عن الشاةِ تُصْبِحُ ميتةً، مَنْ هو الذي قَتَلَهَا؟ فَلَمَّا أخبرَهم أن اللَّهَ هو الذي قَتَلَهَا، قالوا له من وحيِ الشيطانِ: ما ذَبَحْتُمُوهُ بِأَيْدِيكُمْ - يعنونَ المذكاةَ - تقولونَ: حلالٌ وطاهرٌ وطيبٌ مُسْتَلَذٌّ، وما ذَبَحَهُ اللَّهُ بيدِه الكريمةِ - يَعْنُونَ الميتةَ، أن اللَّهَ قَتَلَهَا - تقولونَ: هو حرامٌ ميتةٌ مُسْتَقْذَرٌ فَأَنْتُمْ إذًا أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ!! وأنزلَ اللَّهُ في وَحْيِ الشياطين جوابًا لِنَبِيِّهِ عنه (١)
قوله: ﴿وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ [الأنعام: آية ١٢١] يعنِي الميتةَ، وَإِنْ زَعَمَ أولياءُ الشيطانِ أنها ذبيحةُ اللَّهِ، ثم قال: ﴿وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ﴾ أي: وإن أَكْلَ الميتةِ لَفِسْقٌ، وخروجٌ عن طاعةِ اللَّهِ، ثم قال - وهو مَحَلُّ الشاهدِ - ﴿وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ وإن أطعتموهم في تحليلِ الميتةِ إنكم لَمُشْرِكُونَ.
اعْلَمْ أن تحليلَ الميتةِ وتحريمَها ليس عقيدةً من العقائدِ، ولا أصلاً من الأصولِ، وإنما هو فرعٌ من الفروعِ. مُضْغَةُ لَحْمٍ شَرَّعَ اللَّهُ على لسانِ نَبِيِّهِ تحريمَها؛ لأنها مَاتَتْ ولم يُذْكَرِ عليها اسمُ اللَّهِ، وَشَرَّعَ إبليسُ على لسانِ أوليائِه تَحْلِيلَهَا، فهذا نظامُ إبليسَ، وهو تحليلُ الميتةِ، وهذا نظامُ خالقِ السماواتِ والأرضِ الذي شَرَعَهُ على لسانِ نَبِيِّهِ. اللَّهُ يقول: هذه مَاتَتْ حتفَ أَنْفِهَا، وَلَمْ تُذَكَّ ولم يُذْكَرِ اسمُ اللَّهِ عليها. والشيطانُ يُشَرِّعُ بفلسفتِه ويقولُ: هذه ذبيحةُ اللَّهِ، وما ذبحَ اللَّهُ أطهرُ وَأَحَلُّ مِمَّا ذَبَحْتُمُوهُ بأيدِيكم، وَاللَّهُ يقولُ بالمقارنةِ بينَ تشريعِ الشيطانِ وتشريعِ اللَّهِ: ﴿وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ إن أطعتموهم في تحليلِ الميتةِ الذي هو تشريعُ إبليسَ، تَارِكِينَ تحليلَ وتشريعَ اللَّهِ
_________
(١) انظر: ابن جرير (١٢/ ٧٧ - ٨٢) الأضواء (٧/ ١٦٩). وسيأتي تخريجه عند تفسير الآية (١١٨) من سورة الأنعام..
أن يقول: إن الفروج مؤمنات غافلات؟ هذا مما لا يقوله أحد.
ومن هذا: أن الله تبارك وتعالى نَصَّ في سورة البقرة على أن الرَّجُلَ إِنْ طَلَّقَ امْرَأتَهُ ثلاثاً، ثم تزوجت زوجاً بعده -وبيَّن النبي - ﷺ - اشتراط أن يجامعها ذلك الزوج- ثم طَلَّقَهَا هذا الزوج الثاني بعد أن جَامَعَهَا حَلَّت على الأول، وإنما نصَّ على الطلاق وحده، ولم يتكلم على ما لو مات عنها إذا كانت مطلقة ثلاثاً، ثم تزوجت زوجاً جامعها وأحلَّها، ثم مات الزوج الأخير ولم يطلقها، فإن الله لم يقل: إنه إذا مات تحل للأول، ولكن قال: ﴿فَإِن طَلَّقَهَا﴾ يعني: الزوج الثاني بعد أن جامعها ﴿فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾ [البقرة: الآية ٢٣٠] أي: على المرأة المبتوتة التي كانت حراماً، والزوج الأول الذي بَتَّهَا أن يَتَرَاجَعَا؛ لأنها حلت لوطء الثاني، وطلقها الثاني، ولم يتكلم هنا على ما إذا مات عنها الزوج الثاني بعد أن جامعها، وقد أجمع العلماء أن موته عنها كطلاقه، وأمثال هذا كثيرة.
