رَابِعًا: فِيمَا يَتَعَلَّقُ بالفهارسِ:
كنتُ قد أَعْدَدْتُ فهارسَ متنوعةً تُقَرِّبُ مادةَ الكتابِ لدَى القُرَّاءِ، ثم عَدَلْتُ عن ذلك لأَمْرَيْنِ:
الأَوَّلُ: أن الكتابَ لم يَكْتَمِلْ، ولا زِلْنَا نأملُ الحصولَ على مزيدٍ من الدروسِ الْمُسَجَّلَةِ للشيخِ (رحمه الله)، وهذا يعني أنه بمجردِ حصولِ زيادةٍ في المحتوياتِ يحصلُ إخلالٌ في الفهارسِ من جهةِ أرقامِ الصفحاتِ كما لا يَخْفَى.
وهذا السببُ بِعَيْنِهِ هو الذي أَلْجَأَ إلى أن تكونَ الإحالاتُ إلى المواضعِ السابقةِ واللاحقةِ في الحاشيةِ مرتبطةً بأرقامِ الآياتِ في السورِ.
الثاني: كنتُ قد عَهِدْتُ لأحدِ الفضلاءِ من طلبةِ العلمِ (١) صناعةَ فهارسَ علميةٍ شاملةٍ لجميع ما وَرَّثَهُ الشيخُ (رحمه الله) من العلمِ، سواء كان أصلُ مادتِه مُؤَلَّفًا للشيخِ، أم كان دروسًا مُسَجَّلَةً كُتِبَتْ بعد ذلك، كبعضِ المحاضراتِ، أو هذا التفسيرِ، بالإضافةِ إلى بعضِ الفتاوى الْخَطِّيَّةِ التي كَتَبَهَا الشيخُ (رحمه الله) ولم تُطْبَعْ بَعْدُ، وهذا يغني عن وَضْعِ فهارسَ خاصةٍ لهذا الكتابِ. ولتيسيرِ الوقوفِ على الآيةِ المطلوبِ تفسيرُها قمتُ بترقيمِ الآياتِ بالإضافةِ إلى كتابةِ اسمِ السورةِ ورقمِ الآيةِ المفسَّرةِ في رأسِ كُلِّ صَفْحَةٍ.
هذا وقد سَمَّيْتُهُ (الْعَذْب النَّمِير مِنْ مَجَالِسِ الشَّنْقِيطِيِّ فِي التَّفْسِيرِ).
أسألُ اللَّهَ (عز وجل) أن ينفعَ به مَنْ كَتَبَه، أو قَرَأَهُ، وهو حَسْبُنَا وَنِعْمَ الوكيلُ.
•••
_________
(١) وهو الأستاذ زاهر الشهري حفظه الله.
﴿لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ﴾ [الأنعام: آية ١٠٢]، لاَ معبودَ يُعْبَدُ بالحقِّ إلا هو وحدَه، وكلُّ معبودٍ من دونه - كالجنِّ الذي عَبَدَهَا أولئك الكفرةُ - هو وَعَابِدُوهُ في النارِ ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (٩٨)﴾ [الأنبياء: آية ٩٨].
﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: آية ١٠٢] (جل وعلا) لأنه (جل وعلا) خالقُ كُلِّ شيءٍ، فإذا نظرَ الإنسانُ في أصنافِ المخلوقاتِ بَهَرَ عقلَه قدرةُ اللَّهِ (جل وعلا)، فإذا نظرتُم إلينا معاشرَ الآدميين تجدونَ خالقَ السماواتِ والأرضِ أَوْدَعَ في الواحدِ مِنَّا من غرائبِ صنعِه وعجائبِه ما يُبْهِرُ العقولَ وَيُفَتِّتُ الكُبودَ.
