(شُحوبٌ) بالضمِّ، والمعنى: وللحبِّ آياتٌ تَبَيَّنُ بالفتِى، أي: تَظْهَرُ وتلوحُ بالفتَى. ما هذه الآياتُ؟ شحوبٌ وَتَعْرَى من يديه الأصابعُ. وَرَوَى بيتَ ابنِ ذريحٍ هذا ثعلبٌ، رواه ثعلبٌ:
وَلِلْحُبِّ آيَاتٌ تُبَيِّنُ بِالْفَتَى شُحُوبًا................
بالنصبِ (١) وعلى هذه الروايةِ فلا شاهدَ في البيتِ. ومن إتيانِ (بَيَّنَ) لازمةً قولُ جريرٍ (٢):
رَأَى النَّاسُ الْبَصِيرَةَ فَاسْتَقَامُوا وَبيَّنَتِ الْمِرَاضُ مِنَ الصِّحَاحِ
يعني: ظَهَرَتْ وَتَبَيَّنَتْ. وقولُه يهجو الفرزدقَ (٣):
وُجُوهُ مُجَاشِعٍ طُلِيَتْ بِلُؤْمٍ | يُبَيِّنُ فِي الْمُقَلَّدِ وَالْعِذَارِ |
وقولُه: ﴿وَلِتَسْتَبِينَ﴾ - على قراءةِ الجمهورِ من (اسْتَبَانَ) اللازمةِ - معناه: ولتظهرَ طريقُ المجرمين. و (المجرمون) جمعُ (المجرمِ)، و (المجرمُ): اسمُ فاعلِ (الإجرامِ)، و (الإجرامُ): ارتكابُ الجريمةِ، و (الجريمةُ): الذنبُ العظيمُ الذي يستحقُّ صاحبُه
_________
(١) انظر: المصدر السابق.
(٢) ديوان جرير (١/ ٩٠)، الأضواء (٦/ ٢٢٥).
(٣) ديوان جرير ص ١٤٦، الأضواء (٦/ ٢٢٥).
الله ربما هدى بعض الظالمين، كَمْ مِنْ كافرٍ ظالمٍ يهديه الله؟ وللعلماء عنها جوابان (١):
أحدهما: أنها في خصوص الظالمين الذين سبق لهم في الأزل الشقاء، الذين قال الله فيهم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ﴾ [يونس: الآيتان ٩٦، ٩٧].
القول الثاني: لا يهدي الظالمين ما داموا مصرّين على ظلمهم، فإن رزقهم الله التوبة والإنابة زال اسم الظلم عنهم، ولم يدخلوا في عداد الظالمين، فصار لا إشكال في هدايتهم، وهذا معنى الآية الكريمة.
يقول الله جل وعلا: ﴿قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤٥)﴾ [الأنعام: الآية ١٤٥].
تكلمنا بعض الكلام على هذه الآية (٢)، وذكرنا حُكْمَ الميتات البرية والبحرية، وذكرنا بعض ما زادَتْهُ النصوص من المحرَّمَات على هذه المحرمات الأربع، وذكرنا خلاف بعض العلماء في أشياء منه، وسنتَكَلّم - إن شاء الله - الآن بعض الكلام على بقية الآية.
_________
(١) انظر: البحر المحيط (٢/ ٢٨٩)، (٤/ ٢٤٠)، التحرير والتنوير (٨/ ١٣٥ - ١٣٦).
(٢) الدرس المشار إليه لم أقف عليه، وللوقوف على كلام الشيخ (رحمه الله) على هذه المسائل انظر: الأضواء (٢/ ٢٤٦) فما بعدها.
هي الْبَلِيَّةُ الثانيةُ الْعُظْمَى؛ لأن مَنْ يدعي على صفاتِ اللَّهِ التي مَدَحَ بها نفسَه في كتابِه مُعَلِّمًا خلقَه أن يمدحوه بها مَنِ ادَّعَى عليها أن ظاهرَها قذرٌ، وأنه نَجِسٌ، وأنه خبيثٌ؛ لأنه مشابهةُ الخلقِ، هذه هي البليةُ الأُولَى من البلايا اللازمةِ لمذهبِ الخلفِ.