الوجه الثالث: أن يكون المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق به، ولكن نفي الفارق بينهما مظنون ظنّاً قويّاً مزاحماً لليقين، ومن أمثلته في السنة: ما جاء عن النبي - ﷺ - أنه نهى عن التضحية بالعوراء (١)، فالمنطوق به هنا منع التضحية بالعَوْرَاءِ، والمسكوت عنه مَنْع التضحية بالعمياء التي هي عمياء العينين؛ لأنها أولى بالحكم من المنطوق بها؛ لأن العوراء عميت لها عين واحدة، والعمياء عميت عيناها معاً، فالعمياء مسكوت عنها في الحديث، وهي أولى بالحكم من المنطوق به التي هي العوراء، ونفي الفارق هنا مظنون ظنّاً قويّاً مزاحماً لليقين، وقد يظهر لطالب العلم أن نفي
_________
(١) مضى تخريجه عند تفسير الآية (٥٠) من سورة الأنعام.
مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر: الآية ٣٥] ﴿وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (١٣٠)﴾ [الشعراء: الآية ١٣٠] ﴿أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ﴾ [الزمر: الآية ٦٠] فليس التكبرُ كالتكبرِ، ولا الجبرُ كالجبرِ، فبينَ الصفاتِ والصفاتِ من المنافاةِ كما بينَ الذاتِ والذاتِ.
ووصفَ نفسَه بأنه رؤوفٌ رحيمٌ قال: ﴿إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [النحل: الآية ٧] ووصفَ بعضَ الخلقِ بذلك كقولِه في نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم: ﴿حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [التوبة: الآية ١٢٨] ووصفَ نفسَه بالحلمِ فقال: ﴿لَيُدْخِلَنَّهُم مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (٥٩)﴾ [الحج: الآية ٥٩] ووصفَ بعضَ خلقِه بالحلمِ فقال: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾ [التوبة: الآية ١١٤] ﴿فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ (١٠١)﴾ [الصافات: الآية ١٠١] ووصفَ نفسَه بالعزةِ فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [البقرة: الآية ٢٢٠] ووصفَ بعضَ خلقِه بالعزةِ: ﴿قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ﴾ [يوسف: الآية ٥١] ﴿وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ﴾ [ص: الآية ٢٣] فليست العزةُ كالعزةِ، ولا الحلمُ كالحلمِ، ولا شيءٌ من صفاتِ اللَّهِ كشيءٍ من صفاتِ المخلوقين، فسائرُ صفاتِ اللَّهِ حقٌّ، وسائرُ صفاتِ المخلوقين حَقٌّ. ولو تَتَبَّعْنَا مثلَ هذا لَجِئْنَا منه بمئاتِ الآلافِ، ولكنَّ هذه الأمثلةَ كافيةٌ، والمقصودُ عندَنا أن يعلمَ إخوانُنا المؤمنونَ أن اللَّهَ حَقٌّ، وأن صفاته حَقٌّ، وأن المخلوقين حَقٌّ، وأن صفاتَه حقٌّ، وأن صفاتِ اللَّهِ بسائرِها الثابتة في الكتابِ والسنةِ منزهةٌ عن صفاتِ المخلوقين كتنزيهِ ذاتِه عن ذواتِهم، فصفاتُ المخلوقين لائقةٌ بذواتِهم، وصفاتُ الخالقِ لائقةٌ بذاتِه، وبينَ الصفةِ والصفةِ من المنافاةِ كمثلِ ما بينَ الذاتِ والذاتِ هذا الواجبُ على كُلِّ مسلمٍ أن يعتقدَه.
الكلاب والخنازير الذين يدَّعون أنه ليس فوقنا سماء، وإنما هو فضاء ولا سماء فيه يُكذبون خالق السماوات والأرض لجهلهم وظلام قلوبهم بالكفر، فهي سبع سماوات مبنية وصفها الله بالشدة في قوله: ﴿وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (١٢)﴾ [النبأ: آية ١٢] وبيّن أنه بناها بقوّة هائلة ﴿وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (٤٧)﴾ [الذاريات: آية ٤٧] وأبعد سمكها ﴿رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (٢٨)﴾ [النازعات: آية ٢٨]، ﴿أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ (٦) وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ (٨)﴾ [ق: الآيات ٦ - ٨] وهذا معنى قوله: ﴿فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾.
