قُضِيَ الْأَمْرُ} قال: إِذْ ذُبِحَ الْمَوْتُ ﴿وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ أَنْذِرْهُمْ وَهُمْ في غفلةٍ ﴿وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ﴾ وَذُبِحَ الموتُ. ولا يَصِحُّ في آيةِ الأنعامِ هذه هذا التفسيرُ؛ لأن المعنَى هنا: ﴿لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾ لَعَجَّلْتُ لكم العذابَ الذي تطلبونَه فَهَلَكْتُمْ، وَنَفَذَ القضاءُ بَيْنِي وبينَكم. ونفوذُ القضاءِ: هو إهلاكُ الظالمِ وبقاءُ المطيعِ سَالِمًا، وهذا معنَى قولِه: ﴿لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾.
﴿وَاللَّهُ﴾ جل وعلا ﴿أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ﴾ أي: الْكَافِرِينَ الذين يَتَعَنَّتُونَ ويستعجلونَ، هو أعلمُ بهم، عَالِمٌ مَنْ يَهْدِيهِ اللَّهُ فيتوب، ومن يَخْذُلُهُ فلاَ يتوبُ، وعالمٌ بالوقتِ الذي يَأْتِيهِمْ فيه العذابُ، وعالمٌ بما يستحقونَ من العذابِ، ووقتِ مَجِيئِهِ لهم، وسيكونُ ذلك على حسبِ مَا سَبَقَ في عِلْمِهِ (جل وعلا). وهذا معنَى قولِه: ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ﴾.
قال بعضُ العلماءِ: صيغةُ التفضيلِ هنا لَيْسَتْ على بَابِهَا؛ لأن الْمُقَرَّرَ في عِلْمِ العربيةِ: أن صيغةَ التفضيلِ تَدُلُّ على مشاركةٍ بَيْنَ المُفَضَّلِ والمُفَضَّلِ عليه، إلا أن المُفَضَّلَ أكثرُ في المصدرِ مِنَ المُفضَّلِ عليه (١). و (زَيْدٌ أَعْلَمُ مِنْ عَمْرٍو) يَدُلُّ على أنهما مشتركانِ
_________
(١) انظر: التوضيح والتكميل (٢/ ١٢٦).
طاءً، وبُني الفعل للمفعول، فقيل: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ﴾ أي: فمن أُلجِئَ.
ولم يُبَيِّنْ هنا هذه الضرورة المُلْجِئَة، وقد بين في موضع آخر أنَّهَا الجوع، كما قال: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ﴾ [المائدة: الآية ٣] والمَخْمَصَة: الجوع (١). والقرآن يُبَيِّنُ بَعْضُهُ بَعْضاً، يعني: فَمَنْ أَلجَأَتْه الضرورة إلى أكل الميتة، أو ما أُهِلَّ به لغير الله، أو لحْمِ الخنزير، فإن ذلك يُبَاحُ.
والضرورات المُلْجئة عند العلماء هي: أن يخاف على نفسه الموت، أو يظن ذلك ظنّاً قويّاً (٢).
وقد قدمنا في سورة البقرة مسائل متعددة من الاضطرار إلى الميتة، منها: إذا اضطر إلى الميتة بأن خاف على نفسه الهَلَاك إن لم يأكل، هل يجوز له أن يشبع؟ أو لا يأكل إلا قدر ما يَسُد الرَّمَق ويُمْسِك الحياة؟ (٣) فذهب جماعة من العلماء إلى أن له أن يشبع ويتزود، وهو المشهور المعروف من مذهب مالك (٤).
أما قول خليل في مختصره: «وللضَّرُورَةِ ما يَسُدّ» فذلك مشهور مذهب مالك، ولَيْسَ هو المَرْوِي عن مالك، وإنما هو قول لبعض أصحابه، فَمَذْهَب مالك المعروف، أنه يأكل ويشبع ويَتَزَوَّد، فإن
_________
(١) انظر: المفردات (مادة: خمص) ٢٩٩.
(٢) انظر: أضواء البيان (١/ ١٠٩)، وراجع ما سبق عند تفسير الآية (١١٩) من سورة الأنعام.
