وجلالتُه ومكانتُه هِيَ هِيَ، لا يُنْقِصُهَا شيءٌ من ذلك، وعلى كُلِّ حالٍ فَعَلَيْنَا أن نُصَدِّقَ اللَّهَ، ولاَ نُحَرِّفَ كلامَه، ونحملَه على غيرِ معناهُ افتراءً على اللَّهِ من غيرِ برهانٍ من كتابٍ وَلاَ سُنَّةٍ.
ومعنَى قولِه: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ﴾ وَاذْكُرْ ﴿إِذْ قَالَ﴾ نَبِيُّ اللَّهِ ﴿إِبْرَاهِيمُ﴾ وخليلُه ﴿لأبِيهِ آزَرَ﴾ وكان في قومٍ يعبدونَ الكواكبَ السَّيَّارَةَ السبعةَ، ويعبدونَ تماثيلَ أصنامٍ أرضيةٍ، فَلَهُمْ معبوداتٌ أرضيةٌ، ومعبوداتٌ سماويةٌ، معبوداتُهم الأرضيةُ: أصنامٌ وتماثيلُ يزعمونَ أنهم يجعلونَ صُوَرَهَا وأشكالَها على هيئةِ الملائكةِ، وَيَعْبُدُونَهَا لِتَشْفَعَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، وكذلك يعبدونَ الكواكبَ السيارةَ التي هي الشمسُ، والقمرُ وزحلُ والمشتري والزهرةُ وعطاردُ والمريخُ كما هي معروفةٌ. قال لَهُمْ نَبِيُّ اللَّهِ إبراهيمُ مُوَبِّخًا لهم مُسَفِّهًا أحلامَهم: قال لأَبِيهِ (آزَرَ) مُنْكِرًا عليه بهمزةِ الإنكارِ:
﴿أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً﴾ المعنَى: أَتَتَّخِذُ تماثيلَ مصورةً من حجارةٍ، أو من غيرِها من الأجسامِ، تتخذُها آلهةً تعبدُها من دونِ اللَّهِ، وتصرفُ لها حقوقَ اللَّهِ، مع أنها لا تنفعُ ولا تَضُرُّ؟ هذا مِمَّا لا يليقُ!! كما قال له: ﴿يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا﴾ [مريم: آية ٤٢] وقد أَفْحَمَهُمْ بالحجةِ في سورةِ الأنبياءِ، ذلك كما قَصَّهُ اللَّهُ في الأنبياءِ (١)، والصافاتِ (٢)، أنه ما كان يجدُ فرصةً يَكْسِرُ أصنامَهم فيها؛ لأنه إِنْ كسرهم وهم ينظرونَ أَهَانُوهُ وَآذَوْهُ، وكان يرتقبُ فرصةً يكسرهم فيها، حتى جاءَ يومُ عيدِهم، فَجَاؤُوا بطعامِهم وشرابِهم
_________
(١) كما في قوله: ﴿وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ﴾ والآيات بعدها.
(٢) كما في قوله: ﴿فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩)﴾ والآيات بعدها.
﴿وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ [التغابن: الآية ٦] وقال في بعض المخلوقين: ﴿وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ﴾ [النساء: الآية ٦] ﴿إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللهُ﴾ [النور: الآية ٣٢]. ولا شك أن ما وُصِفَ به الله من هذه الصفات مخالف لما وُصف به المخلوق، كمخالفة ذات الله لذات المخلوق، فلا مناسبة بين الذات والذات، ولا بين الصفة والصفة، فالله حق، وصفاته حق، والمخلوقون حق، وصفاتهم حق، إلا أن صفة كل بِحَسبِه، فصفة الله بالغة من الكمال والتَّنْزِيهِ ما تَتَعَاظَمُ أن تُشْبِه صفات المخلوقين، كما أن ذات الخالق تَتَعَاظَمُ أن تشبه ذوات المخلوقين.
وهذه الصفات الجامعة (١)؛ كالعُلُوِّ، والكِبَر، والعِظَمِ، والمُلك، والجَبَرُوتِ، كل هذا جاء في القرآن العظيم وَصْفُ الخالق والمخلوق به، فقَدْ وَصَفَ تعالى نفسه بالعلو والكِبَر والعِظَم، قال في وصف نفسه بالعلو والعِظَم: ﴿وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ [البقرة: الآية ٢٥٥]. وقال في وصف نفسه بالعلو والكِبَر: ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً﴾ [النساء: الآية ٣٤] ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ المُتَعَالِ (٩)﴾ [الرعد: الآية ٩] (... ) (٢) فإن كذبوك وتمرَّدوا وكفروا فقل لهم، رغِّبْهُمْ ورهِّبْهُمْ، واجمع لهم بين الوعد
_________
(١) انظر الكلام على هذا النوع من الصفات في محاضرة الشيخ (رحمه الله) في الأسماء والصفات (ص ٢٣ - ٢٥).
