الثانيةُ: هي قولُه: ﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا﴾ [الأنبياء: آية ٦٣] وبعضُ العلماءِ يقولُ: إنه قَالَ: ﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا﴾ قَصَدَهُ لِيُلْجِئَهُمْ إلى الإقرارِ؛ لأن كبيرَهم لا يفعلُ، وأنه جَمَادٌ لاَ يفعلُ شيئًا، فكأنه يُعْرِضُ ويقول: أنتم تَعْبُدُونَ ما لاَ ينفعُ ولا يَضُرُّ، إلى غيرِ ذلك من الأجوبةِ (١).
أما الثالثةُ: فهي أنه لَمَّا هَاجَرَ من بلادِ قومِه، لَمَّا أَنْجَاهُ اللَّهُ من النارِ مَرَّ على ذلك الْجَبَّارِ فِي القصةِ المشهورةِ الثابِتِ فِي الصحيحين (٢)، وكانت امرأتُه - سارةُ - من أجملِ النساءِ، فَعَلِمَ بها ذَاكَ الجبارُ فَطَلَبَهَا، وَلَمَّا قال له: مَا هِيَ مِنْكَ؟ قال: هِيَ أُخْتِي. ولم يَقُلْ: هِيَ زَوْجَتِي. خوفَ أن يغارَ عليه فَيَلْحَقَهُ منه بَأْسٌ، وَجَاءَهَا وقال لها: يا سارةُ، إني قلتُ لهذا الجبارِ: إِنَّكِ أُخْتِي، وأنتِ أُخْتِي في الدِّينِ، ليس هُنَا مَنْ يَدِينُ بِدِينِ الإِسْلاَمِ إلا أَنَا وَأَنْتِ، فأنتِ أُخْتِي فِي الإِسْلاَمِ، فلاَ تُكَذِّبِينِي. في القصةِ المشهورةِ الثابت في الصحيحِ، فَلَمَّا أُدْخِلَتْ عليه وَأَرَادَ أن يتناولَها بسوءٍ أُخِذَ، فقال لَهَا: ادعِي اللَّهَ لِي ولاَ أعودُ، فَدَعَتْ له فَبَرِئَ، فَهَمَّ أن يعودَ فَأُخِذَ أشدَّ من الأولِ، فقال لِخَدَمِهِ: ما أَتَيْتُمُونِي بإنسانٍ، وإنما أَتَيْتُمُونِي بِشَيْطَانٍ!! وأَخْدَمَهَا هاجرَ التي أَعْطَتْهَا لإبراهيمَ، فتسرَّاها وَكانتْ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ. ويذكرونَ في التاريخِ - وقد دَلَّ عليه بعضُ الأحاديثِ - أن هاجرَ أَصْلُهَا بِنْتُ مَلِكِ القبطِ - مَلِكِ مصرَ - أَخَذَهَا منه هذا الملكُ الجبارُ (٣).
_________
(١) المصدر السابق (٦/ ٣٩١ - ٣٩٢)، وانظر: البداية والنهاية (١/ ١٤٥).
(٢) مضى تخريجه في الصفحة السابقة.
(٣) انظر: الفتح (٦/ ٣٩٤).
فيلطف بنا ويوفقنا! فصارت هذه المقالة شبهة فيها كلام حَقٍّ أُريد به باطل، فقولهم: ﴿لَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكْنَا﴾ هذا كلام حق لا شك فيه؛ لأنه لا يقع في الكون خير ولا شر، ولا تحريكة ولا تَسْكينة إلا بمشيئة الله ﴿وَلَوْ شَاء اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى﴾ [الأنعام: الآية ٣٥]، ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا﴾ [السجدة: الآية ١٣]، ﴿فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [الأنعام: الآية ١٤٩]، فقول الذين أشركوا: ﴿لَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكْنَا﴾ هذا كلام صدق وحق لا شَكَّ فِيه.
فَلِطَالِبِ العِلْمِ أنْ يَقُولَ: ما دام كلامهم حقّاً، وهم صادقون في قولهم: ﴿لَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا﴾ -أي: ولا أشرك آباؤنا- ﴿وَلاَ حَرَّمْنَا﴾ أي: نحن ولا آباؤنا شَيْئاً لم يحرمه الله؛ كالبحيرة والسائبة، وهذا الكلام الذي ذكر هنا أن الكفار سيقولونه في المستقبل صرح بأنهم قالوه في (النحل) و (الزخرف)، هو بالنظر إلى ذاته كلام حق لا شك فيه؛ لأن الله لو شاء ألا يشركوا ما أشركوا، ولو شاء ألا يحرموا شيئًا ما حرموا شيئًا.
