إن مَحَلَّهُ النصبُ، وخالفَهم في هذا الأخفشُ الصغيرُ - عَلِيُّ بنُ سليمانَ النحويُّ المشهورُ - قال: مَحَلُّهُ الخفضُ؛ لأنه مخفوضٌ بالحرفِ المحذوفِ. قال: والدليلُ على ذلك أَنَّا وَجَدْنَا في كلامِ العربِ الفصحاءِ خفضَ المعطوفِ عليه، كقولِ الشاعرِ (١):
وَمَا زُرْتُ لَيْلَى أَنْ تَكُونَ حَبِيبَةً إِلَيَّ وَلاَ دَيْنٍ بِهَا أَنَا طَالِبُهْ
فالروايةُ: «ولا دَيْنٍ» بالخفضِ وهو معطوفٌ على مصدرٍ مُنْسَبِكٍ من (أن) وصلتِها، مجرورٌ بحرفٍ محذوفٍ، وهو: «أن تكونَ» في قولِه: «وَمَا زُرْتُ لَيْلَى أَنْ تَكُونَ حَبِيبَةً» أي: لكونِها حبيبةً، ولا لِدَيْنٍ. وقد أَجَازَ سيبويه الوجهين، واحتجَّ جماهيرُ النحويين عن هذا البيتِ - الذي أنشده الأخفشُ مُدَّعِيًا به أن المصدرَ المنسبكَ من «أن» وصلتِها المجرورَ بحرفٍ محذوفٍ، أن محلَّه الخفضُ - أجابوا عن ذلك: بأن محلَّه النصبُ، وأن خفضَ «ولاَ دَيْنٍ» - بالجرِّ - أنه من نوعِ العطفِ المعروفِ بعطفِ التوهمِ، وعطفُ التوهمِ معروفٌ عند النحويين، وهو أن تكونَ الكلمةُ منصوبةً أو مرفوعةً، إلا أنها يجوزُ فيها أن تُجَرَّ فيتوهمون أنها مجرورةٌ، يتوهمون الوقوعَ من مطلقِ الجوازِ، ويعطفون عليها بالجرِّ، ومنه قولُ زهيرٍ وهو عربيٌّ قُحٌّ جَاهِلِيٌّ (٢):
بَدَا لِيَ أَنِّي لَسْتُ مُدْرِكَ مَا مَضَى وَلاَ سَابِقٍ شَيْئًا إِذَا كَانَ جَائِيَا
فإن الروايةَ بنصبِ (مُدْرِكَ)، وخفضِ (سابقٍ)؛ لأن «لستُ مُدْرِكَ مَا مَضَى» يجوزُ جرُّه بالباءِ؛ لأن خبرَ ليس يجوزُ جرُّه بالباءِ،
_________
(١) السابق.
(٢) السابق.
لأن المقيد هنا هو المتقدم في النزول؛ لأن سورة الأنعام نازلة قبل السور الأُخر الثلاث التي حرم فيها الدم، التي هي النحل، والبقرة، والمائدة (١).
أما كون الأنعام قبل البقرة والمائدة فهو واضحٌ لا يخفى؛ لأن الأنعام مكية بالإجماع، والبقرة والمائدة مدنيتان بالإجماع، فهذه قبل الهجرة، وهاتان بعدها، فكونهما بعدها لا إشكال فيه، أما النحل فالتحقيق أنَّهَا مكية، وزعم بعضهم أنها مدنيَّة، وهو غلط ممن زعمه، والذي سبَّب هذا الغلط: أن خواتيم سورة النحل نزلت في المدينة في شهداء أُحد لما مثَّل المشركون بحمزة بن عبد المطلب - رضي الله عنه - وعبد الله بن جحش وغيره من شهداء أُحد، فقد قطّعوا آنافهم وآذانهم، وأخذت هند بنت عتبة بن ربيعة - وهي يوم أُحد كافرة - نظمت قلادة من آذان الصحابة وآنافهم، كما هو معروف في السيرة، وتقلدتها، وأخذت قلادتها وجعلتها في عنق الوحشي عبد جبير بن مطعم بن نوفل بن عدي النوفلي؛ لأنه هو الذي قتل حمزة، ثم رقيت على صخرة من صخرات أُحُدٍ وبَكَتْ؛ لأنهم كانوا اشترطوا يوم بدر ألَّا يبكي أَحدٌ منهم على قتيله حتى يقتصوه، فلما قُتل حمزة وعبد الله بن جحش، هذا عم النبي وهذا ابن عمته، وقتل شماس بن عثمان من المهاجرين، ومن الأنصار سبعون من خيارهم، رقيت على صخرة من صخرات أُحدٍ وبكت تقول:
نَحْنُ جَزَيْنَاكُمْ بِيَوْمِ بَدْرِ | وَالحَرْبُ بَعْدَ الحَرْبِ ذَاتُ سُعْرِ |
مَا كَانَ عَنْ عُتْبَةَ لِي مِنْ صَبْرِ | وَلَا أَخِي وَعَمِّهِ وبِكْرِي |
شَفَيْتُ نَفْسِي وقَضَيْتُ نَذْرِي | شَفَيْتَ وَحْشِيٌّ غَلِيلَ صَدْرِي |
(١) السابق.
