قال له: ولقد عرفتُ الوقتَ الذي وُلِدْتُ فيه، فَأَخْبِرْنِي عن الوقتِ الذي أموتُ فيه. فأنزلَ اللَّهُ: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ﴾ (١).
ومفاتحُ الغيبِ المذكورةُ في هذه الآيةِ هي المذكورةُ في أُخْرَيَاتِ سورةِ لقمانَ في قولِه: ﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ﴾ [لقمان: آية ٣٤]. وتفسيرُ النبيِّ - ﷺ - لمفاتحِ الغيبِ هنا بأنها الخمسُ المذكورةُ في قولِه: ﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ﴾ إلى آخِرِهَا، ثَبَتَ في الصحيحِ عن [٦/ب] أَبِي هريرةَ (٢)
وعبدِ اللَّهِ بنِ عمرَ (٣)، وجاء بأسانيدَ لا بأسَ عليها عن / قومٍ آخَرِينَ من الصحابةِ، منهم بُرَيْدَةُ (٤)، وابنُ مسعودٍ (٥)، وابنُ عَبَّاسٍ (٦)، وصحابيٌّ مِنْ
_________
(١) أخرجه ابن جرير (٢١/ ٨٧)، وابن أبي حاتم (٩/ ٣١٠١)، عن مجاهد مرسلا، وعزاه في
(٢) (الدر) إلى الفريابي، وابن أبي حاتم. وأورده الواحدي في أسباب النزول بغير سند ص٣٤٧. وذكر في (الدر) نحوه عن عكرمة، وعزاه إلى ابن المنذر. انظر: الدر المنثور (٥/ ١٦٩).
() البخاري، كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي - ﷺ - عن الإيمان والإسلام.. حديث رقم (٥٠)، (١/ ١١٤)، وأخرجه في موضع آخر، انظر: الحديث (٤٧٧٧)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان.. الأحاديث (٨ - ١٠)، (١/ ٣٦ - ٤٠).
(٣) البخاري، كتاب الاستسقاء، باب لا يدرى متى يجيء المطر إلا الله. حديث رقم (١٠٣٩)، (٢/ ٥٢٤)، وأخرجه في مواضع أخرى، انظر: الأحاديث (٤٦٢٧، ٤٦٩٧، ٤٧٧٨، ٧٣٧٩).
(٤) أخرجه أحمد في المسند (٥/ ٣٥٣).
(٥) أخرجه ابن جرير (٢١/ ٨٩)، وانظر: الدر المنثور (٥/ ١٦٩).
(٦) أخرجه أحمد (١/ ٣١٩).
معروف (١). وأكثر أهل العلم على أنه يقدم الميتة على الصيد؛ لأنه إن قَتَل الصيد وهو مُحْرِم صار ميتة، ورجعت المسألة في حافرتها (٢)، واجتمع عليه أنه قاتل صيد وآكل ميتة، أما إن أكل الميتة فقد أكل الميتة ولم يقتل صيداً، وفي قولٍ عن الشافعية: أنه يقدم الصيد، بناءً على أن المضطر إذا قتل صيداً لم يكن ميتة، والأكثر على خلافه، وقد أشبعنا الكلام على هذه المسألة في سورة البقرة في الكلام على قوله: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ﴾ [البقرة: الآية ١٧٣].
وقوله: ﴿غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ﴾ دل القرآن في موضع على أن الاضطرار هنا: الجوع، وأن الباغي والعادي هما المائلان لإثم يخالف الشرع، وذلك في قوله: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ﴾ [المائدة: الآية ٣] أي: غير مائل للحرام، وهكذا قَدْرُ بيان القرآن.
واختلف العلماء في ذلك الإثم الذي يُتجانف إليه الذي استُثني بقوله هنا: ﴿غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ﴾ (٣) فذهبت جماعة من أهل العلم -وهو القول المشهور عند الفقهاء والمفسرين- أن معنى الباغي: الخارج عن طاعة إمام المسلمين، والعادي: الذي يعدو على الناس
_________
(١) انظر: المغني (١١/ ٧٨)، أضواء البيان (١/ ١١٤).
(٢) يشير إلى المثل «رجع على حافرته» أي: إلى حالته الأولى، أو الطريق الذي جاء منه. انظر: المجمل ص ١٧٨، المفردات ٢٤٤.
(٣) انظر: الاستذكار (١٥/ ٣٥٤)، ابن جرير (٣/ ٢٢٢)، أحكام القرآن لابن العربي (١/ ٥٧)، القرطبي (٢/ ٢٣١، ٢٣٢)، المغني (١١/ ٧٥) أضواء البيان (١/ ١٠٥).
