في قَائِلِهَا (١):
الْمَرْءُ يَرْغَبُ فِي الْحَيَا | ةِ وَطُولُ عَيْشٍ قَدْ يَضُرُّهْ |
تَفْنَى بَشَاشَتُهُ وَيَبْـ | ـقَى بَعْدَ حُلْوِ الْعَيْشِ مُرُّهْ |
وَتَسُوؤُهُ الأَيَّامُ حَتَّـ | ـى مَا يَرَى شَيْئًا يَسُرُّهْ |
وقولُه في هذه الآيةِ: ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ ليس يمكنُ لأحدٍ أن يُلْزِمَ اللَّهَ شيئًا، ولكن اللَّهَ يُلْزِمُ نفسَه ما شَاءَ، ومعنى إلزامِه: أن يُخْبِرَ به، ووعدُه (جل وعلا) صادقٌ لا يتخلفُ، فما وَعَدَ اللَّهُ به فهو واجبُ الوقوعِ لازمُه محتومٌ؛ لأن اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الميعادَ، وقد ثَبَتَ عن النبيِّ - ﷺ - في الصحيحِ من حديثِ أبي هريرةَ ما يدلُّ على أن اللَّهَ (جل وعلا): كَتَبَ في كتابٍ فهو عندَه فوقَ عرشِه: «إِنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي» (٢)، وسيأتي في قولِه جل وعلا: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ [الأعراف: آية ١٥٦] فرحمةُ اللَّهِ (جل وعلا) وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، ولا يَهْلَكُ على اللَّهِ إلا هَالِكٌ. ألا تَرَوْنَ ما يدلُّ على نظائرَ كثيرةٍ من هذا في القرآنِ؟
تعلمونَ أنه لا أحدَ أشنعُ قولاً من الذين قالوا: إن اللَّهَ ثالثُ ثلاثةٍ، ومع هذه الفريةِ
_________
(١) هذه الأبيات نسبها بعضهم لمضرس بن ربعي، كما في (المعمرون والوصايا) لأبي حاتم كما تُنسب لأبي العتاهية وهي في ديوانه ص ١٠٤ وهي في الحماسة للبحتري ص ٩٥ مع بعض الاختلاف في اللفظ.
(٢) البخاري، كتاب بدء الخلق، باب: ما جاء في قول الله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ... ﴾ حديث رقم (٣١٩٤)، (٦/ ٢٨٧)، وأخرجه في مواضع أخرى، انظر: الأحاديث: (٧٤٠٤، ٧٤٢٢، ٧٤٥٣، ٧٥٥٣، ٧٥٥٤)، ومسلم، كتاب التوبة، باب: في سعة رحمة الله تعالى. حديث رقم (٢٧٥١)، (٤/ ٢١٠٧).
أَيَامَ يَدْعُونَني الشَّيْطَان مِنْ غَزَلٍ | وَكنَّ يَهْوَيْنَني إذْ كُنْتُ شيطاناً |
حَمَلَ المسكينَ على المُد، وأجازَ أن يُعْطَى إطعامُ الستينَ لمسكينٍ واحدٍ. وقالوا: حَمْلُ (المسكين) على (المُدِّ) من التأويلِ البعيدِ. هكذا يمثلونَ، وَقَصْدُنَا المثالُ لاَ مناقشة أدلةِ أقوالِ العلماءِ هنا.
أما إذا كان صُرِفَ الكلامُ عن ظاهرِه المتبادرِ منه لاَ لدليلٍ في نفسِ الأمرِ ولاَ لدليلٍ [خارجيٍّ صحيحٍ فإن ذلك لاَ يُعَدُّ من التأويلِ المقبولِ] (١) بل هو تَلاَعُبٌ بنصوصِ القرآنِ، وكقولِهم: ﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ﴾ [الرحمن: آية ١٩] البحرين: عَلِيٌّ وَفَاطِمَةُ: ﴿بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ﴾ [الرحمن: آية ٢٠] الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ. فهذا ليس من التأويلِ، وإنما هذا من اللعبِ والتلاعبِ بكتابِ اللَّهِ. ويكثرُ مثلُ هذا في تفسيرِ الْبَاطِنِيِّينَ وغلاةِ الروافضِ، ولا يُسَمَّى تأويلاً وإنما هو لَعِبٌ.
أما التأويلُ في القرآنِ فمعناه: ما تَؤُولُ إليه حقيقةُ الأمرِ. فقولُه: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ﴾ أي: ما تَؤُولُ إليه حقيقتُه من دخولِ أهلِ الجنةِ الجنةَ، ودخولِ أهلِ النارِ النارَ.
ثم قال: ﴿يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ﴾ [الأعراف: آية ٥٣] أي: يومَ يأتِي الوقتُ الذي تُحَقَّقُ فيه مواعيدُ القرآنِ، وتحقق الوعد للمؤمنِ والوعيد للكافرِ.
