شَاذَّةٌ (١): منها مَنْ قَرَأَ: ﴿وَإِذْ قال إبراهيم لأَبِيهِ آزرُ﴾ بضمِّ الراءِ. وعلى هذا فالمعنى: يا آزرُ أَتَتَّخِذُ أصنامًا آلهةً. ومنهم من يقولُ: إن (آزرَ) ليس اسمَ أَبِيهِ، إنما هو اسمُ صنمٍ (٢). والذين قالوا: هو اسمُ صنمٍ، قالوا: كَثُرَتْ عبادتُه لذلك الصنمِ، وملازمتُه إياه حتى نُبِزَ به، كما قيلَ في ابنِ قيسِ الرُّقَيَّاتِ (٣)؛ لأنه تَشَبَّبَ بنساءٍ متعددات، كُلُّهُنَّ تُسَمَّى (رقيةَ)، فنبزوه بها. وفيه قراءاتٌ شاذةٌ غيرُ هذا، وأقوالٌ أُخَرُ لاَ مُعَوَّلَ عليها.
وَاعْلَمُوا أن قصةَ أَبِي إبراهيمَ هذه ذَكَرَهَا اللَّهُ مِرَارًا كثيرةً في سورٍ متعددةٍ من كتابِه، وَكُلُّهَا صريحٌ في أنه أَبُوهُ لاَ عمَّه، ولم يَرِدْ في كتابِ اللَّهِ ولا في سنةِ رسولِ اللَّهِ حرفٌ واحدٌ يدلُّ على أنه عمُّه، إلا أن أهلَ السِّيَرِ أُولِعُوا بأن قالوا: أَبُوهُ: عمُّه. والذي يَجِبُ علينا جميعًا هو تصديقُ اللَّهِ، وأن لاَ نُحَرِّفَ كلامَ اللَّهِ، ولا نفسرَه بغيرِ معناه إلا بدليلٍ يجبُ الرجوعُ إليه مِنْ كتابٍ أو سُنَّةٍ، فاحترامُ اللَّهِ واجبٌ، واحترامُ كتابِه واجبٌ، وَمَنْ أَوْجَبِ احترامِه: أَنْ لاَ نُحَرِّفَهُ، ولا ننقلَ لَفْظًا (٤) منه عن ظاهرِه الْمُتَبَادَرِ منه إلا بدليلٍ يجبُ الرجوعُ إليه، لاَ سيما وَاللَّهُ في آياتٍ كثيرةٍ من كتابِه جَاءَ بالقصةِ بعباراتٍ مختلفةٍ، منها ما هو في الخطابِ، ومنها ما هو في غيرِه، كُلُّهَا صريحةٌ فِي أنه أَبُوهُ لاَ عمَّه.
_________
(١) انظر: المحتسب (١/ ٢٢٣)، ابن جرير (١١/ ٤٦٧).
(٢) انظر: ابن جرير (١١/ ٤٦٧)، القرطبي (٧/ ٢٢)، ابن كثير (٢/ ١٤٩).
(٣) هو عبيد الله بن قيس، أحد بني عامر بن لؤي. انظر: الشعر والشعراء ص٣٦٦.
(٤) مضى عند تفسير الآية (٥٦) من سورة البقرة.
(الرحمن) هو: ذو الرحمة الشاملة في الدنيا لجميع المخلوقين [في الدنيا، و (الرحيم): هو الذي يرحم عباده المؤمنين في الآخرة] (.... ) (١).
﴿إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي﴾ [الأعراف: الآية ١٤٤] ﴿فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ﴾ [التوبة: الآية ٦] ووصف بعض خلقه بالكلام فقال: ﴿فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ﴾ [يوسف: الآية ٥٤] وقال: ﴿وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ﴾ [يس: الآية ٦٥] ولا شك أن لله كلاماً لائقاً بكماله وجلاله، وللمخلوقين كلام مناسب لحالهم وعجزهم وفنائهم وافتقارهم، وبين كلام الخالق والمخلوق من المنافاة كما بَيْنَ ذات الخالق والمخلوق.
هذه صفات المعاني السبع (٢) التي أقرّ بها من جحد كثيراً من الصفات.
_________
(١) في هذا الموضع وُجد انقطاع في التسجيل، وجرت عادة الشيخ رحمه الله في مثل هذا الموضع أن يذكر عقيدة أهل السنة في باب الصفات، وأنها تنبني على ثلاثة أسس، ثم يذكر عقيدة المُتَكَلِّمِينَ في هذا الباب وتقسيمهم الصفات قسمة سُداسية، ثم يرد عليهم، وهو كلام طويل أكتفي بالإحالة عليه في أحد المواضع، وذلك عند تفسير الآية (١٥٨) من سورة الأنعام، وكذا محاضرة الشيخ (رحمه الله) في الأسماء والصفات، وهي مطبوعة بعنوان: (منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات). انظر ص ١٣ - ١٦، ١٩ - ٢٢ من المطبوع.