وافتقدَ الجذعُ النبيَّ ﷺ حَنَّ حنينَ العشارِ، والصحابةُ يسمعونَ، حتى جاءَه ﷺ يُسْكِتُهُ كما تُسْكِتُ الأُمُّ وَلَدَهَا (١).
وذلك الحنينُ بإدراكٍ خَلَقَهُ اللَّهُ في ذلك الجذعِ لاَ نعلمُه. وقد ثَبَتَ في صحيحِ مسلمٍ أن النبيَّ ﷺ قال وهو الصادقُ المصدوقُ: «إِنِّي لأَعْرِفُ حَجَرًا فِي مَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ» (٢) وأمثالُ هذا كثيرةٌ في الكتابِ وَالسُّنَّةِ، كقولِه: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا﴾ [الأحزاب: آية ٧٢] والإشفاقُ: الخوفُ. فنسبَ الخوفَ والإشفاقَ للسماواتِ والأرضِ والجبالِ وهي جماداتٌ، وصرَّح بأنه يعلمُ مِنَ الجماداتِ ما لا يعلمُه خلقُه حيث قال: ﴿وَإِن مِّنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ [الإسراء: آية ٤٤] فلا مانعَ عَقْلاً من أن يجعلَ اللَّهُ للظلامِ المعبَّرِ عنه بالليلِ إدراكًا يطلبُ به النهارَ، لاَ مانعَ عَقْلاً من ذلك، ولا ينبغي أن يُصْرَفَ القرآنُ عن ظاهرِه المتبادرِ منه إلا بدليلٍ يجبُ الرجوعُ إليه.
وعامةُ المفسرين يقولونَ: إن معنَى ﴿يَطْلُبُهُ حَثِيثًا﴾ [الأعراف: آية ٥٤] أي: يُسْرِعُ تَابِعًا له، كما يفعلُه الطالبُ. مع زعمِهم أن الليلَ ليس عندَه إدراكٌ يطلبُ به؛ لأنه ظلامٌ، ومعروفٌ أن الليلَ ظلامٌ، ولكن اللَّهَ قادرٌ على كُلِّ شيءٍ. وهذا معنى قوله: ﴿يَطْلُبُهُ حَثِيثًا﴾.
وكذلك النهارُ يطلبُ الليلَ حثيثًا، أي: طلبًا بإسراعٍ جِدًّا. وبعضُ المفسرينَ يذكرُ هنا مسائلَ الأفلاكِ وحركاتِها، وحركةَ الفلكِ
_________
(١) مضى تخريجه عند تفسير الآية (٣٧) من سورة الأنعام.
(٢) السابق.
تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٨٩) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٩٠)} [الأعراف: الآيات ١٨٨ - ١٩٠].
يقول الله جل وعلا: ﴿قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشير لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١٨٨)﴾ [الأعراف: آية ١٨٨].
أمر الله (جل وعلا) نبيه في هذه الآية الكريمة أن يقول معلنًا لجميع الناس إنه (صلوات الله وسلامه عليه) وهو أفضل خلق الله وأكْرَمهم على الله أنه لا يملك لنفسه نفعًا يَجْلِبُهُ إِلَيْهَا، ولا ضرًّا يدفعه عنها. فالكلام على حذف مُضَافٍ دَلَّ المُقام عليْهِ ﴿نَفْعًا﴾ أي: جلب نفع لنفسي أَنْتَفِعُ بِهِ. وقوله: ﴿وَلاَ ضَرًّا﴾ أي: دَفْع ضرٍّ عن نفسي.
