وعجائبِه، مِمَّا أَبْدَعَ فِي أرضِه وسمائِه حيث جَعَلَ السماءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا، تَمُرُّ عليه آلافُ السنينَ لا يَتَفَطَّرُ ولا يَتَشَقَّقُ، ولا يحتاجُ إلى ترميمٍ، مرفوعًا على غيرِ عَمَدٍ: ﴿مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (٣) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (٤)﴾ [الملك: الآيتان ٣، ٤] أي: ذَلِيلاً مِنْ عِظَمِ ما رَأَى، وجلالةِ ذلك الصُّنْعِ، وكذلك الأرضُ بما أَوْدَعَ اللَّهُ فيها من غرائبِ صُنْعِهِ وعجائبِه مِنْ أنواعِ الثمارِ والجبالِ وألوانِها والحيواناتِ والناسِ واختلافِ ألسنتِهم، وما أَوْدَعَ فيها من المنافعِ والمعادنِ والثمارِ مِمَّا هو آياتٌ تُبْهِرُ العقولَ، كما قَالَ: ﴿أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ مُخَاطِبًا لِكُلِّ الناسِ الذين لم يَشُقَّ لهم السماواتِ ولا الأرضَ ﴿وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأعراف: آية ١٨٥] وَقَالَ: ﴿قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ [يونس: آية ١٠١] ﴿وَكَأَيِّن مِّنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ﴾ [يوسف: آية ١٠٥] ﴿أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (٦) وَالأرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧) تَبْصِرَةً﴾ [ق: الآيات ٦ - ٨] هذه (التبصرةُ) المذكورةُ هنا هي (الإيقانُ) المذكورُ في قولِه: ﴿نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾ [الأنعام: آية ٧٥] هذا هو القولُ الصحيحُ الذي دَلَّ عليه استقراءُ القرآنِ (١)،
لا ما زَعَمُوا مِنْ أَنَّهُ شُقَّتْ له السماواتُ إلى العرشِ، وأنه شُقَّتْ له الأرضونَ إلى السُّفْلَى، وأن اللَّهَ (جل وعلا) رفعَه حتى اطَّلَعَ على أعمالِ بَنِي آدَمَ، وَكُلَّمَا رَأَى
_________
(١) وهو ما رجحه ابن جرير (رحمه الله).. انظر: جامع البيان (١١/ ٤٧٥)، وابن كثير، كما في التفسير (٢/ ١٥٠).
لأنه يزعم أن هذه الآية تُبَرِّئ الله وتنَزِّهُهُ من أن يكون شيء من الشرّ بإرادته أبداً، وأن جميع الشرّ بإرادة العباد، في كلام قبيح خبيث (١).
ولما أفْحَم القرآن الكفار في تحريم ما حَرَّمُوه بالأدلة والمناظرات، حيث قال: ﴿قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ﴾ [الأنعام: الآية ١٤٣] وأفحمهم بالحجة في أنه لم يحرِّمْ هذا، وأفحمهم أنه ليس له شركاء، قال: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ﴾ [الأنعام: الآية ١٤١] وهو الخالق الصانع المدبر الذي لا حرام إلا ما حَرَّمَهُ، ولا حلال إلا ما أحَلَّهُ، ولا مَعْبُودَ إلا هو، لما أفحمتهم الأدلة، وألْقَمَتْهُمُ البراهينُ الحجر [قالوا كلمة] (٢)
حق أرادوا بها باطلاً، قالوا للنبي - ﷺ -: هذا الكفر والتحريم، وتحريم البحائر والسوائب، وهذه الأنعام والحرث التي قلنا: إنها حِجْر، وهذا جَعْل النصيب لغير الله، هذا الكفر وهذا التحريم كله بمشيئة الله؛ لأن الله لو شاء أن يَمْنَعَنَا منه فهو قادر؛ لأنه قوي ونحن ضعفاء، فهو قادر جدّاً على أن يَمْنَعَنَا، فلما كان قادراً على مَنْعِنَا ولم يمنعنا عرفنا أنه راضٍ بفعلنا؛ لأنه إنْ رَآك تفعل شيئاً قبيحاً وهو قادر على أن يمنعك وتركك تفعله ولم يمنعك منه معناه أنه راضٍ بفعلك، وأنه حَسَنٌ عِنْدَهُ! هذا مقصودهم -قَبَّحَهُمُ الله! - كما أنهم لما قيل لهم: تصدقوا على المساكين! قالوا: الرِّزْق أكثر عند الله، وهو الذي خَلَقَهُ، والطعام أكثر عنده، فلو كان يُحِبّ أحداً أن يطعمه لأطعمه هو! كما يأتي في (يس) في قوله: ﴿أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾ [يس: الآية ٤٧] فقد
_________
(١) انظر الكشاف (١/ ٤٦).
