يَرْمِي بها النساءُ، ويزعمونَ أنهم يَطَّلِعُونَ بها على الغيبِ. وقد صَدَقَ لَبِيدٌ حيث قال (١):
لَعَمْرُكَ مَا تَدْرِي الضَّوَارِبُ بِالْحَصَى وَلاَ زَاجِرَاتُ الطَّيْرِ مَا اللَّهُ صَانِعُ
والذي يعملُ هذه العلومَ الشَّرِّيَّةَ ويقولُ: «عرفتُ منها غَيْبًا». فهو ضَالٌّ. وبعضُ العلماءِ يقولُ: إنه في [مسائلَ منها] (٢) كافرٌ. قالوا: فَمَنْ قَالَ: «أنا أعلمُ الوقتَ الذي يأتِي فيه المطرُ، وأعلمُ ما في بطنِ هذه المرأةِ هل هو ذَكَرٌ أو أُنْثَى». جَزَمَ ابنُ العربيِّ المالكيُّ في أحكامِ القرآنِ (٣)، والزجاجُ (٤) أَنَّ مَنْ يقولُ هذا أنه كَافِرٌ. اللَّهُمَّ إلا إذا ادَّعَى أنه يستندُ لعاداتٍ وَأُمُورٍ، كالذي يقولُ: إذا اسْوَدَّتْ حَلَمَةُ ثَدْيِ المرأةِ الأيمنِ فهو ذَكَرٌ، وإذا اسودت حلمةُ الثديِ الأيسرِ فهو أُنْثَى (٥) والظاهرُ أن هذه عوائدُ أَجْرَاهَا اللَّهُ بمشيئتِه وَقَدَرِهِ، فهذا قد لاَ يُكَفَّرُ عندَ مَنْ قالوا هذا، ولكنهم يقولونَ: يُنْهَى. وكذلك الذي يقولُ: العادةُ جَرَتْ بأن الحاملَ إن كانت تَرَى جَنْبَهَا الأيمنَ أثقلَ فهو ذَكَرٌ، وإن كانت تَرَى جَنْبَهَا الأيسرَ أثقلَ فهو أُنْثَى (٦). هذه كُلُّهَا أمورٌ باطلةٌ. وَمَنِ ادَّعَى أن السحابةَ [تُمْطِرُ] (٧) بِعِلَّةٍ: أن اللَّهَ رَبَطَ بمجارِي
_________
(١) البيت في الدر المصون (١٠/ ٧٥١)، الأضواء (٢/ ١٩٩).
(٢) في هذا الموضع كلمة غير واضحة في الأصل، وهي شبيهة بما أَثْبَتُّ.
(٣) أحكام القرآن (٢/ ٧٣٨)، وانظر: القرطبي (٧/ ٢)، الأضواء (٢/ ١٩٧).
(٤) معاني القرآن وإعرابه (٤/ ٢٠٢).
(٥) انظر: أحكام القرآن لابن العربي (٢/ ٧٣٨)، والقرطبي (٧/ ٢)، إكمال إكمال المُعْلم (١/ ٧٦)، الأضواء (٢/ ١٩٧).
(٦) نفس المصدر السابق.
(٧) في الأصل كلمة غير واضحة، وما بين المعقوفين زيادة يتم بها الكلام.
[النساء: الآية ١٥٩] التحقيق أنه عيسى، والمعنى: أنهم يؤمنون بعيسى قبل موت عيسى بعد نزوله، هذا التفسير هو الصحيح، وسياق القرآن يدل عليه، والأحاديث المتواترة عن النبي - ﷺ - تَدُلّ عليه، والدليل على أنه سياق القرآن: أن الله قال: ﴿وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً (١٥٦) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا المَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ﴾ أي: عيسى ﴿وَمَا صَلَبُوهُ﴾ أي: عيسى ﴿وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ﴾ أي: عيسى ﴿وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً﴾ أي: عيسى ﴿بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ﴾ أي: عيسى ﴿وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ﴾ [النساء: الآيات ١٥٦ - ١٥٩] أي: عيسى، لتكون الضمائر على نسقٍ واحد (١).