مِنْ أظهرِ ذلك: أنه صَبَّنَا صَبَّةً واحدةً، فجعل الأنفَ هنا، والعينينَ هنا، والفمَ هنا، ولم يَتَّفِقْ مِنَّا اثْنَانِ، لا يمكنُ أن يتفقَ اثنانِ، حتى لا يُعْرَفَ [فرقٌ] (١) بينهما، ولو جاءت الآلافُ والملايينُ، مَضْرُوبًا في الآلافِ والملايين: لم يَضِقُ العلمُ أن يجعلَ لكلِّ واحدٍ صورةً وهيئةً مخالفةً لصورةِ الآخَرِ وهيئتِه، حتى إن الأصواتَ وآثارَ الأقدامِ وبصماتِ الأصابعِ في الأوراقِ، كُلُّ هذا لم يَشْتَبِهْ منه شيءٌ. وهذا من غرائبِ صنعِ هذا الخالقِ وعجائبِه جل وعلا.
وَأَبْدَعَ في كُلِّ واحدٍ منا، لو شُرِّحَ عضوٌ واحدٌ تَشْرِيحًا صحيحًا لَبَهَرَ العقولَ ما أودع اللَّهُ فينا من غرائبِ صنعِه وعجائبِه.
إذا نظرتَ في العينين تَجِدْ في العينين من غرائبِ صنعِ اللَّهِ
_________
(١) زيادة يقتضيها السياق.
وجملة ﴿أَهْلَكْنَاهَا﴾ خبره، على أجود الإعرابين. ويجوز أن تكون منصوبة على الاشتغال، منصوبة بـ (أهلكنا) مضمرة دلت عليها ﴿أَهْلَكْنَاهَا﴾ (١) على حد قوله: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (٤٩)﴾ [القمر: آية ٤٩] إلا أن الرفع هنا على الابتداء أجود؛ لأن ما لا تقدير فيه أولى مما فيه تقدير (٢).
والقرية تطلق في اللغة العربية إطلاقين (٣): تطلق على مطلق الأبنية من الحجارة والطين والأُسس والسقوف، وتطلق على أهل القرية التي هي عامرة بهم، دل القرآن على إطلاقها هذين الإطلاقين. والتخويف بإهلاك أهلها وإن كان نفس القرى والأبنية يدمره الله ويهلكه، إلا أن التخويف الشديد إنما هو بإهلاك أهلها، والمراد بالإهلاك: إهلاك أهلها؛ لأن الله قال بأن المراد الأهل، قال: ﴿وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ (٤)﴾ فقوله: ﴿هُمْ قَآئِلُونَ﴾ يدل على أن المراد هو السكان؛ لأن نفس الأبنية لا يقال فيها: ﴿هُمْ قَآئِلُونَ﴾ فلا بد هنا من تقدير: (أهل القرية) على كل حال (٤)؛ لأن الله قال: ﴿أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ (٤)﴾ فقال بعضهم: يقدر في قوله: ﴿وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا﴾ أي: أهلكنا أهلها ﴿فَجَاءهَا﴾ أي: القرية، والمراد: أهلها ﴿بَأْسُنَا بَيَاتاً﴾ بدليل قوله: ﴿أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ﴾. وقال بعض العلماء: لا حاجة إلى تقدير (الأهل) في الأول: ﴿وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا﴾ أي: دمرنا أبنيتها وجعلناها خاوية
_________
(١) انظر الدر المصون (٥/ ٢٤٧).
(٢) انظر: البرهان للزركشي (٣/ ١٠٤)، قواعد التفسير (١/ ٣٦٢).
(٣) انظر: المفردات (مادة: قرى) ص٦٦٩.
(٤) انظر: الدر المصون (٥/ ٢٤٨).
تقوى الأدمغة» يومًا ما. فالقرآن طافح بهذا بكثرة، والسنة النبوية طافحة بهذا بكثرة.
أما الذين يقلدون ملاحدة الإفرنج فهم على نوعين: من جاء منهم بطريق لا تُكذب القرآن فما علينا منه، ومقالته لا نتعرض لها؛ لأن كل ما يصعب علينا هو ما يعارض نصوص السماء التي أنزلها خالق السماوات والأرض، فإذا جاء بما يخالفه مخالفة قطعيّة وجب علينا أن نرد عليه ونكذبه، وإن كان لم يكن هناك مخالفة فمَنْ عنده دليل خاص فليُبْرِزه، ومن ليس عنده فليسكت.
