لتستبينَ سبيلُ المجرمين وسبيلُ المؤمنين. قالوا: ومنه: ﴿سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ﴾ [النحل: آية ٨١] أي: والبردَ ﴿وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ﴾ [الأنعام: آية ١٣] أي: [وما تَحَرَّكَ] (١)، وحَذْفُ الواوِ وما عَطَفَتْ إن دَلَّ المقامُ عليه معروفٌ في كلامِ العربِ، وإليه أشارَ ابنُ مالكٍ في الخلاصةِ بقولِه (٢):
وَالْفَاءُ قَدْ تُحْذَفُ مَعْ مَا عَطَفَتْ وَالْوَاوُ إِذْ لاَ لَبْسَ.....
يعني: وكذلك الواوُ تُحْذَفُ مع ما عَطَفَتْ كالفاءِ إن لم يَكُنْ هنالك لَبْسٌ.
﴿قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لاَ أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (٥٦) قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (٥٧) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (٥٨) وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (٥٩)﴾ [الأنعام: الآيات ٥٦ - ٥٩].
يقول اللَّهُ جل وعلا: ﴿قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لاَ أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾ [الأنعام: آية ٥٦].
_________
(١) في الأصل: «والنهار». وهذا سبق لسان أو وهم من الشيخ - رحمه الله - لأن النهار مذكور في الآية. وإنما الذي يذكره العلماء عند هذه الآية هو ما أثبته أعلى، والله أعلم. انظر: قواعد التفسير (١/ ٣٧٤).
(٢) مضى عند تفسير الآية (٤٢) من هذه السورة، وبقية البيت: «وهي انفردت».
غيلان بن عقبة (١):
أَمِنْ دِمْنَةٍ جَرَّتْ بِهَا ذَيْلَهَا الصَّبَا... لِصَيْدَاءَ - مَهْلاً - مَاءُ عَيْنِك سَافِحُ
أي: جارٍ مُنْصَبّ. وهو هنا من (سَفَحَ) اللازمة.
والدم المسفوح: هو المَصْبُوبُ مِنْ شَيْء حَيٍّ، كما كان يفعله العرب، أو يكون خارجاً من أجْلِ الذَّكَاةِ أو العقر. كانت عادة العرب إذا جاعوا أن يفصد الواحد منهم عِرْقاً من جَمَله، ثم يجعل تحت الدم إناء، حتى يجتمع من عِرْق الجمل دمٌ في الإناء، ثم يطبخه بالأبازير ويأكلونه، فحرم الله عليهم أكْلَ الدَّمِ، وهو حرام، والانتفاع به حرام.
وأصل الدم: أصله (دَمَيٌ) بالياء على التحقيق، فلامه المحذوفة ياء، وغلط من علماء العربية من زعم أن لامه المحذوفة واو (٢) ووزنه بالميزان (.... ) (٣).
فتكون بالعين (يَدْمَى) والألف مبدلة من الياء، أصله (يَدْمَي) كما هو معروف.
فَلَسْنَا عَلَى الْأَعْقَابِ تَدْمَى كُلُومُنَا... وَلَكِنْ عَلَى أَقْدَامِنَا تَقْطُرُ الدَّمَا (٤)
هَلْ أَنْتِ إِلَّا إِصْبَعٌ دَمِيْتِ... وَفِي سَبِيلِ اللهِ مَا لَقِيتِ (٥)
_________
(١) ديوان ذي الرمة (٢/ ٨٥٩).
(٢) انظر: معجم مفردات الإبدال والإعلال ص ١٠٩، وقد ذكر في أصل (الدم) ثلاثة مذاهب للعلماء.
(٣) في هذا الموضع انقطع التسجيل، ويمكن استدراك ذلك بمراجعة أضواء البيان (١/ ١٠٤ - ١٠٥).
(٤) البيت للحصين بن الحمام المري. وهو في اللسان (مادة: دمي) (١/ ١٠١٧)، الفروسية لابن القيم ص٤٩٣، مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (١٢/ ١٩٧).
(٥) عن جندب بن سفيان (رضي الله عنه) قال: «دميت إصبع رسول الله - ﷺ - في بعض تلك المشاهد فقال... » وذكره. وهو في البخاري (٢٨٠٢، ٦١٤٦)، ومسلم (١٧٩٦)، وساق الذهبي بإسناده إلى جندب بن سفيان (رضي الله عنه) وفيه أن الذي قاله إنما هو أبو بكر (رضي الله عنه) حينما دخل الغار فأصاب إصبعه شيء (السير ٩/ ٥٢٨).
الذي زَعَمَ باستيلاءِ بشرِ بنِ مروانَ على العراقِ؟ فهذا أَخَسُّ التشبيهِ وأشنعُ التشبيهِ، ولو كان عَالِمًا بما يعلمُ به السلفُ الصالحُ لَعَلِمَ أن الاستواءَ الذي مَدَحَ اللَّهُ به نفسَه أنه بالغٌ من غاياتِ الكمالِ والجلالِ ما يقطعُ علائقَ الوساوسِ وأوهامَ المشابهةِ بينَه وبينَ صفاتِ المخلوقينَ، فَيُثْبِتُهُ لِلَّهِ كما أَثْبَتَهُ على نفسِه إثباتًا مُنَزَّهًا عن مشابهةِ صفاتِ المخلوقين، مُقَدَّسًا مكَبَّرًا مُعَظَّمًا مُنَزَّهًا عن مشابهةِ المخلوقين على نحوِ: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى: الآية ١١].
