غَائِبِينَ} [الأعراف: آية ٧] في هذه الآياتِ القرآنيةِ زاجرٌ أعظمُ، وواعظٌ أكبرُ.
وإذا عَلِمْتُمْ من هذا أن الغيبَ لا يَعْلَمُهُ إِلاَّ اللَّهُ، كما قال هنا: ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ﴾ [الأنعام: آية ٥٩] وقال: ﴿قُل لاَّ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ﴾ [النمل: آية ٦٥] فَاعْلَمُوا أن كُلَّ طريقٍ يفعلُها الإنسانُ ليصلَ بها إلى شيءٍ من الغيبِ أنها طريقٌ باطلةٌ، وبعضُها يكونُ كُفْرًا؛ لأن الغيبَ من خصائصِ اللَّهِ التي اخْتَصَّ بِعِلْمِهَا، ولا يعلمُ الناسُ إلا ما عَلَّمَهُمُ اللَّهُ؛ ولأَجْلِ ذلك لا يجوزُ اتخاذُ شيءٍ يَدَّعِي صاحبُه أنه يصلُ به إلى الغيبِ، فَكُلُّ ذلك حرامٌ، كالطَّرْقِ (١)، والزَّجْرِ (٢)، والعِيَافَةِ (٣)، وما جَرَى مَجْرَى ذلك من الأمورِ التي يُرَادُ بها الاطلاعُ على الغيبِ. وقد ثَبَتَ في صحيحِ مسلمٍ عن النبيِّ - ﷺ - أنه (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه) قال: «مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاَةٌ أَرْبَعِينَ يَوْمًا» (٤). هذا لفظُ مسلمٍ في
_________
(١) الطرق: ضرب الكاهن بالحصى. انظر: القاموس (مادة: طرق)، (١١٦٦)، وانظر: الأضواء (٢/ ١٩٩).
(٢) قال في القاموس: الزجر: «العيافة والتكهن» القاموس (مادة: زجر) (٥١١)، وفي المعجم الوسيط: «زَجَر الطير: أثارها ليتيمن بِسُنُوحِها أو يتشاءم ببروحها» اهـ (المعجم الوسيط (مادة: زجر) (١/ ٣٨٩)، وانظر: الأضواء (٢/ ١٩٩).
(٣) عيافة الطير: زجرها. والمقصود الاعتبار بأسمائها ومساقطها وأصواتها، فيتفاءل بذلك أو يتشاءم، والعائف هو المتكهن بالطير أو غيرها. انظر: القاموس (مادة: عاف) (١٠٨٦)، وانظر: الأضواء (٢/ ١٩٩).
(٤) مسلم، كتاب السلام، باب: تحريم الكهانة وإتيان الكهان، حديث رقم (٢٢٣٠) (٤/ ١٧٥١)، وفيه (ليلة) بدل (يوما).
والذي حَرَّمَهُ إسرائيل على نفسه قد قدمنا في سورة آل عمران أن المفسرين يذكرون أن نَبِيَّ الله يعقوب أصابه المرض المسمَّى بعرق النسا وآلمه جِدّاً، فنذر لله إن شفاه الله ليُحَرِّمن على نفسه أحب الطعام والشراب إليه، وكان هذا النذر سائغاً في شرعهم إذ ذاك، فشَفَاهُ الله، فإذا أحب الشراب إليه لبن الإبل، وأحب الطعام إليه لحم الإبل، فَحَرَّمَهما على نفسه لذلك النذر (١)،
وأن هذا معنى: ﴿كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ﴾ [آل عمران: الآية ٩٣] أي: وهو لبن الإبل ولحمها، وقد قدمنا في تفسير البقرة أن سيد اليهود المسلمين عبد الله بن سلام -رضي الله عنه- أنه لمَّا أسلم فحَسُن إسلامه كان يتقي [أكل] لحم الإبل (٢) لِمَا كان متمرناً عليه من تحريمِهِ، فنزل فيه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً﴾ (٣) [البقرة: الآية ٢٠٨]. أي: ادخلوا في فُرُوعِ الإسلام وأحكامه بجميعها، لا تحرِّمُوا شيئاً أحَلَّهُ الإِسْلَام، ولا تَمْتَنِعُوا مِنْ أكْلِ شيء أحله الإسلام، وإن كان محرَّماً في شرع قَبْلَهُ، وهذا معنى قوله: ﴿ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾.
