(لا) إلا التي هي لنفيِ الجنسِ. فمعنَى الآيةِ: أنهم نَفَوْا جنسَ العلمِ مِنْ أصلِه عن أنفسِهم إلا شَيْئًا عَلَّمَهُمُ اللَّهُ إِيَّاهُ. وهؤلاء الرسلُ الكرامُ (عليهم صلواتُ اللَّهِ وسلامُه) مع ما أَعْطَاهُمُ اللَّهُ من العلمِ والمكانةِ يقولونَ: إنهم لا يعلمونَ من الغيبِ إِلاَّ مَا عَلَّمَهُمُ اللَّهُ. هذا سَيِّدُهُمْ وَخَاتَمُهُمْ - ﷺ - قد بَيَّنَّا أن اللَّهَ أَمَرَهُ قال: ﴿قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾ [الأنعام: آية ٥] وَأَمَرَهُ أيضًا فى سورةِ الأعرافِ أَنْ يقولَ: ﴿قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ﴾ [الأعراف: آية ١٨٨] وقد قال في أُخْرَيَاتِ أيامِ حياتِه صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه: «لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمَا سُقْتُ الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً» (١).
كما هو معروفٌ. وقد بَيَّنَّا أن نَبِيَّ اللَّهِ نُوحًا ذَكَرَ اللَّهُ عنه في سورةِ هودٍ: ﴿وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا﴾ [هود: آية ٣١] وقد بَيَّنَّا أمثلةً من هذا، فهذا سيدُ ولدِ آدمَ على الإطلاقِ، وأفضلُ الرسلِ، وأعلمُ الناسِ (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه)، رُمِيَتْ أَحَبُّ أزواجِه بأعظمِ فِرْيَةٍ، أُمُّ المؤمنين عائشةُ لَمَّا رَمَوْهَا
_________
(١) قطعة من حديث جابر (رضي الله عنه) عند البخاري، كتاب الحج، باب تقضي الحائض المناسك كلَّها إلا الطواف بالبيت.. حديث رقم (١٦٥١)، (٣/ ٥٠٤)، وأطرافه في: (١٥٦٨، ١٥٧٠، ٢٥٠٦، ٤٣٥٢، ٧٢٣٠، ٧٣٦٧)، ومسلم، كتاب الحج، باب: بيان وجوه الإحرام. حديث رقم (١٢١٣، ١٢١٦، ١٢١٨)، (٢/ ٨٨١ - ٨٨٥).
وقد روى هذا الحديث أيضا البراء بن عازب (رضي الله عنه) عند أبي داود، والنسائي. وأخرج الشيخان نحوه من حديث أنس ولفظه: «لولا أن معي الهدي لأحللت».
السيئات، قال: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ﴾ المراد بالذين هادوا هنا: اليهود، والعرب تقول: «هاد يهود» إذا تَابَ مِنْ ذَنْبِهِ ورجع إلى الصواب، وهذا معروفٌ في كلام العرب، ومنه قول الله في الأعراف عن نبيه موسى: ﴿وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ﴾ [الأعراف: الآية ١٥٦] أي: تبنا ورجَعْنَا منيبِين إليك. فمعنى (هاد، يهود): إذا رجع تائباً إلى الحق، مُتَنَصِّلاً مِنْ ذَنْبِه (١)، واسم فاعله: (هائد)، ويُجمع على (هُوْد)، ومنه: ﴿كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى﴾ [البقرة: الآية ١٣٥] وجَمْعُ (الفاعل) على (فُعْل) مسموعٌ في أوزانٍ قليلة، كهائدٍ وهُود، وحائلٍ وحُول، وعَائِذٍ وعُوْذ، وبَازِلٍ وبُزْل (٢). وقد قال بعض الأدباء (٣):
يَا صَاحِبَ الذَّنْبِ هُدْ هُدْ... وَاسْجُدْ كَأَنَّكَ هُدْهُدْ
فقوله أولاً: «هُدْ، هُدْ» معناه: تُبْ، تُبْ. «واسجد كأنك هُدْهُدْ» وهو الطائر المعروف. يعني: وإنما قيل لليهود: ﴿الَّذِينَ هَادُواْ﴾ لأنه في تاريخهم توبة عظيمة سَجَّلَهَا لهم القرآن، وهي توبتهم من عبادة العِجْلِ، لما رَجَعَ موسى مِنَ المِيقَاتِ من الطور، ووجدهم يعبدون العجل، جاء الوحي بأنَّ اللهَ لا يقبل توبة أحدٍ منهم
_________
(١) انظر: الدر المصون (١/ ٤٠٥).