(٢) في هذا الموضع وُجد انقطاع في التسجيل، ويمكن استدراك النقص بمراجعة محاضرة الشيخ (رحمه الله) في الأسماء والصفات (ص ١٧ - ١٩) مع مراجعة كلام الشيخ (رحمه الله) على هذه المسألة في هذا التفسير عند الآية (١٣٣) من سورة الأنعام وغيره من المواضع بالإضافة إلى محاضرة (منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات).
﴿بَعْدَ إِصْلاَحِهَا﴾ بعدَ أن أَصْلَحَهَا اللَّهُ بأن بَعَثَ فيها الرسلَ الكرامَ، وعلَّموا أوامرَ اللَّهِ ونواهيَه، وما به صلاحُ الدنيا والآخرةِ، فإن مَبْعَثَ الرُّسُلِ تستقيمُ به أمورُ الدنيا، ويصلحُ به جميعُ الشؤونِ مما يُصْلِحُ الدنيا والآخرةَ، فَمَنْ جاءَ لأمورِ الناسِ وهي صالحةٌ قائمةٌ على أوامرِ اللَّهِ وشرعِه الذي جاءت به رُسُلُهُ وغيَّر في ذلك وَأَفْسَدَ وأشركَ وعصى فقد أَفْسَدَ في الأرضِ بعدَ إصلاحِها. وهذا هو الأظهرُ في معنَى الآيةِ.
وقولُه جل وعلا: ﴿وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا﴾ [الأعراف: آية ٥٦] قال بعضُهم: ﴿وَادْعُوهُ﴾ معناه: اعْبُدُوهُ. وقال بعضُهم: هو الدعاءُ بمعنَى المسألةِ والطلبِ لجلبِ الخيرِ وَدَفْعِ الضُّرِّ. والدعاءُ من أعظمِ أنواعِ العبادةِ.
وَبَيَّنَ (جل وعلا) أن الداعيَ ينبغي له إذا دَعَا رَبَّهُ أو عبدَ رَبَّهُ يستشعرُ الخوفَ من اللَّهِ والطمعَ فيه، فيكونُ طامعًا في ثوابِ اللَّهِ ورحمتِه واستجابةِ دعائِه لِمَا يعلمُ من فضلِ اللَّهِ وكرمِه ورحمتِه ورأفتِه بعبادِه. فَعَلَى الداعِي أن يكونَ خائفًا طامعًا. وبهذا يُعْلَمُ أن ما يقولُه بعضُ مَنْ غَلاَ: أن مَنْ عَبَدَ اللَّهَ لأجلِ الخوفِ من الله، أو لأجلِ الطمعِ فيه أن عبادتَه ناقصةٌ!! لأنه مُتَاجِرٌ بعبادتِه ليدفعَ عنه الخوفَ، أو يستجلبَ له الطمعَ، وأن الأكملَ أن يكونَ عَبَدَ اللَّهَ لعظمةِ اللَّهِ وإجلالِه. هكذا يقول بعضُهم! وخيرُ الْهَدْيِ هَدْيُ كتابِ (١) اللَّهِ، وقد أَمَرَنَا في دعائِه أن ندعوه خائفين من عذابِه وعقابِه وَنَكَالِهِ، طَامِعِينَ في فضلِه ورحمتِه ورأفتِه وَجُودِهِ وما عندَه من الخيرِ؛ لأن مطامعَ العقلاءِ محصورةٌ في أَمْرَيْنِ هما: جلبُ النفعِ، ودفعُ الضُّرِّ.
وإذا كان
_________
(١) في الأصل: «كتاب الله صلى الله عليه وسلم». وهذا سبق لسان.
في الحقوق، وإنصاف بعضهن من بعض في اللوازم اللازمة، فهذا ممكن يَقْدِرُ كلّ أحَدٍ عَلَيْهِ، وهذا الذي نهى الله عن الميل فيه، قال: ﴿فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ﴾ [النساء: آية ١٢٩]. وعدلٌ بينهن ليس تحت طاقة البشر ولا يُقدر عليه، وهو المساواة بينهن في المحبَّةِ الطبيعية والميل النفساني؛ لأن المحبة ليست من الأفعال الاختيارية، وإنما هي من الانفعالات والتأثرات النفسانية التي لا تدخل تحت قدرة العبد. وهذا العدل في المحبة والميل الطبيعي النفساني لا يُقدر عليه، وهو الذي قال الله فيه: ﴿وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ﴾ [النساء: آية ١٢٩] وكان ﷺ يقسم بين أزواجه فيعدل، ثم يقول مبيّنًا هذين القسمين: «اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ، فَلاَ تَلُمْنِي فِيمَا لاَ أَمْلِكُ» (١).