يعرفُه أهلُ اللسانِ من لغتِهم؛ وَلِذَا لم يكن الأعرابُ البدوُ يلتبسُ عليهم هذا، فيعلمونَ أن الفوارقَ التي بين الخالقِ وخلقِه، والرازقِ وَمَنْ رَزَقَهُ، والمُميتِ وَمَنْ يُمِيتُهُ، والمُحيي ومن يُحييه، يعلمونَ أن بينهما فوارقَ عظيمةً هائلةً يلزمُها تباينُ الصفاتِ، وأن صفاتِ هذا لا تُشْبِهُ صفاتِ هذا، وأن صفاتِ هذا كذاته لائقةٌ بذاتِه، وأن صفاتِ هذا لائقةٌ بذاتِه، وبينَ صفاتِ هذا وصفاتِ هذا من الاختلافِ كما بَيْنَ ذاتِ هذا وذاتِ هذا.
الجوابُ الثاني: أن نقولَ: القرآنُ نزلَ بلسانٍ عربيٍّ مبينٍ، وقد أقررتُم بأن اللَّهَ سميعٌ بصيرٌ، والعربُ لا تَعْرِفُ في لغتِها معنًى للسمعِ والبصرِ لا يُدْرِكُونَ معنًى للسمعِ والبصرِ إلا هذا الْمُشَاهَدَ بالجارحةِ في الحيواناتِ، هل يعلمونَ كيفيةً له غيرَ هذا؟ لا، أبدًا.
فإن قالوا: لا نعلمُ للسمعِ والبصرِ كيفيةً إلا المشاهدَ في الحيواناتِ، لكنا نعلمُ أن سمعَ اللَّهِ وبصرَه مُنَزَّهَانِ عن مشابهةِ أسماعِ الخلقِ وأبصارِهم لتنزيهِ ذاتِه عن ذواتِهم وصفاتِه عن صفاتِهم. قلنا: وكذلك نقولُ في الاستواءِ وسائرِ جميعِ الصفاتِ.
فعلينا معًا أن نعلمَ أن الطريقَ الوحيدَ الأسلمَ الذي كان عليه السلفُ الصالحُ أولُه أن نُنَزِّهَ خالقَنا (جل وعلا) عن مشابهةِ الخلقِ، ونعلمَ أن الخلقَ صنعةٌ مِنْ صنعائِه، ثم لا ننكرُ وصفًا أَثْنَى اللَّهُ به على نفسِه، ولا نجحدُ مَدْحًا مَدَحَ اللَّهُ به نفسَه في كتابِه وَعَلَّمَ خلقَه أن يمدحوه، ولا نكذب رسولَنا ﷺ وننفي مَدْحًا مَدَحَ به رَبَّهُ، فَاللَّهُ أعلمُ بنفسِه منا: ﴿أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ﴾ [البقرة: الآية ١٤٠] ولا يصفُ اللَّهَ بعدَ اللَّهِ أعلمُ بِاللَّهِ مِنْ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَعَلَيْنَا أن نعتقدَ أولاً التنزيهَ وأن الخلقَ صَنْعَةٌ، والصَّنْعَةُ لاَ تُشْبِهُ صانعَها.. ثم نؤمنُ بما ثبتَ عن اللَّهِ،
والآية في القرآن تطلق إطلاقين: تطلق الآية على الآية الكونية القدريّة، وهي من الآية بمعنى: العلامة، وهي ما نصبه الله (جل وعلا) من آياته جاعلاً لها علامات على كمال قدرته، وأنّه الربُّ وحده، المعبود وحده، كقوله: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ... ﴾ [آل عمران: آية ١٩٠] أي: لعلامات ودلالات واضحات على أنه الرب المستحق أنْ يُعبد وحده.
الإطلاق الثاني: تطلق الآية في القرآن على الآية الشرعية الدينيّة، كآيات هذا القرآن العظيم، وهو المراد هنا.
