وهذه الآيةُ الكريمةُ تدلُّ على أن نفيَ الشيءِ لا يدلُّ على إمكانِه؛ لأن نفيَ السلطانِ عن الآلهةِ لا يدلُّ على إمكانِه، كقولِه: ﴿وَمَا ظَلَمُونَا﴾ [البقرة: آية ٥٧] فَنَفْيُهُ ظُلْمَهُمْ عنه لا يدلُّ على إمكانِه (١)، فهذا يدلُّ على أن نفيَ الفعلِ لا يدلُّ على إمكانِه، كما قال جل وعلا: ﴿وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ﴾ [المؤمنون: آية ١١٧] فنفيُ البرهانِ لا يدلُّ على إمكانِ البرهانِ؛ إِذْ لا يقومُ عليه برهانٌ أبدًا. وهذا معنَى قولِه: ﴿وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا﴾ [الأنعام: آية ٨١] أي: حجةً واضحةً.
ثم قال: ﴿فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ﴾ أَيُّ الفريقين أحقُّ بالأمنِ، أهو الفريقُ الذي يعبدُ اللَّهَ، ويوحدُ اللَّهَ، ويطيعُ اللَّهَ، الذي بيدِه النفعُ والضرُّ، وَيُرْقَبُ وَيُرْجَى مِنْ قِبَلِهِ كلُّ شيءٍ، أو هذا الذي يكفرُ باللَّهِ ويغضُبه ويسخطُه ويصرفُ حقوقَه للجماداتِ؟ أَيُّ هذين الفريقين أَحَقُّ بالأمنِ والسلامةِ من الآخَرِ؟ الجوابُ: أن فريقَ اللَّهِ الذي يعبدُه ويوحدُه ويطيعُه
لاَ شَكَّ أنه أَحَقُّ بالأمنِ؛ وَلِذَا قال: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [الأنعام: آية ٨٢] وهم إبراهيمُ ﴿وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ﴾ أي: لم يَخْلِطُوا إيمانَهم بشرك ﴿أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾ وقد ثَبَتَ في صحيحِ البخاريِّ، في تفسيرِ هذه الآيةِ الكريمةِ أنه لَمَّا نَزَلَ قولُه: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ شَقَّ ذلك على أصحابِ النبيِّ - ﷺ -، وقالوا: أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نفسَه؟ فقال لهم النبيُّ - ﷺ -: «لَيْسَ الَّذِي تُرِيدُونَ». ثم تَلاَ قوله: «﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ (٢)
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥٧) من سورة البقرة.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٥١) من سورة البقرة.
هدايتكم أجمعين لهداكم أجمعين، ولكنه لم يشأ، كما قال: ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ [السجدة: الآية ١٣] وهذا معنى قوله: ﴿فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [الأنعام: الآية ١٤٩].
وهذه تقضي على مذهب المعتزلة؛ لأن الله صرح بأنه لو شاء لهداهم أجمعين، فعُرف بأن شركهم بمشيئته، وأنه لو شاء أن لا يُشركوا ما أشركوا ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا﴾ [السجدة: الآية ١٣] ﴿وَلَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكُواْ﴾ [الأنعام: الآية ١٠٧] ونحو ذلك من الآيات.
﴿قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١٥٠)﴾ [الأنعام: الآية ١٥٠].
﴿قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هَذَا﴾ قل يا نبي الله لهؤلاء الذين حرموا السائبة والبحيرة والوصيلة والحام ﴿وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا﴾ [الأنعام: الآية ١٣٩] ﴿وَقَالُواْ هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ﴾ [الأنعام: الآية ١٣٨] أي: حرام.
قل للمُحرِّمين هذه الأشياء، الزاعمين أن الله أمرهم بتحريمها، كما صرح به في (الأعراف) في قوله: ﴿وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا﴾ [الأعراف: الآية ٢٨] قل لهم يا نبي الله: هذا الذي ادَّعَيْتُمْ على الله من أنه حَرَّم هذا وأمركم بتحريمه هَلُمَّ شهداءكم الذين يَشْهَدُون لكم على الله أنه حَرَّم هذا.