(٣) انظر: السابق (١/ ١٠٧)، وراجع ما سبق عند تفسير الآية (١١٩) من سورة الأنعام.
(٤) انظر: الموطأ ص ٣٣٤، أحكام القرآن لابن العربي (١/ ٥٥)، القرطبي (٢/ ٢٢٧).
لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٣٨)} [يس: الآيتان ٣٧، ٣٨] فالإتيانُ بالليلِ بدلَ النهارِ والإتيانُ بالنهارِ بدلَ الليلِ من أعظمِ آياتِ اللَّهِ - جل وعلا - الدالة على أنه المعبودُ وحدَه، وأنه الربُّ وحدَه، ومع كونِ الليلِ والنهارِ آيتين فَهُمَا أيضًا نعمتانِ عظيمتانِ من أعظمِ نِعَمِ اللَّهِ على خَلْقِهِ، فهما جامعانِ بينَ كونِهما آيتين وكونهما نعمتين، وَبيَّنَ أنهما آيتانِ بقولِه: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ﴾ [فصلت: آية ٢٧] وَبَيَّنَ أنهما نعمتانِ وآيتانِ في مواضعَ كثيرةٍ من أصرحِها سورةُ القصصِ حيث قال فيها: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ (٧١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ (٧٢)﴾ [القصص: الآيتان ٧١، ٧٢] ثم بَيَّنَ أنهما نعمتانِ بعدَ بيانِ أنهما آيتانِ قال: ﴿وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ﴾ [القصص: آية ٧٣] يعنِي النهار.
فجعل الليلَ مُظْلِمًا مُنَاسِبًا للسكونِ والهدوءِ وعدمِ الحركةِ ليستريحَ الناسُ من كَدِّ الأعمالِ والتعبِ في النهارِ، ثم يجعلُ النهارَ مُضِيئًا مُنِيرًا مُنَاسِبًا لِبَثِّ الناسِ في حوائجِهم واكتسابِ معايشهم في نورٍ ساطعٍ من غيرِ فتيلةٍ ولاَ زيتٍ ولاَ حاجةٍ إلى مؤنة، بل هو ضوءُ السراجِ الذي خَلَقَهُ اللَّهُ وجعلَ نورَه سبيلاً للأسودِ وللأحمرِ بلاَ ثَمَنٍ، يسعونَ فيه إلى معايشهم، وهذا مِنْ عظائمِ قدرتِه ومن عجائبِ مِنَنِهِ وإنعامِه - جل وعلا - على خَلْقِهِ؛ ولذا قال: ﴿يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ﴾.
﴿يَطْلُبُهُ حَثِيثًا﴾ [الأعراف: آية ٥٤] الحثيثُ: أصلُ الحثِّ في
كرامة ولطفًا. ومنه قول إبراهيم: ﴿سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا﴾ [مريم: آية ٤٧] والذين ذكروا هذا القول زعموا أن كفار مكة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ليس منا فخذ إلا بينك وبينها قرابة؛ فلأجل القرابة التي بيننا وبينك أَسِرّ لنا الوقت الذي تقوم فيه القيامة، أَسِرَّهُ إلينا عن الناس. فأنزل الله الآية (١). وعلى هذا القول ففي الآية تقديم وتأخير ﴿يَسْأَلُونَكَ﴾ عنها، عن وقت رُسُوِّها ﴿كَأَنَّكَ حَفِيٌّ﴾ وكأنك صديق لهم وقريب لهم لتخبرهم بما لم تخبر به الناس. هذا القول قاله جماعة من العلماء. وأظهر القولين: أن المراد بالحفيّ هنا: الذي يستحفي السؤال ويتقصيه (٢)، العرب تقول: فلان يستحفي السؤال، معناها: يبالغ في السؤال عن الأمر ويتقصاه حتى يعلم حقيقته. يعني: ﴿يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا﴾ أي: مبالِغ في تقصّي أخبارها ممن عنده خبرها حتى تحققت جميع أخبارها والأمر بخلاف ذلك. والعرب تقول: فلان حفيّ: أي: كثير السؤال عن هذا الشيء، يتقصَّى السؤال عنه حتى يعرفه، وهو معنى معروف في كلام العرب، ومنه قول الأعشى (٣):

فإنْ تسْأَلي عَنِّي فيا رُبَّ سَائِلٍ حَفيٍّ عن الأَعشَى به حيثُ أَصْعَدَا
والوجهان متقاربان، والأخير أقرب. وهذا معنى قوله: ﴿كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا﴾.