ومن أعظم بغيهم: افتراؤهم على مَرْيَم البتول، ودعواهم عليها أنها زانية؛ حيث قالوا لها: ﴿يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً (٢٨)﴾ [مريم: الآية ٢٨] يعنون: لم يكن أبوكِ فاحِشاً زانِياً، ولم تكن أمك بَغِيّاً زانية، فمِنْ أَيْنَ أتَيْتِ بهذا الغلام؟! يعنون رميها
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٩٢) من سورة الأنعام..
(٢) في الأصل: «لحكم أكل» وهو سبق لسان.
(٣) أخرجه الواحدي في أسباب النزول ص ٦٧ عن ابن عباس رضي الله عنهما وإسناده ضعيف. وذكره الحافظ في العُجَاب منبهاً على ضعفه (١/ ٥٢٩).
فقال ابنُ أبِي دؤاد لذلك الشيخِ: ما تقولُ في القرآنِ؟
قال: مَا أَنْصَفْتَنِي. يعنِي: وَلِي السؤالُ.
فقال له ابنُ أبي دؤاد: سَلْ.
فقال الشيخُ الشاميُّ لابنِ أبِي دؤاد: ما تقولُ في القرآنِ؟
قال: مخلوقٌ.
قال: أَسْأَلُكَ: هَلْ مَقَالَتُكَ هذه التي تدعو الناسَ إليها وَتُغْرِي [أميرَ] (١) المؤمنين بتقتيلِ العلماءِ وتعذيبِهم وامتحانِهم في شأنِها هَلْ كان رسولُ اللَّهِ ﷺ عَالِمًا بها؟ وهل كان خلفاؤُه الراشدونُ عَالِمِينَ بها؟ وهل كان عَالِمًا بها أبو بكر وعمرُ وعثمانُ وَعَلِيٌّ، أو كانوا جَاهِلِينَ بها؟!
فقال ابنُ أبي دؤاد: كانوا جَاهِلِينَ بها.
فقال الشيخُ الشاميُّ: مَا شَاءَ اللَّهُ، ما شاء الله، جَهِلَهَا رسولُ اللَّهِ وَعَلِمَهَا ابنُ أبِي دؤادٍ!!
فقال ابنُ أبِي دؤادٍ: أَقِلْنِي، والمناظرةُ على بَابِهَا.
فقال له الشيخُ الشاميُّ: هو كذلك. ثم قال له: ما تقولُ في القرآنِ؟
قال: مخلوق.
قال: مقالتُك هذه - أنه مخلوقٌ - التي تدعو الناسَ إليها هل كان رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وخلفاؤُه الراشدونُ، وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي عَالِمِينَ بها أو جَاهِلِينَ؟
_________


ظلم من الشرع؛ لأنَّ الرجل والمرأة يُدْلِيَان للميت بقرابة واحدة، فكيف تكون المرأة والرجل يمتان للموروث بقرابة واحدة ونصيب الرجل أكثر من نصيب الأُنثى؟! وهذا قولهم وفلسفتهم الشيطانية، والله (جل وعلا) في آية الصيف -أعني الآية الأخيرة النازلة في المواريث من آخر سورة النساء- بيّن (جل وعلا) فيها أَنَّ مَنْ سَوَّى بين الذكر والأنثى في الميراث أنه ضال ولا شك في ذلك الضلال؛ لأن الله يقول: ﴿وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ﴾ [النساء: آية ١٧٦] ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ﴾ تفضيل الذكر على الأنثى في الميراث ﴿أَن تَضِلُّواْ﴾ كراهة أن تضلوا عن الطريق المستقيم، أو لأجل أن لا تضلوا. فالمسوِّي بينهما ضال بنص المحكم المنزل لا شك في ذلك، وإيضاح هذا بالمحسوس المعقول الذي لا يماري فيه إلاَّ مكابر: أن الله (تبارك وتعالى) جعل الذكورة بطبيعتها جمالاً وكمالاً وقوة خلقية، فنفس الذكورة جمال طبيعي، وكمال خلقي، وقوة طبيعية، كما أن الله (جلَّ وعلا) أوجد الرجل - إيجاده الأول- إيجادًا مستقلاً، والأنُوثة هي بحقيقة ذاتها وطبيعتها نقص جِبِلّي خلقي، وضعف خلقي لا ينكره إلا مكابر، والله (جل وعلا) بين في كتابه أن الأنوثة أنها بطبيعة حالها ضعف جِبِلّي ونقص خِلْقي منحط عن درجة الذكورة حيث قال: ﴿أَوَمَن يَنْشَأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (١٨)﴾ [الزخرف: آية ١٨] وفي القراءة الأخرى (١): ﴿أَوَمَن يُنَشَّؤُاْ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ﴾ أي أتجعلون لله ولدًا وبعد ذلك تجعلون له أضعف الولدين وأنقصهما وأحوجهما إلى التكميل الذي يُنَشَّأُ في الحلية من مدته وهو صغير.