﴿إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ﴾ خالقي (جل وعلا) أن يملكني إيَّاه ويعينني عليه ويقوِّيني عليه فإني أملكه بمعونة الله وقدرته ومشيئته، وهذه عادة الرُّسُلِ الكِرَامِ (صلوات الله عليهم)، يُبَيِّنُونَ لِلْخَلْقِ أَنَّ النَّافِعَ والضَّارَّ هو خالق السماوات والأرض (جل وعلا) ليُوَجه الخلقُ إليه جميع رغباتهم ورهَباتهم، وأولى الناس بهذا الرسل (صلوات الله وسلامه عليهم) وأتباعهم فإنهم يوجهون جميع رغباتهم ورهباتهم إلى مَنْ بِيَدِهِ النَّفْع والضّر لينفعهم ويدفع عنهم الضّر، وهذا معنى قوله: ﴿قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ﴾ أي: ولا أعلم الغيب أيضًا. كما أمره أن يعلن ذلك ويقوله في سورة الأنعام في قوله مخاطبًا لنبينا صلى الله عليه وسلم: ﴿قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ... ﴾ الآية [الأنعام: آية ٥٠]. فأول رسول بعثه الله لأهل الأرض بعد أن كفروا هو نوح (عليه وعلى نبينا الصلاة
بني سُلَيْمٍ، ويذكرُ الفتحَ وَحُنَيْنًا في قصائدِه، ومن ذلك قولُه في رائيتِه المشهورةِ (١):
مَا بَالُ عَيْنِكَ فِيهَا عَائِرٌ سَهِرٌ | مِثْلُ الْحَمَاطَةِ أَغْضَى فَوْقَهَا الشُّفُرُ |
عَيْنٌ تَأَوَّبَهَا مِنْ شَجْوِهَا أَرَقٌ | فَالْمَاءُ يَغْمُرُهَا طَوْرًا وَينْحَدِرُ |
كَأَنَّهُ نَظْمُ دُرٍّ عِنْدَ نَاظِمَةٍ | تَقَطَّعَ السِّلْكُ مِنْهُ فَهْوَ مُنْتَثِرُ |
يَا بُعْدَ مَنْزِلِ مَنْ تَرْجُو مَوَدَّتَهُ | وَقَدْ أَتَى دُونَهُ الصَّمَّانُ فَالْحَفَرُ |
دَعْ مَا تَقَدَّمَ مِنْ عَهْدِ الشَّبَابِ فَقَدْ | وَلَّى الشَّبَابُ وَزَارَ الشَّيْبُ وَالزَّعَرُ |
وَاذْكُرْ بَلاَءَ سُلَيْمٍ فِي مَوَاطِنِهَا | وَفِي سُلَيْمٍ لأَهْلِ الْفَخْرِ مُفْتَخَرُ |
قَوْمٌ هُمُ نَصَرُوا الرَّحْمَنَ وَاتَّبَعُوا | دِينَ الرَّسُولِ وَأَمْرُ النَّاسِ مُشْتَجِرُ |
لاَ يَغْرِسُونَ فَسِيلَ النَّخْلِ وَسْطَهُمُ | وَلاَ تَخَاوَرُ فِي مِشْتَاهُمُ الْبَقَرُ |
إِلاَّ سَوَابِحَ كَالْعِقْبَانِ مُقْرَبَةً | فِي دَارَةٍ حَوْلَهَا الأَخْطَارُ وَالْعَكَرُ |
تُدْعَى خُفَافٌ وَعَوْفٌ فِي جَوَانِبِهَا | وَحَيُّ ذِكْوَانَ لاَ مِيلٌ وَلاَ ضُجُرُ |
الضَّارِبُونَ جُنُودَ الْكُفْرِ ضَاحِيَةً | بِبَطْنِ مَكَّةَ وَالأَرْوَاحُ تُبْتَدَرُ |
حَتَّى رَفَعْنَا وَقَتْلاَهُمْ كَأَنَّهُمُ | نَخْلٌ بِظَاهِرَةِ الْبَطْحَاءِ مُنْقَعِرُ |
وَنَحْنُ يَوْمَ حُنَيْنٍ كَانَ مَشْهَدُنَا | لِلدِّينِ عِزًّا وَعِنْدَ اللَّهِ مُدَّخَرُ |
إِذْ نَرْكَبُ الْمَوْتَ مُخْضَرًّا بَطَائِنُهُ | وَالْخَيْلُ يَنْجَابُ عَنْهَا سَاطِعٌ كَدِرُ |
تَحْتَ اللَّوَامِعِ وَالضَّحَاكُ يَقْدُمُنَا | كَمَا مَشَى اللَّيْثُ فِي غَابَاتِهِ الْخَدِرُ |
فِي مَأْزِقٍ مِنْ مَجَرِّ الْحَرْبِ كَلْكَلُهَا | تَكَادُ تَأْفُلُ مِنْهُ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ |
وَقَدْ صَبَرْنَا بِأَوْطَاسٍ أَسِنَّتَنَا | لِلَّهِ نَنْصُرُ مَنْ شِئْنَا وَنَنْتَصِرُ |
فَمَا تَرَى مَعْشَرًا قَلُّوا وَلاَ كَثُرُوا | إِلاَّ وَأَصْبَحَ مِنَّا فِيهُمُ أَثَرُ |
(١) الأبيات في ابن هشام ص١٣١٧ - ١٣١٨، والبداية والنهاية (٤/ ٣٤٢ - ٣٤٣).