وهنا تجب مسألة: يجب على المسلمين أن يتحفظوا كل التحفظ من أن يُحَمّلُوا القرآن ما لا يحتمله، فعلينا أن لا نقول: إن الله قال في كتابه هذا إلا بعد اليقين الجازم والتحري العظيم، خوفًا أن يكون ذلك الظاهر الذي نفهمه غير المراد فنقول على الله بغير حق، ويكون الحق عند غيرنا. هذا أمر يجب أن يُتحفظ منه. ولكن الآيات القرآنية الدالة على أن العقل في القلب لا تكاد تحصيها، وهو أمر قطعي لا نزاع فيه.
أما الذين قالوا من فلاسفة الملاحدة: إن مركز العقل مثلاً: القلب، ولكن نوره روحاني يمتد نوره فيتصل شعاعه بالدماغ؛ ولذا من قال: إنه في الدماغ لم يكذب لاتصال أحد طرفيه به، من قال هذا وجاء بهذا فما علينا منه، وقد يمكن أن يكون صادقًا، ولم يأتِ بما يخالف نصوص ربنا، فلو قال هذا فهو أهون. أما الذي يقطع علاقة العقل بتاتًا بالقلب، ويقول: كله في الدماغ. فهذا الذي نقول له: كذاب، كذاب، كذاب؛ لأن الله يقول: إنه في القلب.
واعلموا أن الوقت الذي يستحق فيه الغانم نصيبه من المغنم اختلف فيه العلماء (١): فقال بعض العلماء: إذا أخذوا في الدرب، والدروب هي: الطرق الموصلة إلى بلاد الكفار من العَجَمِ ونحْوِهِمْ إذا أخذوا فيها فَكُلّ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ لَهُ نَصِيبُهُ من الغنيمة، ولو مات قبل أن تُحاز الغنيمة. وهذا قائله قليل وليس بوجيه.
وقال بعض العلماء: لا يُورَثُ عَنْهُ نَصيبُهُ ويَسْتَحِقُّهُ حتى يحوز المسلمون الغنيمة، ويخرجون بها من ديار الحرب إلى بلاد الإسلام، فعند ذلك الوقت يَسْتَقِرُّ مُلْكهم لها، ويورث عنه نصيبه، وُيرْوَى نَحو هذا عن أبي حنيفة رحمه الله.
وأظهر الأقوال: أنه إِنْ مَاتَ بَعْدَ أَنْ حَازَ المُسْلِمُونَ الغَنِيمَةَ وأخَذُوهَا مِنَ الكُفَّارِ يورث نصيبه عنه، وإن مات قَبْلَ أَنْ تُحَازَ لم يُورَثْ عَنْهُ شَيْء (٢)؛ لأنه مات قبل أن يحصل شيء يكون ملكاً له حتى يورث عنه، هذا هو الأظهر. هذه أحكام من أحكام الغنيمة.
واعلموا أن العلماء اختلفوا في الغال هل يُحرق رحله أو لا (٣)؟ فقد جاءت عن النبي ﷺ أحاديث تدل على أن الغَالَّ -السارق من الغنيمة- يُحْرَقُ رَحْلُهُ ومَتَاعُهُ، وهذا جاء عن النبي ﷺ والخُلَفَاءِ وغَيْرِهِمْ ربما حرقوا متاع الغالِّ وربما تركوا حَرْقَهُ. وأظْهَر الأقوال في هذه المسالة أنها من التَّعْزِيرَاتِ المالية الموكُولة إلى نظر الإمام إن رأى المصلحة في حَرْقِ مَتَاعِهِ حَرَقَهَ وَلَهُ ذَلك، وإن رأى إِبْقَاءَهُ أَبْقَاهُ،
_________
(١) انظر: المغني (١٣/ ٩١)، الأضواء (٢/ ٤٠٨).
(٢) انظر: المغني (١٣/ ٩١).
(٣) انظر: القرطبي (٤/ ٢٥٩ - ٢٦٠)، المغني (١٣/ ١٦٨ - ١٧٢) الأضواء (٢/ ٤٠٤).


الصفحة التالية
Icon