﴿يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ﴾ [الأعراف: آية ٥٣] أي: تَرَكُوهُ وَتَنَاسَوُا العملَ به في دارِ الدنيا. ﴿قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ﴾ [الأعراف: آية ٥٣] هذا القرآنُ ونحوُه من الكتبِ كان حَقًّا، والذي أَمَرَ بأن يَدْخُلَ مَنِ امْتَثَلَهُ الجنةَ، ونحن - والعياذُ بالله - لَمَّا لم نَمْتَثِلْ
_________
(١) في هذا الموضع وُجِدَ انقطاعٌ في التسجيل، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.
[الشورى: آية ٥٢]. ومن إطلاق الضلال على الذهاب عن حقيقة علم الشيء قول الشاعر (١):
وتَظُنُّ سَلْمَى أَنَّنِيْ أَبْغِيْ بِهَا | بَدَلاً أُرَاها في الضَّلاَلِ تَهِيمُ |
والخاسرون جمع الخاسر. وبعض العلماء يقول: ﴿الْخَاسِرُونَ﴾: الهالكون. وأصل الخسران (٢): هو ذهاب مال التاجر، سواءً كان ربحًا أو رأس مال، وكل من خسر شيئًا من ماله فقد خسر. وخسران الناس: المراد به غبنهم حظوظهم من ربهم (جل وعلا) (٣)، وقد أقسم الله (جلّ وعلا) على أن هذا الخسران لا ينجو منه أحد إلاّ بتلك الصفات المقررة المعروفة في تلك السورة الكريمة، أعني قوله تعالى: ﴿وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (٢)﴾ ﴿إِنَّ الإِنسَانَ﴾ الألف واللام للاستغراق، فهو بمعنى: إن كل إنسان كائنًا من كان لفي خسر، أي: في غبن من حظوظ ربه (جل وعلا) ونقص ﴿إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (٣)﴾ [العصر: الآيات ١ - ٣].
وخسران الناس: أي: غبنهم في حظوظهم من ربهم (جل وعلا).
_________
(١) تقدم هذا الشاهد عند تفسير الآية (٣٩) من سورة الأنعام.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٩) من سورة الأعراف.
(٣) السابق.
مَجَّانًا. وعن ابنِ عباسٍ (رضي الله عنهما) أن أعرابيًّا جاء واستسقاهم من سقايتِهم فسقوه نبيذًا، فقال الأعرابيُّ: سبحان الله! إن الناس يسقونَ في سقايتهم اللبنَ والعسلَ وأنتم تسقونَ النبيذَ!! يعيبهم بأن سقايتَهم نبيذٌ. فأخبره ابنُ عباسٍ أن النبيَّ ﷺ مرَّ بهم وَسَقَوْهُ من نبيذِها، وأمرهم أن يسقوا الناسَ منه. قال: لا نزيدُ على ما أمرنا به رسولُ اللَّهِ ﷺ (١). ومعلومٌ أن هذا النبيذَ الذي أمر النبيُّ بِسَقْيِهِ على تقديرِ صحةِ هذا أنه نبيذٌ لا يُسْكِرُ كثيرُه؛ لأن النبيذَ الذي يُسْكِرُ كثيرُه لاَ ينبغي أن يُقْدَمَ على شُرْبِهِ؛ لأنه ثَبَتَ عن النبيِّ ﷺ أنه قال: «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ» (٢) كما هو معروفٌ. فهذه هي سقايةُ الحاجِّ.
والرفادةُ والحجابةُ التي هي سدانةُ البيتِ كانت كُلُّهَا لعبدِ الدارِ، وَلَمَّا شبَّ أولادُ عبدِ منافٍ وأرادوا نزعَ هذه الأشياءِ من بَنِي عبدِ الدارِ، ووقعت المخالفةُ بينَ قريشٍ، وتحالفوا للقتالِ الحلف الذي يقال فيه «حِلْفُ الْمُطَيِّبِينَ» و «حِلْفُ لَعَقَةِ الدَّمِ» كما هو معروفٌ، ثم اصطلحوا على أن تبقَى السقايةُ والرفادةُ أن تُرَدَّ لِبَنِي عبدِ منافٍ، ويبقى للعبدريين اللواءُ والندوةُ وحجابةُ البيتِ، أي: سدانة الكعبة حرسها اللَّهُ. فهذه السقايةُ كانوا يفتخرونَ بها ويقولونَ: نحن نَسْقِي الحجَّ ونعمر بيت الله!! ويجعلونَ هذا أفضلَ ممن يؤمنُ بالله، فأنكر اللَّهُ عليهم فقال: ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ﴾ [التوبة: آية ١٩] الحجاجُ يقدمونَ عليكم فتسقونَهم ﴿وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ كَتَرْمِيمِهِ وبنائِه.
_________
(١) أخرجه ابن سعد (٢/ ١٣١)، وأورده السيوطي في الدر (٣/ ٢١٩) وعزاه لابن سعد.
(٢) مضى عند تفسير الآية (١١٥) من سورة الأنعام.