وهنا شُبَهٌ نتعرضُ لها وربما خَطَرَ في ذهنِ الإنسانِ أن يقولَ: ذكرتُم لنا أن كُلَّ وصفٍ أَثْبَتَهُ اللَّهُ لنفسِه يجبُ أن نعتقدَ أن ذلك الوصفَ بالغٌ من غاياتِ الكمالِ والجلالِ والتقديسِ والتنزيهِ والإعظامِ والإجلالِ والإكبارِ ما يقطعُ الوساوسَ وعلائقَ أوهامِ المشابهةِ بينَه وبينَ صفاتِ المخلوقينَ، ومن ذلك صفةُ الاستواءِ، وصفةُ الوجهِ، وصفةُ اليدِ، ونحو ذلك مما ثَبَتَ مِمَّا مَدَحَ اللَّهُ به نفسَه في كتابِه أو مَدَحَهُ بها رسولُه صلى الله عليه وسلم.
فإن قالوا: نحنُ لاَ نعلمُ كيفيةَ استواءٍ منزهةً عن كيفيةِ استواءِ المخلوقين، فَلَمْ تُدْرِكْ عقولُنا إلا هذا الاستواءَ الذي هو انتصابٌ مُشَابِهٌ لصفاتِ المخلوقين فَبَيِّنُوا لنا كيفيةَ استواءٍ منزهةً معقولةً لنعتقدَ كيفيةً منزهةً.
فالجوابُ على هذه الشبهةِ من وجهين:
أحدُهما: أن نقولَ أَوَّلاً: هل عرفتُم - أيها المتنطعونَ - كيفيةَ الذاتِ الكريمةِ المقدسةِ المتصفةِ بهذا الاستواءِ؟ فلا بُدَّ أن يقولوا: لاَ، فنقولُ: معرفةُ كيفيةِ الاتصافِ بالصفاتِ متوقفةٌ على معرفةِ كيفيةِ الذاتِ؛ لأن كُلَّ صفةٍ هي بحسبِ موصوفاتِها، والصفاتُ تتباينُ
إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (١٨٧)} [الأعراف: الآيات ١٨٢ - ١٨٧].
يقول الله جل وعلا: ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ (١٨٢) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (١٨٣)﴾ [الأعراف: الآيتان ١٨٢، ١٨٣].
بيّن الله (جل وعلا) في هذه الآية أنّه يستدرج الكافرين فيغدق عليهم نعمه وهم يصرون على الكفر به، حتى تبطرهم النعم وتتزايد غفلتهم، فيستمروا على ذلك حتى تنتهي آجالهم فيأخذهم الله (جل وعلا) في غفلتهم بعذابه وإهلاكه ثم يصيرون إلى النار.
﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا﴾: في محل مبتدأ والخبر جملة ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ والتكذيب: الجحود والإنكار.
والآيات: جمع آية وقد قدمنا في هذه الدروس مرارًا (١): أن للآية في لغة العرب إطلاقين عربيّين مشهورين، وأنّ لها في القرآن إطلاقين أيضًا.
قال علماء التصريف (٢): التحقيق في الآية أن أصلها: (أَيَيَة)، ووزنها: (فَعَلَة) فهمزها: فاء، وعينها: ياء، ولامها: ياء، والياءان المفتوحتان بعد الهمزة قد اجتمع فيهما موجبا إعلالٍ، والمقرر في فنِّ التصريف: أنّه إنْ اجتمع موجبا إعلال كان الإعلال في الأخير، إلا أنّه ربما وقع الإعلال في الأول كما هنا، فأعلوا الياء الأولى وأبدلوها ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها؛ ولو جرى على الأغلب في اللغة،
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٧٣) من سورة البقرة.
(٢) السابق.
﴿وَأَزْوَاجُكُمْ﴾ الأزواجُ جمعُ زوجٍ، وزوجُ الرجلِ امرأتُه، ومفردُه (زوج) بلا هاءٍ، وهذه هي اللغةُ الفصيحةُ. العربُ تقولُ: هذه زوجُه، أي: امرأتُه، وزعم بعضُ علماءِ العربيةِ أن قولَهم (زوجتُه) بالتاءِ أنها من لَحْنِ الفقهاءِ، وأنها لا أساسَ لها في العربيةِ. والتحقيقُ أن اللغةَ الفصحى في امرأةِ الرجلِ أنها (زوجُه) بلا تاءٍ، وأن التاءَ لغةٌ فيها مسموعةٌ وليست لَحْنًا كما يقولُه بعضُهم (١). وَمِنْ إِطْلاَقِ الزوجةِ بالتاءِ على امرأةِ الرجلِ قولُ الفرزدقِ، هَمَّامِ بْنِ غَالِبٍ، وهو عربيٌّ قُحٌّ (٢):
وَإِنَّ الَّذِي يَسْعَى لِيُفْسِدَ زَوْجَتِي | كَسَاعٍ إِلَى أُسْدِ الشَّرَى يَسْتَبِيلُهَا |
فَشَكَا بَنَاتِي شَجْوَهُنَّ وَزَوْجَتِي | وَالظَّاعِنُونَ إِلَيَّ ثُمَّ تَصَدَّعُوا |
﴿وَعَشِيرَتُكُمْ﴾ قرأ هذا الحرفَ عامةُ السبعةِ - غير أبي بكرٍ عن عاصمٍ - (أعني بأبي بكر: شعبةَ) قرؤوه كلُّهم: ﴿وَعَشِيرَتُكُمْ﴾ بالإفرادِ.
_________
(١) راجع ما سبق عند تفسير الآية (١٨٩) من سورة الأعراف.
(٢) السابق.
(٣) السابق.
(٤) السابق.