أَبُوهُ وقومُه يعبدونَ معبوداتٍ أرضيةً ومعبوداتٍ سماويةً، منها الكواكبُ السبعةُ (١).
قال: ﴿هَذَا رَبِّي﴾، قولُ إبراهيمَ: ﴿هَذَا رَبِّي﴾ في رؤيتِه للكوكبِ ورؤيتِه للقمرِ ورؤيتِه للشمسِ أصلُه فيه بحثٌ معروفٌ للعلماءِ، غَلِطَ جماعةٌ في هذا المقامِ من العلماءِ، منهم العالمُ الكبيرُ ابْنُ جريرٍ الطبريُّ، فَزَعَمَ أن إبراهيمَ قال هذا ناظرًا لاَ مُنَاظِرًا، وأنه قال هذا قبل أن يتيقنَ الدليلَ، يَظُنُّ أن الكوكبَ رَبُّهُ. هذا قاله (٢) ونقلَه عن ابنِ عباسٍ (٣)، واستدلَّ عليه بقولِه: ﴿لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ﴾ [الأنعام: آية ٧٧] قال: فَقَوْلُهُ: ﴿لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ﴾ هذا يدلُّ على أنه قَالَ هذا قبلَ أن يتيقنَ الحقيقةَ، وقبلَ أن يتمَّ له النظرُ، فبعدَ أن تَمَّ نظرُه وعلم الحقَّ، قال: ﴿إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٧٨) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ حَنِيفًا﴾ [الأنعام: الآيتان ٧٨، ٧٩].
والتحقيقُ بدلالةِ القرآنِ والسنةِ: أن هذا القولَ لهذه الطائفةِ من العلماءِ، منهم كبيرُ الْمُفَسِّرِينَ ابنُ جريرٍ الطبريُّ، وَرَوَاهُ عن ابنِ عباسٍ، أن هذا القولَ غلطٌ لا شَكَّ فيه، وأن إبراهيمَ لَمْ يَظُنَّ يومًا في ربوبيةِ كوكبٍ، ولم يشكَّ يومًا واحدًا في ربوبيةِ اللَّهِ، هذا التحقيقُ الواجبُ اعتمادُه، الذي دَلَّ عليه كتابُ اللَّهِ وسنةُ نَبِيِّهِ - ﷺ - (٤)، أما
_________
(١) انظر: البداية والنهاية (١/ ١٤٠).
(٢) انظر: ابن جرير (١١/ ٤٨٣ - ٤٨٥).
(٣) المصدر السابق (١١/ ٤٨٠).
(٤) انظر: معاني القرآن للزجاج (٢/ ٢٦٦)، القرطبي (٧/ ٢٥)، ابن كثير (٢/ ١٥١)، البداية والنهاية (١/ ١٤٢)، فتح الباري (٦/ ٣٩١).
وهذه المَسْأَلة بعينها هي التي ذكرنا أن البَدَوِيَّ الجاهل أسكت بها كبير المعتزلة عَمْرو بن عبيد المشهور الذي رثاه أبو جعفر المنصور؛ لأنه لما سُرقت له دَابَّة كان يعمل عليها، فجاء لعمرو بن عبيد فقال: ادع الله أن يردّها لي. قالوا: إنه قَامَ يَتَقَرَّبُ بهذا المذهب فقال: اللهُمَّ إِنَّها سُرقت، ولم تُرد سَرِقَتَها؛ لأنك أكْرَم وأجلّ وأَنْزه من أن تريد هذه الخسيسة القَبِيحَةَ! فالبدوي الجاهل قال له: نَاشَدْتُكَ الله يا هذا إلا ما كَفَفْتَ عني من دعائك الخبيث، إن كانت سُرقت ولم يُرِدْ سَرِقَتَها فقد يريد ردّها ولا تُرَدّ (١)! فهم حاولوا أن يُنَزِّهُوا الله عن أن تكون القبائح بمشيئته فَقَدَحُوا في قُدْرَتِهِ وإرَادَتِهِ، وجعلوا الخلق يفعلون شيئاً بلا قدرة الله ولا إرادته، أرادوا أن يُنَزِّهُوه فَقَدَحُوا في ربوبيته -والعياذ بالله- فمن كان منهم حسن الظن فقد وقع في أمر عظيم، ومن كان سيِّئَ الظن فهو سيِّئُ الظن، والإنسان قد يُحسن الظن ويريد البرّ ويقع في آثام عظيمة كبيرة، وقد قال الشافعي رحمه الله (٢):
رَامَ نفعاً فَضَرَّ مِنْ غَيرِ قَصْدٍ | وَمِنَ البِرِّ ما يكُونُ عُقُوقاً |
_________
(١) السابق.