والآية الشرعية الدينية قال بعض العلماء: هي من العلامة أيضًا؛ لأنها علامة على صدق من جاء بها، لما تضمّنته من الإعجاز، أو لأن فيها علامات تعرف بها مبادئها ومقاطعها.
وقال بعض أهل العلم: الآية الشرعية من الآية بمعنى الجماعة؛ لأنها جماعة من كلمات القرآن مشتملة على بعض ما اشتمل عليه القرآن من الإعجاز والحلال والحرام والعقائد، وهذا معنى قوله: ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا﴾ ككفار مكة وكلّ مَنْ كَذب بآيات الله ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ هذا وعيد الله. والسين حرف تنفيس، وقوله: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُم﴾ أصله: (نَسْتَفْعِلُهم) ومنه: الاستدراج، والاستدراج: استفعال من الدَّرَجَة، والدرجة: واحدة طبقات السلَّم على أصح الأقوال. والمعنى: أنّه يستنزلهم درجة درجة ومرتبة مرتبة، حتى يدنيهم إلى ما يشاء من إهلاكهم. فالعرب تقول: اسْتَدْرَجَهُ: إذا أَنْزَلَهُ دَرَجَةً درجة إلى أنْ وَصَلَ إِلَى ما يقصده منه، أو استعلاه درجة درجة؛ وهذا معروف في كلام العرب أن
أحبَّ إليكم من اللَّهِ ورسولِه وجهادٍ في سبيلِه ﴿فَتَرَبَّصُوا﴾ قد ثَبَتَ في الصحيح (١) عن النبيِّ ﷺ أنه لا يُؤْمِنُ أحدٌ حتى يكونَ رسولُ اللَّهِ ﷺ أحبَّ إليه من أهلِه وولدِه بل وَمِنْ نفسِه التي بَيْنَ جَنْبَيْهِ، فلا يؤمنُ أحدٌ حتى يكونَ ﷺ أحبَّ إليه من نفسِه التي بين جَنْبَيْهِ وَمِنْ كُلِّ شيءٍ كائنًا ما كان. وكذلك محبةُ اللَّهِ (جلَّ وعلا)، فالمسلمُ يُحِبُّ اللَّهَ (جلَّ وعلا) ويحبُّ رسولَه صلى الله عليه وسلم. وَاعْلَمُوا أيها الإخوانُ أن العلامةَ الواضحةَ لمحبةِ اللَّهِ ورسولِه هي امتثالُ أَمْرِ اللَّهِ واجتنابُ نَهْيِ اللَّهِ فيما بَلَّغَهُ عنه رسولُه محمدٌ صلى الله عليه وسلم. هذا هو علامةُ المحبةِ.
وَاعْلَمُوا أن كُلَّ مَنْ يَدَّعِي محبةَ رسولِ اللَّهِ ﷺ وهو يخالفُه أنه كذابٌ، كذابٌ، لا يحبُّ اللَّهَ ولاَ رسولَه، وَمَنْ يُخَالِفُ اللَّهَ فالحبُّ منتقصٌ بقدرِ المخالفةِ، والمحبُّ جِدًّا لا يخالفُ محبوبَه، فعلامةُ حُبِّ اللَّهِ وَحُبِّ رسولِه الواضحةُ والشهادةُ به القاطعةُ هي اتباعُ ما جاء عن اللَّهِ على لسانِ رسولِه محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ومصداقُ هذا في كتابِ اللَّهِ: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ [آل عمران: آية ٣١] فمحبةُ اللَّهِ ومحبةُ رسولِ اللَّهِ علامتُها القاطعةُ اتباعُ رسولِ اللَّهِ، فَكُلُّ مَنْ يَدَّعِي أنه يحبُّ اللَّهَ ويحبُّ رسولَ اللَّهِ ويرتكبُ الأمورَ المخالفةَ لِمَا جاء به رسولُ اللَّهِ عن اللَّهِ فهو كَذَّابٌ، كذابٌ، كذابٌ في دَعْوَاهُ المحبةَ. وهذا أمرٌ معروفٌ عند
_________
(١) البخاري في الأيمان، باب: حب رسول الله ﷺ من الإيمان، حديث رقم: (١٥) (١/ ٥٨)، ومسلم في الإيمان، باب: وجوب محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، حديث رقم: (٤٤) (١/ ٦٧)، من حديث أنس (رضي الله عنه). وأخرجه البخاري في الموضع السابق (١٤) من حديث أبي هريرة (رضي الله عنه). وقد ذكره الشيخ بمعناه، ولفظه: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين» وفي بعض الألفاظ: «من أهله وماله والناس أجمعين».