أما الرواية الأخرى التي جاءت عن ابن عباس أن المعنى: لا أحَدَ مِنْ أهْلِ الكتاب إلا يؤمن بعيسى قبل مَوْتِ أحَد أهل الكتاب، لا قبل موت عيسى، وأنهم قالوا لابن عباس: إذا قُطع رأسه غفلة فأين له أن يؤمن به قبل موته؟ وأنهم زعموا أنه قال: ينطق لسانه بعد أن فارق رأسُهُ جُثَّتَه بالإيمان بعيسى (٢).
هذا لا يخفى ضعفه وبطلانه، وعدم مساعدته على سياق القرآن، وكم من كِتَابِيٍّ يموت فجأة لا يؤمن بعيسى؟! فالتحقيق هو الأول، وقد دلت عليه الأحاديث المتواترة عن النبي - ﷺ -.
_________
(١) انظر: أضواء البيان (٧/ ٢٦٣ - ٢٦٥)، قواعد التفسير (١/ ٤١٥).
(٢) هذا القول ثابت عن ابن عباس (رضي الله عنهما) من وجوه وطرق متعددة. وقد أخرج جملة منها ابن جرير في التفسير (٩/ ٣٨٢ - ٣٨٦)، وابن أبي حاتم (٣/ ١١١٣ - ١١١٤) وذكرها ابن كثير (١/ ٥٧٦ - ٥٧٧).
وقال: «فهذه كلها أسانيد صحيحة إلى ابن عباس. وكذا صح عن مجاهد، وعكرمة، ومحمد بن سيربن، وبه يقول الضحاك، وجويبر» اهـ.
معناه: تَعَاظَمَ وَتَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ - جل وعلا- وأصلُ تَبَارَكَ: (تفاعل) إذا كَثُرَتْ بركاتُه وخيراتُه. وَاللَّهُ - جل وعلا - هو المتعالِي المتنزهُ عن كُلِّ شيءٍ، المتقدسُ الأعظمُ، الذي يُفِيضُ الخيرَ على خَلْقِهِ.
وقولُه: ﴿رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ العَالَمُونَ: جمعُ العَالَمِ (١)، وهو من الملحقاتِ بالجمعِ المذكرِ السالمِ؛ لأنه ليس بوصفٍ ولا عَلَمٍ، فهو ملحقٌ بالجمعِ المذكرِ السالمِ، لا جمعَ مذكرٍ سَالِمًا. وقد بَيَّنَ اللَّهُ في سورةِ الشعراءِ أن العالمينَ يشملُ السماواتِ والأرضَ وما بينَهما وَمَنْ فيهما، كما قال: ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (٢٣) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُم مُّوقِنِينَ (٢٤)﴾ [الشعراء: الآيتان ٢٣، ٢٤].
﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٥٥)﴾ [الأعراف: آية ٥٥] لَمَّا بَيَّنَ - جل وعلا - أنه العظيمُ الأعظمُ، خالقُ السماواتِ والأرضِ وخالقُ الشمسِ والقمرِ والنجومِ، وَمُسَخِّرُ الجميعِ، وَبَيَّنَ عظمتَه وجلاَلَه، أَمَرَ خَلْقَهُ الضعافَ المساكينَ أن يسألوه ويدعوه ليأتيَهم بما يطلبونَ، ويكشفَ عنهم من الضرِّ ما يسألونَ كَشْفَهُ، والمرادُ بذلك: كأنه يقولُ: أنا العظيمُ الأعظمُ الجبارُ، الذي خَلَقَ السماواتِ والأرضَ والكواكبَ العظامَ، وأنا خالقُ كُلِّ شيءٍ، وأنتم عبادي الفقراءُ الضعافُ فَادْعُونِي؛ لأَنَّ الدعاءَ يستشعرُ به الدَّاعِي ذُلَّهُ وفقرَه وضعفَه وحاجتَه، ويستشعرُ به عظمةَ مَنْ يدعو، وأنه عَالِمٌ بكل شيءٍ، لا يَخْفَى عليه دعاؤُه
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٤٧) من سورة البقرة.
فقوله: «وهن أضعف خلق الله أركانا» مما يجر القلوب إليهن ويزيدهن محبة، وذلك يدل على أن الطبيعة كما ذكرنا، كذلك قال ابن الدمينة فى امرأة لا تقدر أن ترد عن نفسها ما رُميت به من ريبة (١):
بَنَفْسِي وأَهْلي مَنْ إذا عَرَضُوا لَهُ... لبعضِ الأَذَى لم يَدْرِ كيفَ يُجيبُ...