لطالب العلم أن يقول: إذا كان كلامهم هذا حقّاً، فَلِمَ قال: ﴿كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم﴾ وفي بعض القراءات -وقد تَمَسَّكَ بها المعتزلة لمذهبهم- قال: (كذلك كَذَبَ الذين من قَبْلِهِمْ) بالتخفيف (١)، فما وجه هذا التكذيب؟ وما قالوا إلا حقّاً.
الجواب: أنَّهَا كَلِمَة حق أُريد بها باطل؛ لأنهم قالوا ذلك يستدلون به على أن الله راضٍ عنهم بفعلهم هذا، وهذه المقالة الكاذبة الكافرة هي التي أرادوها بكلامهم، فصار التكذيب مُنْصَبّاً عليها.
_________
(١) وهي قراءة شاذة. انظر: البحر المحيط (٤/ ٢٤٧)، الدر المصون (٥/ ٢١١).
حَمَلَتِ الريحَ ﴿سَحَابًا﴾ جمعُ سحابةٍ، وهي الوعاءُ الذي فيه الماءُ، وهي المزنةُ.
﴿ثِقَالاً﴾ جمعُ ثقيلةٍ، أي: سحابةٌ ثقيلةٌ. وسحابٌ - بالجمعِ - ثقال. وَاللَّهُ صَرَّحَ بأنها ثقالٌ، أي: شديدةُ الثقلِ لِمَا هي موقرة به - مملوءةٌ به - من الماءِ (١).
وهذا نَصٌّ صريحٌ من رَبِّ العالمين الذي هو أصدقُ مَنْ يقولُ أن اللَّهَ يجعلُ ماءَ المطرِ في وعاءٍ، وأنه يحملُ تلك الأوعيةَ الثقيلةَ جِدًّا على متنِ الريحِ، ثم إنه إذا أرادَ نزولَ المطرِ إلى مَحَلٍّ أخرجَ الماءَ من الثقوبِ والفروجِ والخللِ الذي في تلك الوعاءِ الذي فيه الماءُ، كما قال: ﴿فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ﴾ [النور: آية ٤٣] وهذا الماءُ يُنْزِلُهُ اللَّهُ (جل وعلا) من حيثُ شاءَ، وهو قادرٌ على أن ينزلَه من نَهْرٍ تحتَ العرشِ، وعلى أن يجعلَه من بخارِ البحرِ ثم يرفعُه فيجعلُه ماءً صافيًا ويجعله في الْمُزْنِ، وهو قادرٌ على كُلِّ ذلك. وأكثرُ السلفِ على أن الماءَ ينزلُ في السحابِ من نهرٍ تحتَ العرشِ. وبعضُ العلماءِ يقولُ: لاَ مانعَ من أن يرتفعَ من بخارِ البحرِ ماءٌ صَافٍ عذبٌ تتحلل منه الأجرامُ الملحةُ ثم يجعلُه اللَّهُ في وعاءِ الْمُزْنِ، ثم يحملُه على الريحِ، ثم يُلْقِيهِ حيث شاءَ. كما قال مسلم الجاهلية زيدُ بنُ عمرِو بنِ نُفَيْلٍ (٢):

وَأَسْلَمْتُ وَجْهِي لِمَنْ أَسْلَمَتْ لَهُ الأَرْضُ تَحْمِلُ صَخْرًا ثِقَالاً
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٩٩) من سورة الأنعام.
(٢) الأبيات ذكرها ابن هشام في السيرة (١/ ٢٤٧ - ٢٤٨)، وفيه بعض اختلاف في البيت الثاني. ولفظه في ابن هشام:
[لقمان: آية ١٤] ولم يقل: أن اشكرني واشكر والِدَيْكَ. ونحو ذلك من الآيات، إلا أن (شَكَرَه) - متعديًا للمنعم بلا حرف - لغة مسموعة في كلام العرب وليست لحنًا، إلا أن التعدية باللام أفصح منها، أما (أحمده) و (أشكره) فالتحقيق أنه لَيْسَ بِلَحْنٍ، وأنها لغة عربية مسموعة، ومن شواهدها قول أبي نخيلة (١):
دحاها فلما رآها استوت على الماء أرسى عليها الجبالا
شَكَرتُكَ إن الشُكْر حبْلٌ من التُّقَى وما كُل من أَوْلَيْتَه نَعْمةً يَقْضِي
قال: (شكرتك) ولم يقل: (شكرت لك) ومنه بهذا المعنى قول جميل بن معمر (٢):
خَليلَيَّ عُوجَا اليومَ حتى تُسَلِّما... على عَذْبةِ الأَنيابِ طيبة النَّشرِ...