(٢) ديوان الشافعي ص ٦٧.
أما مَنْ قَرَأَ: ﴿نُشُرًا﴾ فنشرًا جمعُ ناشرةٍ، أو جمعُ نَشُورٍ، وفيها مَعْنَيَانِ (١): أحدُهما: أنها تنتشرُ أمامَ المطرِ من ها هنا وها هنا، أو أنها تُلَقِّحُ المطرَ الذي به إحياءُ الأرضِ الميتةِ فكأنها تَنْشُرُهُ. والإنشارُ والنشورُ: النشورُ: الحياةُ بعدَ الموتِ، وَأَنْشَرَهُ: أحياه بعدَ الموتِ. وأكثرُهم على أن نُشُرًا جمع نَشُورٍ، أو جمع ناشرةٍ كما قال بعضُهم، كشاهدٍ وشُهُدٍ. ونُشُر هي التي تنتشرُ أمامَ المطرِ فتأتِي منتشرةً من ها هنا ومن ها هنا. وعلى هذا القولِ فهو من الانتشارِ؛ لأَنَّ الريحَ كأنها كانت راكدةً كالشيءِ المطويِّ، فإذا كانت أمامَ المطرِ نُشِرَتْ كما يُنْشَرُ الثوبُ، فجاءت منتشرةً أمامَ المطرِ من ها هنا ومن ها هنا.
وقراءةُ ابنِ عامرٍ: ﴿نُشْرًا بين يدي رحمته﴾ كقراءةِ نافعٍ وابنِ كثيرٍ وأبي عمرٍو إلا أن ابنَ عامرٍ خَفَّفَ الشينَ فسكَّن ضمتَها. كما تقولُ: رسُل ورُسْل، وكتُب وكُتْب، ونُشُر ونشْر. فمعنى قراءةِ ابنِ عامرٍ كالقراءةِ التي قَبْلَهَا، وهو أن اللَّهُ يُرْسِلُ الرياحَ في حالِ كونِها منتشرةً من ها هنا وها هنا أمامَ السحابِ. وهذا من غرائبِ صُنْعِهِ وعجائبِه جل وعلا.
وعلى قراءةِ حمزةَ والكسائيِّ ﴿نَشْرًا﴾ ففيه من الإعرابِ وجهانِ: أحدُهما: أنه ما نَابَ عن المطلقِ من ﴿يُرْسِلُ الرِّيَاحَ﴾ لأَنَّ معنَى (يرسلها) في قوةِ: ينشرُ الرياحَ بين يدي المطرِ نَشْرًا. فتكونُ مفعولاً مُطْلَقًا بالمعنَى من (يرسل). أو أنها مصدرٌ مُنكَّرٌ حَالٌ، أي: يرسلُ الريحَ في حالِ كونِها منتشرةً أمامَ المطرِ، أو ناشرةً كَمَا ذَكَرْنَا.
_________
(١) انظر: الأضواء (٢/ ٣٢٣).
الزوج التي خُلقت منه وهي حواء؛ لأن الرجل يسكن إلى امرأته ويطمئن إليها، وهذا السكون والطمأنينة والألفة التي كانت من الرجل الأول للمرأة الأولى جعله الله سُنة كونية قدرية في ذريتهما كما يأتي في سورة الروم في قوله: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ الآية [فاطر: آية ١١].
