الفزاريين (١). وأشهرُ الرواياتِ وَأَوْلاَهَا بالصوابِ: أن الكفارَ الذين قالوا هذا كفارُ مكةَ؛ لأن الأقرعَ بنَ حابسٍ وعيينةَ بنَ حصنٍ إنما جاؤوا للنبيِّ - ﷺ - في المدينةِ بعدَ الهجرةِ، وهذا مما يُؤَيِّدُ الرواياتِ الواردةَ بأنهم عظماءُ الكفارِ مِنْ أهلِ مكةَ - كانوا يَأْتُونَ النبيَّ - ﷺ - فيجدون معه ضعفاءَ المسلمين الفقراءَ، كخَبَّابٍ، وَعَمَّارٍ، وصهيبٍ، وبلالٍ، وما جرى مَجْرَى ذلك. وفي بعضِ الرواياتِ الثابتةِ أن مِنَ الذين قالوا فيه ذلك من الفقراءِ: سعدَ بنَ أبي وقاصٍ وجماعةً معه. قالوا للنبيِّ: نحن كبارُ رؤساءِ العربِ، وإن اتبعناكَ اتبعكَ الناسُ، ونحن لاَ نَرْضَى أن نجالسَ هؤلاء الأَعْبُدَ، وَيُؤْذِينَا نَتَنُ جِبَابِهمْ - لأنهم كانوا يَلْبَسُونَ جِبَابًا من الصوفِ ليس لهم غَيْرُهَا، فيكونُ فيها ريحُ العرقِ - اطْرُدْ عَنَّا هؤلاء النَّتْنَى لنجلسَ معكَ وَنُكَلِّمَكَ. وفي بعضِ الرواياتِ أنهم قالوا له: إِنْ جِئْنَاكَ فَأَقِمْهُمْ عَنَّا حتى نقولَ لكَ ما نشاءُ، وإن خَرَجْنَا فإن شئتَ فَاقْعُدْ معهم. وفي بعضِ الرواياتِ: أنه - ﷺ - همَّ بأن يجعلَ للعظماءِ الرؤساءِ مَجْلِسًا ليس فيه أولئك. وذكروا أنه دَعَا عَلِيًّا (رضي الله عنه)، وأخذَ الصحيفةَ ليكتبَ فيها عَلِيٌّ؛ لأنهم قالوا له: اكْتُبْ لنا ذلك.
فجاءَه جبريلُ وأنزل اللَّهُ عليه: ﴿وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ﴾ ثُمَّ لَمَّا نَزَلَتْ ألقى الصحيفةَ وامتنعَ مِنْ طَرْدِهِمْ، وكان يجلسُ معهم، فإذا أرادَ القيامَ قامَ عنهم قبلَ أن يقوموا فأنزلَ اللَّهُ عليه: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [الكهف:
_________
(١) أخرجه ابن ماجه، كتاب الزهد، باب مجالسة الفقراء، حديث رقم (٤١٢٧)، (٢/ ١٣٨٢)، والبيهقي في الدلائل (١/ ٣٥٢)، وابن جرير (١١/ ٣٧٦ - ٣٧٧)، والواحدي ص ٢١٧، وانظر: صحيح ابن ماجه (٢/ ٣٩٦ - ٣٩٧).
والعَلَسِ (١)،
والأرزِ والذرةِ، وأنواعِ القطانيِّ الثمانيةِ (٢): كالبَسِيلَةِ (٣)، والجُلُبَانِ (٤)، والحِمَّصِ، والتُّرْمُسِ (٥)، والفولِ إلى غيرِ ذلك من أنواعِ القطانيِّ الثمانيةِ؛ لأن القطانيَّ ثمانيةُ أنواعٍ. وضابُطها: ما يَثْبُتُ فيه الربا من الفولِ والحِمَّصِ والتُّرْمُسِ واللوبيا والجُلُبَانِ والْجُلْجُلاَنِ (٦)، والبَسِيلَةِ. أما الكِرْسِنَّةُ (٧): فالمشهورُ في مذهبِ مالكٍ أنها لا زكاةَ فيها لأنها عَلَفٌ، خلافًا لأشهبَ من أصحابِ مَالِكٍ، إلا أن مشهورَ مذهبِ مَالِكٍ أن الكِرْسِنَّةَ
_________
(١) العَلَس: قيل هو نوع من الحنطة، يكون في القشرة منه حبتان، وقد تكون واحدة أو ثلاث. وقيل هو حبة سوداء تؤكل في الجدب. وقيل: مثل البر إلا أنه عسر الاستنقاء. انظر: المصباح المنير (مادة: علس) ص ١٦١، حلية الفقهاء ص ١٠٥..
(٢) القطاني: اسم جامع للحبوب التي تُطبخ، كالعدس، والباقلاء، واللوبياء، والحمص، والأرز، والسمسم ويقال لها - أيضا -: القِطْنِيَّات، واحدتها قِطْنِيَّة. انظر: المصباح المنير (مادة: قطن) ص ١٩٤ حلية الفقهاء ص ١٠٥.
(٣) قال في اللسان: «والبسيلة: الترمس» ا. هـ. (مادة: بسل) (١/ ٢١٥).
(٤) هو حب أغبر أكدر على لون الماش، إلا أنه أشد كدرة منه وأعظم جرمًا. انظر: اللسان (مادة: جلب) (١/ ٤٧٨).
(٥) هو حَمْلُ شجر له حب مضلَّع محزَّر. أو الباقلاء المصري. انظر: القاموس (مادة: الترمس) ص ٦٨٨.