يعني الميل الطبيعي والمحبة؛ لأن هذا ليس تحت قدرة البشر، فالله (جل وعلا) أباح للرجل أربع زوجات بشرط قدرته على العدل بينهن في الحقوق الشرعية، وإن كان الميل الطبيعي والمحبة النفسانية ليس بيده، إلا أن المساواة بالحقوق الشرعية هي في مقدوره، فإن كانت هذه أحب إليه طبيعة، وهو أميل إليها بالمحبة؛ فإنه يمكنه أن يسوّي بينها وبين الأخرى، وينصف بينهما في الحقوق الشرعية كمال الإنصاف كما
_________
(١) أحمد (٦/ ١٤٤)، والدارمي (٢/ ٦٧)، وأبو داود في النكاح، باب في القسم بين النساء، حديث رقم (٢١٢٠)، (٦/ ١٧١ - ١٧٢)، والترمذي في النكاح، باب ما جاء في التسوية بين الضرائر، حديث رقم (١١٤٠)، (٣/ ٤٣٧)، والنسائي في عشرة النساء، باب ميل الرجل إلى بعض نسائه دون بعض. حديث رقم (٣٩٤٣)، (٧/ ٦٣ - ٦٤)، وابن ماجه في النكاح، باب القسمة بين النساء، حديث رقم (١٩٧١)، (١/ ٦٣٤)، والحاكم (٢/ ١٨٧)، وابن حبان (الإحسان) (٦/ ٢٠٣).
وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [التوبة: آية ٢٩] ثم صَرَّحَ بأن أَهْلَ الْكِتَابَيْنِ من المشركينَ في قولِه: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٣٠) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣١)﴾ [التوبة: الآيتان ٣٠، ٣١] فَصَرَّحَ بأنهم مشركونَ بعدَ أن صَرَّحَ بمنعِ المشركينَ من المسجدِ الحرامِ أَتْبَعَهُ بأن الْكِتَابِيِّينَ من
نفسِ المشركينَ، وهذا بُرْهَانٌ وَاضِحٌ.
وقال: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا... ﴾ [التوبة: آية ٣١] ومعلومٌ أن الذي اتَّخَذَ الأحبارَ والرهبانَ أربابًا من المشركينَ شِرْكُ رُبُوبِيَّةٍ كما لا يَخْفَى. وسيأتِي في هذه الآياتِ الكريمةِ من سورةِ براءة بيانُ أَنَّ كُلَّ مَنِ اتَّبَعَ تشريعَ أحدٍ ونظامَه واتبعَ تشريعَ الشيطانِ المخالفَ لتشريعِ اللَّهِ كُلٌّ مُتَّبِعٌ لتشريعِ الشيطانِ الذي يشرعه على ألسنةِ أوليائِه تاركًا تشريعَ اللَّهِ الذي شَرَعَهُ على ألسنةِ رُسُلِهِ كافرٌ مُشْرِكٌ بالله (١)، كما سَنُوَضِّحُهُ في هذه الآياتِ الآتيةِ. وَمِنْ أصرحِ الأدلةِ عليه أنه لَمَّا وَقَعَتْ تلك المناظرةُ المشهورةُ بينَ حزبِ الرحمنِ وحزبِ الشيطانِ في حُكْمٍ من أحكامِ الحلالِ والحرامِ، وحزبِ الشيطانِ يقولونَ: إن ذلك الحكمَ حلالٌ، ويستدلونَ بوحيٍ شيطانيٍّ، وحزبُ الرحمنِ يقولونَ: إن ذلك الحكمَ حرامٌ. ويستدلونَ بوحيٍ قرآنيٍّ، لَمَّا اخْتَصَمُوا وَأَدْلَى كُلٌّ بحجتِه تَوَلَّى اللَّهُ الفصلَ بينهم فأفتَى بينَهم فتوى سماويةً تُتْلَى قرآنًا في سورةِ الأنعامِ في قولِه: ﴿وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ يعني الميتةَ؛ لأَنَّ الكفارَ أَوْحَى إليهم الشيطانُ: أن سَلُوا محمدًا عن الشاةِ تصبحُ ميتةً، مَنْ هو الذي قَتَلَهَا؟ فقال لهم:
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥٧) من سورة الأنعام.


الصفحة التالية
Icon