وَلمْ يَعْتَذِرْ عُذْْرَ البَريءِ ولم يزلْ به سَكْتَةٌ حتى يُقال مُريبُ
فشبب بها بهذا، وهذا الضعف الخلقي الجِبلّي أمر مشاهد لا ينكره العقلاء، فالإفرنج الذين يقولون: إن المرأة كالرجل في جميع الميادين الكذبة الفجرة الخاسئون يجعلون صبغ الحمرة على فم الأنثى ولا يجعلونه على فم الرجل، ألا ترون أنهم يضعون الحمرة على فم الأُنثى ولا يضعونها على فم الرجل!! ما هذا الفرق إلاَّ لفوارق طبيعة جُبل عليها عامة العقلاء حتى الإفرنج الذين عقولهم كعقول البهائم ﴿أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ [الأعراف: آية ١٧٩].
فلما كانت الأُنوثة ضعفًا خلقيًّا وعدم كمال جِبلِّي، والذكورة كمال جِبِلِّي وقوة طبيعة خلقية؛ ولذا لا ترى ذكرًا في الدنيا تُثقب آذانه ليُجعل فيها الحلي، ولا يُثقب أنفه، ولا تُجعل له الأساور والحلي ليكمل به؛ لأن شرف ذكورته وكمالها يكفيه عن التزين بالحلي. لما كان هذا النوع من أنواع الإنسان الذي خُلق في مبدأ خلقه مستقلاًّ أقوى وأكمل من هذا النوع الآخر الذي خُلق في مبدأ خلقه وجوده تابعًا لوجود هذا ومستندًا إليه كما أجرى الله عادته وقدره بذلك كان
_________
(١) البيتان في ديوان مجنون ليلى ص٢٩، وفي عيون الأخبار (٣/ ١٠٣)، الشعر والشعراء ص٤٩٢، ونسبه لابن الدمينة.
يومَ أُحُدٍ فقد صَرَّحَ بأنه تابَ عليهم في قولِه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا﴾ [آل عمران: آية ١٥٥].
وقولُه هنا: ﴿ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ﴾ التوبةُ تُطْلَقُ من اللَّهِ على عبدِه، ومن العبدِ إلى رَبِّهِ، فإذا أُطْلِقَتِ التوبةُ من العبدِ إلى رَبِّهِ عُدِّيَتْ بـ (إلى) ولم تُعَدَّ بـ (على) تقولُ: تُبْتُ إلى اللَّهِ. ولا تقولُ: تُبْتُ على اللَّهِ. وإذا تَوَجَّهَتْ من الربِّ إلى عبدِه عُدِّيَتْ بـ (على) تقولُ: تَابَ اللَّهُ عليه. ولم تَقُلْ: تَابَ إليه. أما التوبةُ الواقعةُ من المخلوقينَ فإن الوصفَ منها يُطْلَقُ على (تَائِبٍ) وعلى (تَوَّابٍ) بصيغةِ المبالغةِ. أما توبةُ اللَّهِ على عَبْدِهِ فلم يَأْتِ الوصفُ منها إلا على (تَوَّابٍ).
وقد قَدَّمْنَا مِرَارًا (١) أن توبةَ العبدِ إلى رَبِّهِ المستوجبةِ لتوبةِ اللَّهِ على عَبْدِهِ أنها واجبةٌ فَوْرًا مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، وأن مَنْ أَخَّرَهَا كان ذلك ذَنْبًا تَجِبُ منه التوبةُ.
وقد قَدَّمْنَا في هذه الدروسِ مِرَارًا (٢) أن في التوبةِ إلى اللَّهِ (جلَّ وعلا) إِشْكَالَيْنِ مَعْرُوفَيْنِ عندَ العلماءِ:
أحدُهما: إِطْبَاقُ العلماءِ على أن توبةَ العبدِ إلى رَبِّهِ هي مُرَكَّبَةٌ من ثلاثةِ أركانٍ، وهي: إقلاعُه عن الذنبِ إن كان مُتَلَبِّسًا به، وَنَدَمُهُ على ما صَدَرَ منه، ونيتُه أن لا يعودَ. فهذه هي الأركانُ التي تتألفُ منها توبةُ العبدِ النصوحُ إلى رَبِّهِ، الذي إذا فَعَلَهَا جاءته توبةُ اللَّهِ؛ لأن
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥٤) من سورة الأنعام.
(٢) السابق.


الصفحة التالية
Icon