(٢) في هذا الموضع وقع مسح في التسجيل. وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.
عند علماءِ التفسيرِ، وهو أنه قال: ﴿إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ﴾ ثم قال: ﴿قَرِيبٌ﴾ بصيغةِ التذكيرِ ولم يَقُلْ: قريبةٌ. يقولونَ: الرحمةُ لَفْظُهَا مؤنثٌ فَلِمَ لم يَقُلْ: إن رحمةَ الله قريبةٌ من المحسنين، بل قال: قريبٌ. وللعلماءِ عن هذا السؤالِ العربيِّ أجوبةٌ تزيدُ على العشرةِ (١)، كما هي معروفةٌ في علومِ التفسيرِ وبعضِ علومِ العربيةِ، نذكر منها بعضًا فيه كفايةٌ:
منها: أن الرحمةَ مصدرٌ بمعنَى (الرُّحم) والمصدر مذكرُ المعنَى، فمعنَى ﴿إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ﴾ أي: إن رُحْمَه بعبدِه قريبٌ. فذكَّره نظرًا لمعنَى الرحمةِ؛ لأن معناها المصدرُ بمعنَى (الرُّحم).
وقال بعضُ العلماءِ: (رحمة الله) هنا يعني أنه يرحمُ العبدَ بالثوابِ، فيكونُ المعنَى: إن ثوابَ اللَّهِ النَّاشِئَ عن رحمتِه بعبدِه قريبٌ من المحسنين.
الوجهُ الثالثُ: هو ما قَرَّرَهُ بعضُ علماءِ العربيةِ: أن القربَ نوعانِ: قربٌ في النَّسَبِ، وقربٌ في المسافةِ المكانيةِ أو الزمانيةِ، أما قربُ النسبِ فالمؤنثةُ فيه يلزمُها التاءُ بلا خلافٍ بينَ علماءِ العربيةِ، فتقولُ: هذه المرأةُ قريبتي. تعنِي في النسبِ. ولا يجوزُ أن تقولَ: قَرِيبِي بلا تاءٍ. فالقرابةُ في النسبِ يلزمُ فيها تاءُ الفرقِ بين الذكرِ والأنثى، فلا يجوزُ - قولاً واحدًا - أن تقول: هذه المرأةُ قريبٌ مِنِّي في النسبِ، بل يلزمُ أن تقولَ: قريبةٌ مني في النسبِ بالتاءِ. أما إن كان القربُ قربَ مكانٍ أو زمانٍ فيجوزُ في المؤنثةِ التأنيثُ والتذكيرُ،
_________
(١) انظر: ابن جرير (١٢/ ٤٨٨)، القرطبي (٧/ ٢٢٧)، البحر المحيط (٤/ ٣١٣)، الدر المصون (٥/ ٣٤٤ - ٣٤٦)، أضواء البيان (٢/ ٣٢٢).
التوكيد أن الأمة لو كثرت كل الكثرة وبلغت الملايين والآلاف المؤلفة أن كل نفس منفوسة يُقدر الله لها رزقها على أحسن ما يكون، وأن الله يفتح من أبواب الرزق وخزائنه ما لم يكن في حسبان الملاحدة الإفرنج الكفرة وأذنابهم من الخنازير الذين طُمست بصائرهم، ولا سيما إن كانت تلك الأمة على طاعة الله - جل وعلا - وتقواه: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ﴾ [الطلاق: الآيتان ٢، ٣] فبيّن أن هذا الرزق ليس من قبيل الدخل القومي المحدود الذي يحسبه الإفرنج ويُحدونه، لا، بل يأتي به الله من أمور لا يعلمها إلا هو - جل وعلا - ولما أراد المنافقون أن يضربوا على النبي ﷺ وأصحابه حصارًا اقتصاديًّا وقالوا في ذلك: ﴿لاَ تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا﴾ قال تعالى: ﴿وَللَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ﴾ [المنافقون: آية ٧] ومن كان عنده خزائن السماوات والأرض كيف يُحدد رزقه، وتقتل الأولاد وتقلل خوفًا ألا يرزقها؟! فهذا من أُضحوكات الشيطان وأعمال الصبيان الذي لا يصدق عاقل أن رجلاً عاقلاً يشتغل بهذا، عياذًا بالله.
