وعلى قراءةِ الحَرَمِيَّيْنِ وعاصمٍ - أعني: نافعًا وابنَ كثيرٍ، وعاصم - فمعنَى: ﴿يَقُصُّ الْحَقَّ﴾ أي: يَتْلُو علينا في كتابِه الحقَّ الواضحَ، الذي لاَ لَبْسَ فيه، كما قالَ تعالى: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ﴾ [يوسف: آية ٣] وعلى هذا فإعرابُ (الحقِّ) واضحٌ؛ لأنها مفعولٌ به لـ (يقص).
وأما على قراءةِ البصريِّ والشاميِّ والاثنين من الكوفيين (١) ﴿يَقضِ الحق﴾ ففي إعرابِ (الحقِّ) إشكالٌ، وبِمَ نُصِبَتْ؟ وفي إعرابِه للعلماءِ ثلاثةُ أَوْجُهٍ:
أحدُها: أنه نَعْتٌ لمصدرٍ محذوفٍ، أي: ما نابَ عن المطلقِ. والمعنى: يَقْضِي القضاءَ الْحَقَّ، الذي لا جَوْرَ فيه ولا حَيْفَ.
الثاني: أنه منصوبٌ بنزعِ الخافضِ. أي: يقضي بالحقِّ، فَحُذِفَ حرفُ الجرِّ فَنُصِبَ الاسمُ. ومما يدلُّ على هذا قولُه: ﴿وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لاَ يَقْضُونَ بِشَيْءٍ﴾ [غافر: آية ٢٠].
الوجهُ الثالثُ: أن (يقضي) معناه: يصنعُ. أي: يصنعُ الحقَّ؛ لأن كُلَّ أعمالِه التي يَعْمَلُهَا، من تشريعٍ وإثابةٍ وعقابٍ كُلُّهُ حقٌّ واقعٌ موقعَه منه (جل وعلا). والعربُ تُطْلِقُ (القضاءَ) وتريدُ (الصُّنْعَ) وهو معنًى معروفٌ في كلامِ العربِ (٢)، ومنه قولُ أبي ذؤيبٍ
_________
(١) البصري: أبو عمرو، والشامي: ابن عامر، والكوفيان هنا: حمزة والكسائي.
(٢) انظر: البحر المحيط (٤/ ١٤٣)، الدر المصون (٤/ ٦٥٧ - ٦٥٩).
عنه (١)، وهو قد يكون لم يسكت عنه. وسَلَفُهُ الذي هو داود بن عَلِيّ الظاهري ما كان يبالغ هذه المبالغة، ولا يغلو هذا الغلو.
والحاصل أن ما يسميه علماء الأصول: (الإلغاء بنفي الفارق)، ويسمونه نوعاً من تنقيح المناط، وهو المعروف عند الشافعي في كتبه القديمة بـ (القياس في معنى الأصل) (٢) أجمع جميع العلماء على أن المسكوت عنه فيه يلحق بالمنصوص؛ لأنه لا فرق بينهما يؤثر، وما كان داود ينكر هذا.
ومعروف أنه عند علماء الأصول ينقسم إلى أربعة أقسام (٣)؛ لأن المسكوت عنه: إما أن يكون أولى بالحكم من المنطوق به، وإما
_________
(١) انظر: الإحكام ١٠٥٨ - ١٠٧٠.
(٢) انظر: الرسالة للشافعي ٥١٢ - ٥١٦، شرح الكوكب المنير (٣/ ٤٨١)، (٤/ ٢٠٧ - ٢٠٩)، المذكرة في أصول الفقه ٢٣٧، ٢٧١، نثر الورود (١/ ١٠٢ - ١٠٣)، (٢/ ٥٢٢ - ٥٢٣، ٥٥٨).
(٣) انظر: شرح الكوكب المنير (٣/ ٤٨٦)، المذكرة في أصول الفقه ص ٢٣٧، نثر الورود (١/ ١٠٤).
العدمِ السابقِ.
والقِدَمُ عندَ المتكلمين أَخَصُّ من الأزلِ؛ لأَنَّ القِدَمَ والأزلَ كلاهما في اصطلاحِ أهلِ الكلامِ عبارةٌ عن ما لاَ أولَ له ولا افتتاحَ له، لكن الْقِدَمَ عبارةٌ عن ما لاَ افتتاحَ له بشرطِ أن يكونَ وجوديًّا، والأزلُ عبارةٌ عن ما لاَ افتتاحَ له ولا أولَ له، سواء كان وجوديًّا أو عدميًّا. فمثالُ ما اجتمعَ فيه الأزليُّ والقديمُ في اصطلاحِ المتكلمين: ذاتُ اللَّهِ وصفاتُه؛ لأنها لا أولَ لوجودِها وهي موجودةٌ. ومثالُ ما هو أَزَلِيٌّ وليس بقديمٍ: أَعْدَامُنَا سوى اللَّهِ فإنها أزليةٌ فإنا قبلَ أن نوجدَ كنا معدومين، وعدمُنا الأولُ لا أوليةَ له ولا افتتاحَ له، فهو أزليٌّ ولاَ يُسَمَّى قَدِيمًا؛ لأنه غيرُ موجودٍ، كذلك الأوليةُ والآخريَّةُ المنصوصتانِ في الآيةِ: ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ﴾ [الحديد: الآية ٣] جاءَ وصفُ المخلوقِ بها أيضًا، قال في وصفِ المخلوقِ بِهِمَا: ﴿أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (١٦) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (١٧)﴾ [المرسلات: الآيتان ١٦ - ١٧] فَلِلَّهِ (جل وعلا) أوليةٌ وآخريةٌ لائقتانِ بكمالِه وجلالِه، وللمخلوقِ أوليةٌ وآخريةٌ لائقتانِ بحالِه، وبينَ الصفةِ والصفةِ من المنافاةِ كما
[الأعراف: آية ١٨٤] ليس بمجنون صلوات الله وسلامه عليه ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ ما هو ﷺ إلا نذير مبين. النذير: فعيل بمعنى (مُفعِل) من الإنذار، والإنذار هو: الإعلام المقترن بتهديد خاصة، فكل إنذار إعلام، وليس كل إعلام إنذارًا، والنذير بمعنى المُنْذِر، اسم فاعل: أنذره ينذره إذا أعلمه إعلامًا مقترنًا بتهديد وتخويف من الله (١) إذا لم يطع أوامره (جل وعلا). والتحقيق: أن (الفعيل) في لغة العرب يأتي بمعنى (المُفْعِل) وهو موجود في القرآن وفي كلام العرب، فما يحكيه بعض علماء العربية عن الأصمعي من أن (الفعيل) لا يأتي في اللغة بمعنى (المُفْعِل) إن كان ثابتًا عنه فهو غير صحيح (٢).