و (هَلُمَّ) معناه: أحْضِرُوا وقَرِّبُوا. وهذه الكلمة -كلمة
﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا﴾.
وبهذه الآياتِ وهذه الأمثالِ التي ذَكَرْنَا يجبُ على المسلمِ أن يخافَ من سَخَطِ اللَّهِ وأن يكونَ قلبُه كالأرضِ السبخةِ التي لاَ تنتفعَ بمواعظِ القرآنِ ولاَ بزواجرِه، ويسألُ اللهَ أن يجعلَ أرضَ قلبِه طيبةً قابلةً لمواعظِ القرآنِ وزواجرِه وأوامرِه ونواهيه؛ فإن مَنْ كانت أرضُ قلبِه طيبةً انتفعَ بمواعظِ هذا القرآنِ، وَنَفَعَتْهُ أوامرُه فَامْتَثَلَهَا، وزواجرُه فَاجْتَنَبَهَا، وأمثاله فَاعْتَبَرَ بها، وقصصَه فاعتبر بها.
فَعَلَيْنَا جميعًا أن نسألَ اللهَ أن لا يجعلَ قلوبَنا كالأرضِ السبخةِ التي لا تنتفعُ بما ينزلُ عليها من أمطارِ الوحيِ، وأن يجعلَ أرضَ قلوبِنا كالأرضِ الطيبةِ القابلةِ للإثمارِ وإنباتِ العشبِ والكلأِ الكثيرِ والتأثرِ بآياتِ اللهِ (جل وعلا) لتثمرَ الخيرَ كُلَّهُ من الإيمانِ باللهِ وطاعتِه وامتثالِ أَمْرِهِ واجتنابِ نَهْيِهِ. وهذا معنَى قولِه: ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا﴾ [الأعراف: آية ٥٨].
﴿كَذَلِكَ﴾ التصريفُ. التصريفُ: قَلْبُ الشيءِ من حالٍ إلى حالٍ. واللهُ يبينُ لنا المواعظَ موعظةً بعدَ موعظةٍ، والآياتِ آيةً بعدَ آيةٍ في أسلوبٍ بعدَ أسلوبٍ. كذلك التصريفُ الذي صَرَّفْنَا لكم فيه هذه الآياتِ، وَبَيَّنَّا لكم ما يلزمُ، وَبَيَّنَّا لكم عِظَمَ قدرتِنا، وأدلةَ رُبُوبِيَّتِنَا وألوهيتِنا، وَضَرَبْنَا لكمُ الأمثالَ في مَنْ ينفعُ فيه ذلك وَمَنْ لاَ ينفعُ فيه، كذلك التصريفُ الموضحُ للآياتِ جملةً بعدَ جملةٍ، وآيةً بعدَ آيةٍ، كذلك التصريفُ ﴿نُصَرِّفُ الآيَاتِ﴾ نأتِي بها على أنحاء مختلفةٍ، في أساليبَ مختلفةٍ لَعَلَّ اللَّهَ يهدي بذلك مَنْ يشاءُ.
وقولُه: ﴿لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ﴾ [الأعراف: آية ٥٨] خَصَّ القومَ الذين يشكرونَ لأنهم هم المنتفعونَ بالآياتِ. كقولِه: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ
وما حَمَلَتْ من نَاقةٍ فوقَ رَحْلِهَا... أَبَرَّ وأوَفى ذمةً مِنْ مُحَمَّدِ...