﴿قُلْ﴾ لهم يا نبي الله ﴿إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ﴾ كَرَّرَ ردَّ علمها إلى الله ليُعْلِم الخلق أنها لا يعلمها إلا الله.
_________
(١) أخرجه ابن جرير (١٣/ ٢٩٨)، عن قتادة مرسلاً.
(٢) هكذا في الأصل، وهو من سبق اللسان، وصوابه: ويتقصَّاه.
(٣) ديوان الأعشى ص٥٠.
فأعطى مائةً من الإبلِ، مائةً من الإبلِ، وأعطى ما مَلأَ بين جَبَلَيْنِ غَنَمًا لرجلٍ، وكان أعطى عيينةَ بنَ حصنٍ مائةً من الإبلِ، والأقرعَ بنَ حابسٍ مائةً من الإبلِ، ولم يُعْطِ العباسَ بنَ مرداسٍ السلميَّ. فغار العباسُ بنُ مرداسٍ السلميُّ وَعَاتَبَ رسولَ اللَّهِ ﷺ في شِعْرِهِ المشهورِ وقال له (١):
أَتَجْعَلُ نَهْبِي وَنَهْبَ الْعُبَيْدِ بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالأَقْرَعِ
وَالعُبيدُ: فَرَسُهُ. قال:
أَتَجْعَلُ نَهْبِي وَنَهْبَ الْعُبَيْدِ بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالأَقْرَعِ
فَمَا كَانَ حِصْنٌ وَلاَ حَابِسٌ يَفُوقَانِ مِرْدَاسَ فِي الْمَجْمَعِ
وَمَا كُنْتُ دُونَ امْرِئٍ مِنْهُمَا وَمَنْ تَضَعِ الْيَوْمَ لاَ يُرْفَعِ
كَانَتْ نِهَابًا تَلافَيْتُهَا بِكَرِّي عَلَى الْمُهْرِ فِي الأَجْرَعِ
وَإِيقَاظِي الْحَيَّ أَنْ يَرْقُدُوا إِذَا هَجَعَ النَّاسُ لَمْ أَهْجَعِ
وَقَدْ كُنْتُ فِي الْحَرْبِ ذَا تُدْرَإٍ فَلَمْ أُعْطَ شَيْئًا وَلَمْ أُمْنَعِ
إِلاَّ أَفَائِلَ أُعْطِيتُهَا عَدِيدَ قَوَائِمِهَا الأَرْبَعِ
فقال صلى الله عليه وسلم: «اقْطَعُوا عَنِّي لِسَانَهُ، فَكَمَّلُوا لَهُ مِائَةً مِنَ الإِبِلِ» (٢).
وَلَمَّا أَعْطَى قريشًا ورؤساءَ قبائلِ العربِ وَلَمْ يُعْطِ الأنصارَ شيئًا
_________
(١) تقدمت هذه الأبيات عند تفسير الآية (٤١) من سورة الأنفال. وقد وقع فيها شيء من التقديم والتأخير.
(٢) هذا الحديث أصله في صحيح مسلم من غير قوله: (اقطعوا عني لسانه) مسلم في الزكاة، باب: إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتصبر من قوي إيمانه. حديث رقم: (١٠٦٠) (٢/ ٧٣٧) وهو بالسياق الذي ذكره الشيخ (رحمه الله) في سيرة ابن هشام ص (١٣٤٦). وقد ذكره ابن كثير في تاريخه (٤/ ٣٥٩) من طريق موسى بن عقبة وعروة بن الزبير وابن إسحاق.


الصفحة التالية
Icon