﴿فَلَمَّا تَغَشَّاهَا﴾ تغشاها معناه: جامعها، والعرب تقول: غشي الرجل امرأته وتغشاها: إذا جامعها، والتغشي: أصله لبس الغشاء، وهو الغطاء ونحوه. ﴿فَلَمَّا تَغَشَّاهَا﴾ أي: جامعها ﴿حَمَلَتْ﴾ من ذلك الجماع ﴿حَمْلاً خَفِيفًا﴾ إنما وصف الحمل بأنه خفيف لأن المرأة في أول حَبَلها ما دام حَبَلها نطفة فَعَلَقَة فمضغة يكون خفيفًا كأنها ليس في بطنها شيء، تذهب وتجيء ولا تجد ثقلاً له إلى حوالي خمسة أشهر، فبعد ستة أشهر يعظم الجنين في بطنها وتُثقل، وتكون الحركة ثقيلة عليها لعظم الجنين في بطنها؛ ولذا قال: ﴿حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا﴾ في أول أشهرها فاستمرت به وذهبت به مقبلة ومدبرة لا يثقلها؛ لأن ذلك هو العادة في أول حملها. ﴿فَلَمَّا أَثْقَلَت﴾ يعني تطاولت الأشهر وعظم الجنين في بطنها، وأثقلت؛ أي: صارت ثقيلة من عظم الجنين في بطنها، خافت هي وزوجها، والظاهر أن هذا في الحمل الأول الذي حملته حواء خافت أن يكون هذا الذي في بطنها بهيمة، أو أنه لا يخرج منها، أو يَشُق بطنها فتموت؛ ولذا ﴿دَّعَوَا﴾ أي: الرجل والمرأة، آدم وحواء ﴿دَّعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا﴾ دعاءً أخلصا له فيه قائلين: والله ﴿لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا﴾ لئن أعطيتنا من هذا الحمل ولدًا صالحًا، أي: ذكرًا، وقال بعض العلماء: بشرًا سويًّا يخرج بسلام،
ثم قال: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ وهذه الآيةُ تَدُلُّ على أن الكفارَ يُمْنَعُونَ من الإتيانِ إلى الحرمِ لأن أهلَ مكةَ كانوا في الموسمِ تَحُجُّ إليهم قبائلُ العربِ من أقطارِ الدنيا فيأتونَ بالأموالِ والطعامِ يبيعونَها، فَلَمَّا مُنِعُوا من أن يَحُجُّوا، وَأُمِرَ المشركونَ بتجنبِ الحرمِ، قالوا: مِنْ أينَ نعيشُ؟ كنا نعيشُ مما يأتِي به هؤلاء في مواسمِهم فإنا سَنَفْتَقِرُ، ولن يبقَى لنا شيءٌ نعيشُ به إن مُنِعَ هؤلاء من القدومِ علينا؛ لأنا كنا نعيش بما يُورِدُونَهُ من الأطعمةِ والأموالِ ونحوِ ذلك. فقال لهم اللَّهُ: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً﴾ ﴿خِفْتُمْ﴾ من الخوفِ. أصلُ ﴿خِفْتُمْ﴾ مِنْ خَافَ يَخَافُ.
هذه المادةُ فاؤُها خاءٌ، وعينها واوٌ، ولامُها فَاءٌ، وقد يُشْكِلُ على طالبِ العلمِ مِنْ أينَ جاءت هذه الكسرةُ التي كُسِرَ بها الخاءُ في قولِه: ﴿خِفْتُمْ﴾ مع أن المادةَ من الأجوفِ الواويِّ العينِ. فسببُ كسرِ الخاءِ من قولِه: ﴿خِفْتُمْ﴾ أن مَاضِيَ (خَافَ) أصلُه (خَوِف) بكسرِ الواوِ، قُلِبَتِ الواوُ أَلِفًا فقيلَ فيه: (خاف) والواوُ المبدلةُ من الألفِ أصلُها مكسورةٌ، فإذا بُنِيَ الفعلُ إلى ضميرِ الرفعِ كالتاءِ هنا سَقَطَتِ العينُ بالاعتلالِ وَجُعِلَتْ كسرةُ الواوِ الساقطة بالاعتلالِ نُقِلَتْ إلى الفاءِ ليدلَّ على أن العينَ كانت مكسورةً كما هو مُقَرَّرٌ معلومٌ في فنِّ التصريفِ (١).
وقد ذَكَرْنَا (٢) أن الخوفَ في لغةِ العربِ هو الغَمُّ من أمرٌ مُسْتَقْبَلٌ. وأن الحزنَ هو الغمُّ من أمرٍ فائتٍ. وربما أَطْلَقَتِ العربُ أحدَهما في موضعِ الآخَرِ كما هو مَعْرُوفٌ.
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٤٨) من سورة الأنفال.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٤٨) من سورة الأنعام.