إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾ [الكهف: آية ٥٠] أيْ خَرَجَ عَنْ طَاعَةِ رَبِّهِ، والعَرَبُ تقول: فسق عن الطريق: إذا خرج منها. ومنه قول الرَّاجِزِ (١):
يَهْوَينَ في نَجْدٍ وغَوْراً غَائِراً فَوَاسِقاً عن قَصْدِهَا جَوَائِرَا
فواسقاً؛ أي: خارجات عن طريقهن.
والمراد بالفسق شرعاً: هو الخروج عن طاعة الله. والخروج عن طاعة الله قد يعظم، وقد يكون بعضه أعظم من بعض، فالخروج الأكبر هو الكفر بالله، والمعاصي والكبائر خروج دون خروج؛ ولذا سُمّي الكافر فاسقاً؛ لأنه خارج عن طاعة الله الخروج الأعظم، كقوله جل وعلا: ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ﴾ [البقرة: آية ٢٦] وقد يطلق الفسق على خروج دون خروج، كالمرتكب لبعض الذنوب، كقوله: ﴿إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ﴾ [الحجرات: آية ٦].
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥٩) من سورة البقرة.


الصفحة التالية
Icon