فَإِنَّكُمَا إِنْ عُجْتُما لِي سَاعَةً شَكَرْتُكُمَا حتَّى أُغَيَّبَ في قَبْرِي
قال: شكرتكما، ولم يقل: شكرت لكما. هذا هو التحقيق.
قوله: ﴿فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا﴾ يعني فلما أعطى الله آدم وحواء صالحًا، أي: أعطاهما ولدًا بشرًا سويًّا ليس ببهيمة، وخرج منها بسلام.
﴿جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا﴾ قرأ هذا الحرف جميع القراء منهم ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وعاصم في رواية حفص خاصة: ﴿جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا﴾ جمع شريك. وقرأه نافع وأبو بكر شعبة وحده عن عاصم: ﴿جعلا له شِرْكًا فيما آتاهما﴾ (٣) وكلاهما لغة فصيحة وقراءة سبعية صحيحة لا كلام فيها.
_________
(١) السابق.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٥٣) من سورة الأنعام.
(٣) انظر: المبسوط لابن مهران ص٢١٧.
اللَّهِ حيث قَالَ: ﴿وَمَا أُغْنِي عَنْكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾ [يوسف: الآية ٦٧] فالأخذُ بالأسبابِ لاَ ينافِي التوكلَ كما هو معروفٌ، وقد قال اللَّهُ لمريمَ: ﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ﴾ [مريم: آية ٢٥] ولا شَكَّ أنه لو أَرَادَ أن يتساقطَ عليها رُطَبُهَا من غيرِ سببٍ لَتَسَاقَطَ مِنْ غيرِ سببٍ، ولكنه أَجْرَى العادةَ بِأَنْ جَعَلَ للأرزاقِ والمعايشِ والأشياءِ أسبابًا، رَبَطَ بَيْنَ الأسبابِ ومسبباتِها بما شَاءَ بقدرتِه وحكمتِه:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ قَالَ لِمَرْيَمَ... وَهُزِّي إِلَيْكِ الْجِذْعَ يَسَّاقَطِ الرُّطَبُ...
وَلَوْ شَاءَ أَنْ تَجْنِيهِ مِنْ غَيْرِ هَزِّهِ جَنَتْهُ وَلَكِنْ كُلُّ شَيْءٍ لَهُ سَبَبُ (١)
فالأخذُ في الأسبابِ مع مراعاةِ الشرعِ، وتعلقُ القلبِ بِاللَّهِ، وَتَوَكُّلُهُ على اللَّهِ، هذه طريقةُ الأنبياءِ، وَاللَّهُ (جلَّ وعلا) يقولُ: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ﴾ [المائدة: آية ٣] يعنِي: أن مَنِ اضْطُرَّ إلى أَكْلِ الميتةِ أَكَلَ الميتةَ وتسبَّب في إمساكِ رمقِه بأكلِ الميتةِ، ولم يَقُلْ له فَانْتَظِرْ وَتَوَكَّلْ على اللَّهِ حتى ينزلَ لك رزقٌ من السماءِ!! لَمْ يَقُلْ هذا تعليمًا للناسِ بالأخذِ بالأسبابِ، وتعلق قلوبهم بربهم، وتوكلهم عليه. وهذا معنَى قولِه: ﴿فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ﴾ إن شاء أن يغنيَكم. فَعَلَّقَ الغِنَى بمشيئتِه، فَلاَ يكونُ شيءٌ إلا بمشيئتِه (جلَّ وعلا)؛ لأن الأرزاقَ مقسومةٌ بمشيئتِه (جلَّ وعلا)، فهو الذي تَوَلَّى قسمَها بنفسِه وَلَمْ يَكِلْهُ إلى أَحَدٍ، كما سيأتِي في سورةِ الزخرفِ في الكلامِ على قولِه: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
_________
(١) تقدم ذكرهما في الحاشية عند تفسير الآية (٧٣) من سورة الأعراف، والبيتان في المستطرف (٢/ ١٢٨، ٥٤٨)، ثمار القلوب في المضاف والمنسوب (١/ ٥٩٠).


الصفحة التالية
Icon