(٦) يطلق على السمسم في قشره قبل أن يُحصد، وعلى ثمرة الكزبرة. انظر: المعجم الوسيط (مادة: جلجل) (١/ ١٢٨).
(٧) قال في القاموس: «شجرة صغيرة لها ثمر في غُلف، مُصدع مُسهل مُبول للدم، مُسمن للدواب، نافع للسعال، عجينه بالشراب يُبرئ من عضّة الكلب والأفعى والإنسان» ا. هـ. القاموس: (مادة: الكرسنة) ١٥٨٤.
يقول: إن هؤلاء البؤساء النتْنَى الفقراء أنهم ينالون الكرامة!! فيسخرون منهم ويضحكون من دينهم. هذا أمر لا ينبغي، بل يجب على المسلم أن يكون محترماً للدين، معظماً لما جاء من الله، معظماً لرجال العلم، محترماً لرجال الدين، غير مستهزئ بالدين، ولا بحملة الدين، ولا متخذهم مسخرة، هذا هو اللازم.
وهذا معنى قوله: ﴿الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ أي: خدعتهم. والدنيا: تأنيث الأدنى، وإنما سُميت (دنيا) لدنوها. أي: قربها، أو لدناءتها بالنسبة إلى الآخرة.
ثم قال الله: ﴿فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ﴾ [الأعراف: آية ٥١] المراد بالنسيان هنا: الترك مع العلم التام؛ لأن الله لا ينسى، كما قال: ﴿عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى﴾ [طه: آية ٥٢] والعرب تُطلق النسيان على ذهاب الشيء عن علم الإنسان بعد أن كان يعلمه، وهذا المعنى مستحيل على الله، وتطلق النسيان على الترك عمداً (١). وهو المقصود هنا وهو في آيات كثيرة ﴿فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ﴾ [الأعراف: آية ٥١] أي: نتركهم عن إرادة وقصد يتقلبون في دركات النار، وأنواع العذاب.
﴿كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَذَا﴾ [الأعراف: آية ٥١] أي: نسياناً كنسيانهم لقاء يومهم هذا؛ لأن هذا اليوم لم ينسوه، وإنما تركوا العمل له عمداً وقصداً وعناداً للرسل ﴿كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَذَا﴾.
﴿وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ﴾ [الأعراف: آية ٥١] في قوله: ﴿وَمَا﴾ ﴿وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ﴾ وجهان من
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٤١) من سورة الأنعام.
فقوله: ﴿كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا﴾ يدل على أن جميع الأفواج التي دخلت النار أنذرتهم الرسل في دار الدنيا.
وقد صرّح الله بذلك في سورة الزمر - التي ذكر فيها القيامة كأنك تنظر إليها- قال: ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (٧١)﴾ [الزمر: آية ٧١] وكذلك لما قسم الله (جل وعلا) الخلائق قسمين في سورة فاطر جعل المسلمين ثلاث طوائف في قوله: ﴿فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [فاطر: آية ٣٢] ثم ذكر الكفار فقال: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (٣٦) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ﴾ [فاطر: الآيتان ٣٦، ٣٧] فقوله: ﴿وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ﴾ هو محل الشاهد و ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾ عام لما تَقَرَّر في الأصول أنّ صيغ الموصولات أنها من صيغ العموم؛ لأن الموصول من المعلوم أنه يعم كل ما تشمله صلته كما هو معروف في محله (١).
وهذا معنى قوله: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ﴾ على القول الأول: بلسان [الحال] (٢)، وعلى
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١٣١) من سورة الأنعام.
(٢) وقع للشيخ (رحمه الله) في هذا الموضع سبق لسان، فالعبارة في الأصل: «على القول الأول: بلسان المقال، خلق فيهم عقولاً أدركوا بها ﴿وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ﴾ بلسان المقال: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى﴾ أنت ربنا» وقد جرى تصويبه بين المعقوفين [].
وقوله ﷺ في أحاديث الزيارة: «وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لاَحِقُونَ» (١) وهم لاحقون بهم قطعاً، قالوا: السر في هذا التعليق ليُعَلِّم الله خلقه أنهم لا يتكلمون عن مستقبل إلا بتعليقه على مشيئة من له المشيئة، ولو كان أمراً واقعاً لا محالة فكيف بغيره.
أما الكوفيون فإنهم يقولون: إن (إن) هذه بمعنى (إذ) وأنها تعليلية، ويقولون: «فالله أحق أن تخشوه إذ كنتم مؤمنين» أي: لأجل كونكم كنتم مؤمنين فذلك يستوجب منكم الخشية، وإطلاق (إن) بمعنى (إذ) رُبَّمَا سُمِع في كلام العرب، وأنشد له بعض علماء العربية قول الفرَزْدَق (٢):

أتَغْضَبُ إن أُذْنَا قُتيبة حُزَّتَا جِهَاراً ولم تَغْضَب لِقَتْلِ ابْنِ خَازِمِ
يعني: أتغضب لأجل «إذ حُزَّتْ أُذُنَا قُتَيْبَةَ؛ لأجل أَنْ حُزَّتَا» وهذان الوجهان في قوله: ﴿فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ﴾ [التوبة: آية ١٣].
قال تعالى: ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ (١٤) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٥)﴾ [التوبة: الآيتان ١٤، ١٥].
[﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ] (٣) وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ﴾.
_________
(١) السابق.
(٢) السابق.
(٣) أول الآية ذهب من التسجيل. وقد أثبتُّ أولها وجعلته بين معقوفين.


الصفحة التالية
Icon