والبليةُ الثانيةُ: هو أنه إذا اسْتَحْكَمَ هذا التشبيهُ في قلبِه اضطر إلى أن ينفيَ الصفةَ، فيقولُ: هذا الاستواءُ ظاهرُه مشابهةُ المخلوقين فيلزمُ أن نَنْفِيَهُ ونصرفَه عن ظاهرِه إجماعًا؛ لأنه أَوْهَمَ غيرَ اللائقِ، فينفي الوصفَ الذي مدحَ اللَّهُ به نفسَه في سبعِ آياتٍ من كتابِه، والوصفُ الذي مَدَحَ اللَّهُ به نفسَه في سبعِ آياتٍ من كتابِه مَنْ نَفَاهُ فهو أَجْرَؤُ من خَاصِي الأسدِ بأضعافٍ، وهو واقعٌ في بليةٍ عُظْمَى، وجنايةٌ كبرى بلا شَكٍّ. ثم إذا ادَّعَى على الصفةِ أن ظاهرَها لا يليقُ ثم نَفَاهَا بسببِ هذه الدعوى جاءَ بصفةٍ أُخْرَى من كِيسِهِ الخاصِّ، من غيرِ اعتمادٍ إلى كتابٍ، ولا إلى سُنَّةٍ، يَظُنُّ أنها هي الكمالُ، فيقولُ: إذًا معنَى (استوى): اسْتَوْلَى، ثم يضربُ لذلك مثلاً ببيتِ الراجزِ المشهورِ (١):
قَدِ اسْتَوَى بَشَرٌ عَلَى الْعِرَاقِ | مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مِهْرَاقِ |
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١٥٨) من سورة الأنعام.
والعرب تقول: أَلْحَد يُلحِدُ، ولَحَدَ يَلْحَدُ. إذا مال عن الحق، أصل (اللَّحد) في لغة العرب والإلحاد: الميل عن القصد والجور عنه، ومنه اللحد في القبر؛ لأنه حفر أُميل به عن وضعه الأول إلى جهة القبلة ولم يكن على سمت الحفر الأول.
وقرأ هذا الحرف عامة القراء السبعة غير حمزة: ﴿وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ﴾ وقرأه حمزة من السبعة: ﴿وذروا الذين يَلْحَدُون في أسمائه﴾ بفتح الياء والحاء. وهما قراءتان صحيحتان (١)، ولغتان عربيتان فصيحتان.
ومعنى إلحادهم بالأسماء (٢): قال بعض العلماء: يلحدون فيها: يميلون فيها عن الحق، كاشتقاقهم اللات من اسم الله، واشتقاقهم العُزى من اسم العزيز، واشتقاقهم مناة من اسم المنان. وقال بعض العلماء: إلحادهم في أسماء الله: إنكارها، ومن أمثلة ذلك أن الله يقول: ﴿إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (٤)﴾ [الصافات: آية ٤] وهم يلحدون في اسمه الواحد، ويقولون: ﴿أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (٥)﴾ [ص: آية ٥] وهذا من أعظم الإلحاد وأكبره.
وقوله: ﴿سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ سيجزيهم الله يوم القيامة جزاء ما كانوا يعملونه في الدنيا، ويدخل في ذلك دخولاً أوليًّا إلحادهم في أسمائه (جل وعلا). وهذا معنى قوله: ﴿سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾. وقوله تعالى: ﴿وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٨١)﴾
_________
(١) انظر: المبسوط لابن مهران ص٢١٦.
(٢) في هذه المسألة انظر: بدائع الفوائد (١/ ١٦١ - ١٧٠)، القواعد المثلى ص١٦، المنهاج الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى (١/ ٥٥)، النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى (١/ ٣٦).
وقد قَدَّمْنَا في هذه الدروسِ مِرَارًا (١) أن أصلَ مادةِ (الظلمِ) مادةُ: (الظاء واللام والميم) (ظَلَم) أنها في لغةِ العربِ التي نَزَلَ بها القرآنُ أصلُها في الوضعِ العربيِّ: هو وضعُ الشيءِ في غيرِ مَحَلِّهِ. فَمَنْ وَضَعَ شيئًا في غيرِ مَحَلِّهِ تقولُ العربُ: إنه ظَلَمَ؛ لأنه وَضَعَ الشيءَ في غيرِ محله. ومنه قالوا للذي يَضْرِبُ لَبَنَهُ قبلَ أن يروبَ: «ظالم». لأنه وَضَعَ الضربَ في غيرِ محلِّه؛ لأنه يُفْسِدُ زُبْدَهُ، ومنه قولُ الشاعرِ (٢):
وَقَائِلَةٍ ظَلَمْتُ لَكُمْ سِقَائِي | وَهَلْ يَخْفَى عَلَى الْعَكَدِ الظَّلِيمُ |
وَصَاحِبِ صِدْقٍ لَمْ تَرِبنْيِ شَكَاتُهُ | ظَلَمْتُ وَفِي ظُلْمِي لَهُ عَامِدًا أَجْرُ |
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥١) من سورة البقرة.
(٢) السابق.
(٣) السابق.