و (الفَعِيل) في اللغة والقرآن يأتي بمعنى (المُفْعِل) منه: النذير بمعنى المنذر، والأليم بمعنى المؤلم ﴿عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أي: مؤلم يؤلم وقعه صاحبه -والعياذ بالله- ومنه قول ذي الرمَّة (٣):

ويَرْفَعُ من صُدور شَمَرْدَلاَتٍ يَصُكُّ وجُوهَهَا وهَجٌ أَلِيْم
أي: وهج مؤلم.
وهذا معروف في كلام العرب، ومنه قول عمرو بن معد يكرب الزبيدي في مطلع عينيته المشهورة (٤):
أَمِنْ رَيْحَانَة الدَّاعي السَّميع يُؤَرِّقُنِي وأَصْحَابي هُجُوعُ
وقوله: «السميع» معناه: المُسمع، ومنه قوله أيضًا فيها (٥):
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١٣٠) من سورة الأنعام.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٧٣) من سورة الأعراف.
(٣) السابق.
(٤) السابق.
(٥) مضى عند تفسير الآية (٧٣) من هذه السورة.
قال: لَمَّا خرجَ رسولُ الله ﷺ مِنْ مكةَ قاصدًا هوازنَ قال قصيدةً يَصِفُ فيها جيشَ رسولِ الله ﷺ وما يَعْزِمُ عليه من غزوِ هوازنَ منها أنه يقول (١):
أَبْلِغْ هَوَازِنَ أَعْلاَهَا وأَسْفَلَهَا... عَنِّي رِسَالَةَ نُصْحٍ فِيهِ تِبْيَانُ...
إِنِّي أَظُنُّ رَسُولَ اللَّهِ صَابِحَكُمْ... جَيْشًا لهُ فِي فَضَاءِ الأَرْضِ أَرْكَانُ...
فِيهِمْ سُلَيْمٌ أَخُوكُمْ غَيْرَ تَارِكِكُمْ... وَالْمُسْلِمُونَ عِبَادُ اللَّهِ غَسَّانُ...
وَفِي عِضَادَتِهِ الْيُمْنَى بَنُو أَسَدٍ... وَالأَجْرَبَانِ بَنُو عَبْسٍ وَذُبْيَانُ...
تَكَادُ تَرْجُفُ مِنْهُ الأَرْضُ رَهْبَتَهُ وَفِي مُقَدَّمِهِ أَوْسٌ وَعُثْمَانُ
يعني بـ (أوسٌ وعثمانُ) قَبِيلَتَيْ مُزَيْنَةَ من قبائلِ أُدِّ بنِ طابخةَ بنِ إلياس، ومزينةُ أُمُّهُمْ. فَتَوَجَّهَ إليهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا كان قَرِيبًا منهم كان مالكُ بنُ عوفٍ جَمَعَ جميعَ مَنْ طَاوَعَهُ مِنْ هَوَازِنَ، وكانت خَرَجَتْ معه بنو نصرٍ كُلُّهَا (بَنُو نصرِ بنِ بكرِ بنِ هوازنَ)، وبنو جُشَمَ كُلُّهَا، (جُشَمُ بنُ بكرِ بنِ هوازنَ) وبنو سعدٍ كُلُّهُمْ، (سعدُ بنُ بكرِ بنِ هوازنَ)، ولم يخرج معه كثيرٌ من بَنِي عامرِ بنِ صعصعةَ من قبائلِ هوازنَ، تَخَلَّفَ عنه بَنُو ربيعةَ، وبنو كلابٍ، وجاء معه أوزاعٌ قليلةٌ من بَنِي هلالِ بنِ عامرِ بنِ صعصعةَ، وجماعةٌ من بني عمرِو بنِ عامرِ بنِ صعصعةَ، وَبَنِي عوفِ بنِ عامرِ بنِ صعصعةَ، وجاء معه ثقيفٌ كُلُّهَا، وكانت ثقيفٌ كُلُّهَا ترجع إلى قبيلتين، وثقيف أهل الطائف، وثقيف هو ابنُ بكرِ بنِ مُنَبِّهِ بنِ هوازنَ، هم من قبائلِ هوازنَ، وإن كان كثيرٌ من الناس يَظُنُّ أنهم مع هوازنَ، فَهُمْ من هوازنَ؛ لأن ثقيفَ بنَ مُنَبِّهِ بنِ بكرِ بنِ هوازنَ جاءت معه ثقيف كلها لم يَبْقَ منهم أَحَدٌ، وكان
_________
(١) القصيدة في سيرة ابن هشام ص١٢٨٧.


الصفحة التالية
Icon