ثم إِنَّ مِنْ مَصَالِحِ تَعَدُّدِ الزَّوْجات أن فيه مصالح عظمى شرعه الله لها، منها: أن فيه مندوحة عن الطلاق؛ لأن الرجل إذا تزوج المرأة حتى كبرت معه ومضى جمالها وصارت لا رغبة فيها للرجال إذا قُصِر عليها ولم تكن عنده مندوحة لزوجة أخرى يتسلى بها ويأت بها فإنه يضطر لفراقها ولو بالمحاكمة حتى يتخلص منها!! أما تعدد الزوجات ففيه مندوحة وفرج من هذا الأمر المحرج؛ لأنه يتزوج أخرى ويبقى مع الأولى ملاطفًا لها، محسنًا إليها، منفقًا إليها، ويجد
كافرٌ، وأن اللَّهَ نَهَى عن قربانِهم إياها، لا يقربوه فضلاً عن أن يدخلوه.
واختلف العلماءُ في غيرِ المسجدِ الحرامِ من المساجدِ هل يدخلُ الكفارُ المساجدَ غير المسجدِ الحرامِ (١)؟ اختلف العلماءُ في ذلك، فذهب مالكٌ (رَحِمَهُ اللَّهُ) وأكثرُ أصحابِه في طائفةٍ من العلماءِ إلى أنه لا يجوزُ أن يدخلَ كافرٌ مسجدًا من مساجدِ اللَّهِ كائنًا مَنْ كان في أي قُطْرٍ [٥/أ] من أقطارِ الأرضِ في حَرَمٍ أو حِلٍّ. / واستدلَّ مالكٌ لهذا الحكمِ بأدلةٍ، قالوا: من تلك الأدلةِ أن اللَّهَ (جلَّ وعلا) صَرَّحَ بالعلةِ فقال: ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾ وقد تقررَ في علمِ الأصولِ أن العلةَ تارةً تُعَمِّمُ معلولَها وتارةً تُخَصِّصُهُ (٢)، وقد جاءت مواضعُ من كتابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رسولِه لاَ خِلافَ فيها بَيَّنَ العلماءُ أن العلةَ تُعَمِّمُ معلولَها، قالوا: وَمِنْ أمثلةِ ما تُعَمِّمُ فيه العلةُ معلولَها قولُه (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه) في حديثِ أبِي بكرةَ الثابتِ في الصحيحِ: «لاَ يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ» (٣) نَصَّ (٤) النبيُّ ﷺ في هذا الحديثِ الصحيحِ على مَنْعِ علةِ الحاكمِ الغضبانِ من الحكمِ؛ لأَنَّ الغضبَ يشوشُ فِكْرَهُ، فيمنعُه من تَقَصِّي فَهْمِ أقوالِ الخصومِ، وَفَهْمِ ما يحكمُ عليهم به. قالوا: إذا كان الحاكمُ في غايةِ الجوعِ والعطشِ الْمُفْرِطَيْنِ، أو في غايةِ الحزنِ والسرورِ الْمُفْرِطَيْنِ، أو في غايةِ الحقنِ والحقبِ المفرطينِ - والحقنُ: مدافعةُ البولِ. والحقبُ: مدافعةُ الغائطِ - إذا
_________
(١) انظر القرطبي (٨/ ١٠٤)، إعلام الساجد ص٣١٨.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٤٦) من سورة الأنفال.
(٣) مضى تخريجه عند تفسير الآية (٥٠) من سورة الأنعام.
(٤) في الأصل: «هذه الآية الكريمة نص فيها النبي... ». وهو سبق لسان.


الصفحة التالية
Icon