﴿وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شيء﴾ لفظة (ما) في محل خفض معطوف على المجرور ﴿أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ وينظروا في ﴿مَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شيء﴾ في السماوات من النجوم والشمس والقمر، وفي الأرض من البحار والجبال والثمار والمعادن والدواب ونحو ذلك مما يدل على كمال قدرة خالقه (جل وعلا). وأنه الرب المعبود وحده.
ثم قال: وينظروا أيضًا في ﴿وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ﴾ (أنْ) هذه هي المخففة من الثقيلة، وإذا كان الفعل بعدها غير متصرف لا تحتاج إلى فصل بينها وبينه. إلى أنه -أي: الأمر والشأن- ﴿عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ﴾ وربما استُغني بالمصدر في (أن) وصلتها وصار فاعل (عسى) واستغني به عن غيره.
قوله: ﴿قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ﴾ أي: قد دَنَا وقت موتهمْ فيبادرون إلى تدارك ما يرضي الله لئلا يهلكوا.
الصبحِ - فَانْحَدَرُوا في وَادِي حنينٍ يَمْشُونَ، فلم يَشْعُرُوا بشيءٍ إلا وقد دَخَلُوا في مكمنِ القومِ، فَشَدُّوا عليهم شدةَ رجلٍ واحدٍ، وصارت الرماحُ والسهامُ كأنها رِجْلُ جرادٍ منتشرٍ عليهم، فَوَقَعَ مَا وَقَعَ، وَزَلَّ المسلمونَ، وَوَقَعَ ما قَالَ اللَّهُ: ﴿فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ﴾ فَثَبَتَ رسولُ اللَّهِ ﷺ وهو على بغلتِه البيضاءِ، وبعضُهم يقولُ: الشهباء؛ لأَنَّ لونَها بياضٌ فيه شُهبةٌ. والعباسُ بنُ عبدِ المطلبِ (رضي الله عنه) آخِذٌ بِزِمَامِهَا. وبعضُهم يقولُ: آخِذٌ بِرِكَابِهَا الأيمنِ، أو حَكَمَتِهَا، وَآخِذٌ بِرِكَابِهَا الثانِي أبو سفيانَ بنُ الحارثِ بنِ عبدِ المطلبِ، وكان مع النبيِّ جماعةٌ من آلِ بيتِه، منهم عَلِيُّ بْنُ أَبِي طالبٍ (رضي الله عنه)، والعباسُ بنُ عبدِ المطلبِ، وَأَبُو سفيانَ بنُ الحارثِ، والفضلُ بنُ العباسِ بنِ عبدِ المطلبِ (رضي الله عنهم)، وربيعةُ بنُ الحارثِ بنِ عبدِ المطلبِ، وأسامةُ بنُ زيدٍ، وأيمنُ بنُ أُمِّ أيمنَ مولاةِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَثَبَتَ رسولُ اللَّهِ ﷺ ذلك الثباتَ العظيمَ، وكان يركضُ البغلةَ في نَحْرِ الْعَدُوِّ يسرعُ إليهم ويقولُ:

أَنَا النَّبِيُّ لاَ كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ
وهذا من الشجاعةِ منقطعُ النظيرِ (١)؛ لأنه على بغلةٍ لاَ تُحْسِنُ الْكَرَّ وَلاَ الْفَرَّ، لا تصلحُ لِكَرٍّ وَلاَ لِفَرٍّ، وقد انكشفَ عنه أصحابُه (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه)، وليس مَعَهُ إِلاَّ قومٌ قليلٌ، ومع هذا يركضُ في وجهِ العدوِّ وَيُنَوِّهُ بِاسْمِهِ ليعرفَه مَنْ لَمْ يكن يعرفه!! وقال للعباسِ بنِ عبدِ المطلبِ - وكان رَجُلاً ضَخْمًا قَوِيًّا جهيرَ الصوتِ جِدًّا - "نَادِ: يَا أَصْحَابَ السَّمُرَةِ" فنادَى العباسُ بأعلى صوتِه: يَا
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٤٥) من سورة الأنعام.


الصفحة التالية
Icon