_________
(١) انظر: المبسوط لابن مهران ص٣٩٧.
ثم جاءه مُخْتَفِيًا، وَسَارَ إلى رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وجاء إلى النبيِّ ﷺ مُسْلِمًا فَأَكْرَمَهُ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَرَدَّ إليه أهلَه وولدَه، وأعطاه مائةً من الإبلِ كما أَعْطَى الْمُؤَلَّفِينَ.
وقد كان مالكُ بنُ عوفٍ سَيِّدُ هوازنَ مَدَحَ النبيَّ ﷺ ببعضِ أشعارِه، ومن ذلك قولُه لَمَّا رَدَّ له رسولُ الله ﷺ مَا رَدَّ له وأعطاه مائةً من الإبلِ (١):
(١) ما بين المعقوفين [ ] زيادة يقتضيها السياق.
مَا إِنْ رَأَيْتُ وَلاَ سَمِعْتُ بِمِثْلِهِ فِي النَّاسِ كُلِّهِمُ بِمِثْلِ مُحَمَّدِ
هذا يمدحُه به رئيسُ الذين كانوا أعداءَه بالأمسِ يقاتلونَه، رَجَعَ في هذا الزمنِ القريبِ إلى مَدْحِهِ والثناءِ عليه هذا الثناءَ الجميلَ:
مَا إِنْ رَأَيْتُ وَلاَ سَمِعْتُ بِمِثْلِهِ... فِي النَّاسِ كُلِّهِمُ بِمِثْلِ مُحَمَّدِ...
أَوْفَى وَأَعْطَى لِلْجَزِيلِ إِذَا اجْتُدِي... وَمَتَى تَشَأْ يُخْبِرْكَ عَمَّا فِي غَدِ (٢)...
وَإِذَا الْكَتِيبَةُ عَرَّدَتْ أَنْيَابُهَا... بِالسَّمْهَرِيِّ وَضَرْبِ كُلِّ مُهَنَّدِ...
فَكَأَنَّهُ لَيْثٌ عَلَى أَشْبَالِهِ وَسْطَ الْهَبَاءَةِ خَادِرٌ فِي مَرْصَدِ
وهذا معنَى قولِه: ﴿وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ﴾ [التوبة: آية ٢٦] فَقَسَّمَ النبيُّ ﷺ غنائمَ هوازنَ بَعْدَ أن رَدَّ إليهم أولادَهم ونساءَهم، قَسَّمَ غنائمَهم بالجعرانةِ في ذي القعدة عامَ ثَمَانٍ - ثم إنه أَحْرَمَ بعد أن قَسَّمَهَا بعمرةٍ (٣) - من الهجرةِ.
_________
(١) هذا الخبر مع الأبيات أخرجه البيهقي في الدلائل (٥/ ١٩٨)، وأورده ابن هشام ص١٣٤٣، وابن كثير في تاريخه (٤/ ٣٦١). وانظر: مرويات غزوة حنين (٢/ ٤٦٩).
(٢) معلوم أنه لا يعلم ما في غد إلاَّ الله تعالى.
(٣) عمرته ﷺ بعد قسم غنائم حنين خرَّج حديثها البخاري في صحيحه، كتاب العمرة باب: كم اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم؟ حديث رقم: (١٧٧٨) (٣/ ٦٠٠)، وأخرجه في مواضع أخرى، انظر الأحاديث رقم: (١٧٧٩، ١٧٨٠، ٣٠٦٦، ٤١٤٨)، ومسلم في الحج، باب بيان عدد عمر النبي ﷺ وزمانهن. حديث رقم: (١٢٥٣) (٢/ ٩١٦) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.


الصفحة التالية
Icon