(٢) انظر: السابق (٢/ ٦٩)، والحائل: الأنثى التي لم تحمل (المصباح المنير، مادة: حول، ص٦٠). والبازل: البعير الذي فَطَرَ نابُه بدخوله في السنة التاسعة (المصباح المنير، مادة: بزل، ص ١٩).
(٣) نسبه المرزوقي للزمخشري كما في شواهد الكشاف ص ٢٩. وهذه النسبة غير صحيحة؛ لأن الزمخشري حينما أورده في الكشاف (٢/ ٩٦) قال: «ولبعضهم» وذكره. وأوله: «يا راكب... ».
وفلسفةٍ منطقيةٍ، وفلسفةٍ إلهيةٍ، وفلسفةٍ طبيعيةٍ، وفلسفةٍ نفسيةٍ، وفلسفةٍ تشريعيةٍ (١) قَسَّمُوهَا هذه القسمةَ السداسيةَ، وَبَحَثُوا في كُلِّ قِسْمٍ منها. قَسَّمُوا القسمَ الرياضيَّ منها - وهو الفلسفةُ الرياضيةُ منقسمةٌ - إلى ثلاثةِ أقسامٍ: وهي الهندسةُ، والحسابُ، والهيئةُ.
أما الهندسةُ والحسابُ: فَكِلاَهُمَا مَبْنِيٌّ على مقدماتٍ عقليةٍ يقينيةٍ، وقواعدَ حقيقيةٍ مُنْطَبِقَةٍ لاَ يَشُكُّ فيها عاقلٌ، فهي علومٌ مبنيةٌ على مقدماتٍ عقليةٍ وأساسٍ يقينيٍّ؛ ولذلك لا يتطرقُها خطأٌ إلا من جهةِ الناظرِ فيها؛ وَلِذَا لا تجدُ فيلسوفًا يأتِي ويقولُ: فكرةُ الفيلسوفِ الفلانيِّ في الحسابِ خاطئةٌ. أو فكرتُه في الهندسةِ خاطئةٌ؛ لأن الحسابَ والهندسةَ من الفلسفةِ الرياضيةِ كِلاَهُمَا مركبٌ في مقدماتٍ عقليةٍ صحيحةٍ لاَ خطأَ فيها.
أما النوعُ الثالثُ من الفلسفةِ الرياضيةِ - وهو الهيئةُ - فقد أَطْبَقَ أهلُه على أنه لم يكن مَبْنِيًّا على مقدماتٍ عقليةٍ، ولا قواعدَ يقينيةٍ، وإنما مَبْنَاهُ تخميناتٌ، وظنونٌ أكثرُ ما تكونُ كاذبةً، وربما صَدَقَتْ؛ ولذا تجدُ الفيلسوفَ يقولُ: نظرةُ الفيلسوفِ الفلانيِّ في كذا - في الشمسِ، أو في القمرِ، أو في طبقاتِ الجوِّ، أو في كذا - نظرةٌ خاطئةٌ، بل الحقُّ كذا وكذا؛ لأنها لم تُبْنَ على مقدماتٍ يقينيةٍ، ولا قوانينَ عقليةٍ، بل مَبْنَاهَا ظنونٌ وتخميناتٌ. وهذه الظنونُ والتخميناتُ أَضَلَّتْ كثيرًا من الرعاعِ الْمُتَسَمِّينَ باسمِ المسلمين، يُكَذِّبُونَ نصوصَ القرآنِ ونصوصَ السنةِ نَظَرًا إلى أقوالِ كفرةٍ فجرةٍ في شيءٍ لاَ أساسَ لهم فيه، فقضيةُ الفلسفةِ الهيئيةِ من الفلسفةِ الرياضيةِ
_________
(١) انظر: كشف الظنون (٢/ ١٢٨٩).
بشارة؛ لأن السرور تظهر به حركة الدم فيظهر على بشرة الوجه آثار السرور، وربما أطلقت العرب البشارة على الإخبار بما يسوء، والظاهر أن إطلاق العرب البشارة على الإخبار بما يسوء أسلوب عربي معروف، فما هو مقرر في علم البلاغة (١): أن إطلاق البشارة على الإخبار بما يسوء أنَّه مِنْ نَوْعِ الاسْتِعَارَة التي يُسمونها بالعنادية (٢) -ويقسمونها إلى تهكمية وتمليحية- الظاهر أن كل ذلك لا حاجة إليه وإن أطبق عليه المتأخرون؛ لأنها أساليب عربية نَطَقَتْ بِهَا العَرَبُ ونَزَلَ بِهَا القُرْآنُ.