تنبيه: ما بين المعقوفين زيادة تم بها استدراك بعض النقص المتعلق بالكلام على صفة (الرحمة) وقد نقلته من كلام الشيخ (رحمه الله) عند تفسير الآية (١٣٣) من سورة الأنعام.
(٢) انظر: شرح المواقف ص ٧٥ فما بعدها، الاقتصاد في الاعتقاد ص ٥٣ فما بعدها، منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات ص١٣.
عَنْ سَبِيلِكَ} [يونس: آية ٨٨] وفي القراءةِ الأخرى (١): ﴿لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ﴾ ﴿رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ﴾ ثم قال: ﴿قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا﴾ [يونس: آية ٨٩] فجعل الداعيَ اثنين، والداعي في الآيةِ واحدٌ، وهو ﴿قَالَ مُوسَى﴾ قالوا: لأن هارونَ أَمَّنَ، والمُؤمِّنُ أَحَدُ الدَّاعِيَيْنِ. ومن هنا أخذ بعضُ العلماءِ أن قراءةَ الإمامِ إذا قال المأمومُ (آمين) تَكْفِي المأمومَ؛ لأن اللَّهَ سَمَّى المُؤَمِّنَ داعيًا، كما ذَكَرَهُ بعضُ العلماءِ (٢).
﴿وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦) وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٥٧) وَالبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِى خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُنَ (٥٨)﴾. [الأعراف: الآيات ٥٦ _ ٥٨]
يقول اللَّهُ جل وعلا: ﴿وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦)﴾ [الأعراف: آية ٥٦] لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ (جل وعلا) عظمتَه، وأنه خالقُ كُلِّ شيءٍ المستحقُّ لأَنْ يُطَاعَ فلاَ يُعْصَى، وأن يُذْكَرَ فلا يُنْسَى، وأن يُعْبَدَ وحدَه نَهَى عن الفسادِ في الأرضِ بعدَ إصلاحِها، وَأَمَرَ بأن يدعوه عبادُه خوفًا وطمعًا قال: ﴿وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا﴾ المرادُ بالإفسادِ في الأرضِ يشملُ الشركَ بالله وسائرَ المعاصي؛ لأن مِنْ أعظمِ الفسادِ في الأرضِ الشركَ بِاللَّهِ. والشركُ بالله ومعاصيه قد يَحْبِسُ اللَّهُ بسببِها المطرَ فتموت الْحُبَارَى في وَكْرِهَا، وَالْجُعَلُ في جُحْرِهِ، بسببِ ذنوبِ بنِي آدمَ.
_________
(١) انظر: الإتحاف (٢/ ١١٩).
(٢) انظر: ابن كثير (٢/ ٤٢٩).
[٢٦/أ] / ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٨٩) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٩٠) أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شيئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (١٩١) وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ (١٩٢) وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ (١٩٣) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (١٩٤)﴾ [الأعراف: الآيات ١٨٩ - ١٩٤].
يقول الله جل وعلا: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٨٩) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٩٠)﴾ [الأعراف: الآيتان ١٨٩، ١٩٠].
﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ قد ذكرنا أن التحقيق أن المراد بهذه النفس الواحدة آدم، وأن زوجها التي خلق منها أنها حواء، وتكلمنا بهذه المناسبة على أن الرجل الأول والمرأة الأولى اللذان هما سبب إيجاد الرجال والنساء جميعًا كما تقدم في قوله في صدر سورة النساء: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء﴾ [النساء: آية ١] أن نشأة -بدء- هذا الرجل وهذه المرأة كانت المرأة وجودها تابع وجود الرجل، ومستندة في وجودها إليه، وأن هذا الأمر اختلاف أساسي من أصل الوجود والمبدأ، وأن ذلك الاختلاف قد ترتب عليه لوازم من المخالفة الضرورية بين الرجل والمرأة، وذكرنا بعض الأشياء التي
قال عطاءٌ (رحمه الله) وغيرُ واحدٍ من العلماءِ: ﴿فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ﴾ [التوبة: آية ٢٨] المرادُ بالمسجدِ الحرامِ: الحرمُ كُلُّهُ (١)، أي: لاَ يَقْرَبِ المشركونَ حَرَمَ اللَّهِ كُلَّهُ، بل يجبُ إبعادُهم عن الحرمِ وعدمُ قُرْبَانِهِمْ إياه. وهذا القولُ هو الحقُّ والصوابُ - إن شاء الله -
_________
(١) السابق.