والعَرَبُ تطلق البشارة على الإخبار بما يسوء، ومن هذا المعنى قوله تعالى: ﴿وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٧) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٨)﴾ [الجاثية: الآيتان ٧، ٨] وإطلاق البشارة على ما يسوء إطلاق معروف، وأسلوب عربي معروفٌ تَكَلَّمَتْ بِهِ العَرَبُ في لُغَتِهَا، ونزل به القُرْآن، ومنه في كلام العرب قوله (٣):

يُبَشِّرُني الغُرابُ بِبَيْنِ أَهْلِي فقُلت لهُ ثكِلْتُكَ مِنْ بَشِيرِ
وقول الآخر (٤):
وبَشَّرْتني يا سَعْدُ أَنَّ أَحِبَّتي... جَفَوْنِي وقالوا: الودُّ مَوْعِدُهُ الحَشْرُ
هذا إخبار بما يسوء، وهذا معنى قوله: ﴿إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشير لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأعراف: آية ١٨٨].
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١٣٠) من سورة الأنعام.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٤٨) من سورة الأنعام.
(٣) السابق.
(٤) السابق.
أي: كَمْ مَشْهَدِ حَرْبٍ. لقد أعانكم اللَّهُ على أعدائكم في مواقفَ ومشاهدَ عديدةٍ، كما نَصَرَكُمْ يومَ بدرٍ، ويومَ الخندقِ، ويومَ قريظةَ، ويومَ النضيرِ، ويومَ الحديبيةِ، ويومَ فتحِ مكةَ، إلى غيرِ ذلك من المواقفِ التي تَخْرُجُونَ منها وأنتم ظاهرونَ منصورون.
﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ﴾ قيل: التقديرُ: في أيام مواطن، ويوم حنين أيضًا، أي: ولقد نصركم يومَ حنينٍ ﴿إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ﴾ يومَ حنينٍ حِينَ الْتَقَوْا بهوازنَ، وكانوا كَمَنُوا لهم في مضايقِ وادِي حنينٍ ومخارمِه وأحنائِه، ثم شَدُّوا عليهم شدةَ رجلٍ واحدٍ، وكانوا في هذه الوقعةِ قبلَ ملاقاةِ العدوِّ كأن الصحابةَ أُعْجِبُوا بكثرتِهم لأنهم اجْتَمَعَ منهم ذلك اليومَ شيءٌ لم يَجْتَمِعْ مثلُه قَطُّ فيما مَضَى، وقالوا: لن نُغْلَبَ اليومَ مِنْ قِلَّةٍ. فَبَيَّنَ لهم اللَّهُ أن النصرَ من عندِه وحدَه، لا بالعددِ ولا بالعُددِ ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ [آل عمران: آية ١٢٦] ﴿إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ﴾ أُعْجِبْتُمْ بكثرةِ عددِكم وقلتُم: لَنْ نُغْلَبَ اليومَ مِنْ قِلَّةٍ ﴿فَلَمْ تُغْنِ﴾ هي، أي: الكثرةُ التي أَعْجَبَتْكُمْ لم تُغْنِ ﴿عَنْكُمْ شَيْئًا﴾ لم تُفِدْكُمْ ولم تُجْدِكُمْ قَبْلَ أن يُنَزِّلَ اللَّهُ عليكم سكينتَه وينصرَكم. وهذا امتحانٌ من اللَّهِ وابتلاءٌ وبيانٌ لِخَلْقِهِ أن النصرَ بيدِه وحدَه لاَ بكثرةِ العددِ ولا بكثرةِ العُددِ؛ ولذا لَمَّا أَمَدَّهُمْ بالملائكةِ بَيَّنَ لهم مع ذلك أن النصرَ به وحدَه، قال: ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ [آل عمران: آية ١٢٦] ﴿إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا﴾ [التوبة: آية ٢٥] فلم تَنْفَعْكُمْ ولم تُجْدِ عنكم شيئًا. والعربُ تقولُ: هذا لا يُغْنِي شيئًا، وما أَغْنَى عَنِّي هذا شيئًا. يَعْنُونَ: ما نَفَعَنِي وما أَجْدَانِي.


الصفحة التالية
Icon