وأَعْطَى إذا ما طالِبُ العُرْفِ جَاءَهُ... وأَمْضَى بحدِّ المَشْرَقِيِّ المُهَنَّدِ
والحاصل أن الشدة في محل اللين حمق وخرق، واللين في محل الشدة ضعف وخور، وكل مقال له مقام. وقد صدق أبو الطيب المتنبي في قوله (١):
إذا قِيلَ حِلْمٌ فَقُلْ لِلْحِلْمِ مَوْضِعٌ... وَحِلْمُ الْفَتَى في غَيْرِ مَوْضَعِهِ جَهْلُ
وقوله: ﴿خُذِ الْعَفْوَ﴾ قال بعض العلماء: لما نزلت هذه الآية سأل النبي ﷺ عنها جبريل فقال له: حتى أسأل ربي، ثم رجع له وقال: ربك يقول: ﴿خُذِ الْعَفْوَ﴾ أي: صِل من قطعك، وأعطِ من حرمك. ونحو ذلك (٢)... فإن هذا هو العفو، بأن تصل من قطعك، وتعفو عمن ظلمك، قال له: صِلْ من قطعك، واعف عمن ظلمك. هذا هو الأخذ بالعفو، وقد ثبت في صحيح البخاري في تفسير هذه الآية الكريمة أن عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري المعروف من رؤساء فزارة وهو الذي يُقال: إنه مطاع أحمق، وكان ابن أخيه
_________
(١) البيت في ديوانه بشرح العكبري (٣/ ١٨٧)، وشطره الأول: «إذا قيل رفقًا قال... ».
(٢) أخرجه ابن جرير (١٣/ ٣٣٠)، وابن أبي حاتم (٥/ ١٦٣٨)، عن سفيان بن عيينة عن أُمَيّ مرسلاً. وأخرجه ابن أبي حاتم (٥/ ١٦٣٨) وأورده السيوطي في الدر (٣/ ١٥٣)، عن الشعبي مرسلاً، وعزاه لابن أبي الدنيا وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن جرير. والذي عند ابن جرير عن أمَيّ كما تقدم.
كما أورده في الدر عن جابر (رضي الله عنه) وقيس بن سعد بن عبادة وعزاه لابن مردويه.
وعلى كُلِّ حالٍ فدينُ الإسلامِ هُوَ هُوَ، وصلتُه بالله هِيَ هِيَ، دينٌ عريقٌ عظيمٌ أُسُسُهُ قويمةٌ عظيمةٌ، لو لم يَكُنْ مَبْنِيًّا على أُسُسٍ عظيمةٍ، وكتابُه محفوظٌ لَطَمَسُوا أَثَرَهُ في قُرُونٍ!! ولكنه دِينٌ عَرِيقٌ ثابتُ الجذورِ لاَ يتغيرُ ولا يتزعزعُ، وإنما تَنَكَّرَ له المنتسبونَ إليه فصاروا خفافيشَ تقودُهم الكفارُ إلى ما يشاؤون، فيقلدونَهم في كُلِّ كُفْرٍ وَكُلِّ إلحادٍ، وَكُلِّ انحطاطٍ خُلُقِيٍّ، وَكُلِّ تمردٍ على نظامِ السماءِ، وكفر بخالقِ السماواتِ والأرضِ، في الوقت الذي لا ينتفعونَ بالأمورِ [الدنيويةِ] (١). وإنما حَكَيْنَا هذا أَسَفًا من واقعٍ نرجو اللَّهَ أن يزيلَ هذا عن المسلمينَ.
ولما كان جزاءُ الكفارِ وعقوبتُهم عظيمةً بَيَّنَ بعضَ أسبابِ ذلك فقال: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ﴾ [التوبة: آية ٣٠] قال بعضُ العلماءِ (٢): قَالَتْهُ جماعةٌ من اليهودِ، منهم: سَلاَّمُ بنُ مشكم، وشأسُ بنُ قيسٍ، ونعمانُ بنُ أَوْفَى، ومالكُ بنُ الصيفِ من اليهودِ - قَبَّحَهُمُ اللَّهُ - زعموا أن عُزيرًا ابنُ اللَّهِ.
وقال بعضُهم: قاله القدماءُ من اليهودِ فَاتَّبَعَهُمُ الآخَرون.
وقال بعضُهم: إن الذي قالَه قبلَ اليهودِ في زمنِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وأن سببَ ذلك أنهم قَتَّلُوا الأنبياءَ فَرَفَعَ اللَّهُ التوراةَ وَمَسَخَهَا من قلوبِهم، أو أن "بختنصرَ" قَتَلَ علماءَهم، وَضَاعَتْ عليهم التوراةُ، وكان بعضُهم دَفَنَهَا في مَحَلٍّ، وكان عُزيرٌ قد قَدَّمْنَا قضيتَه أن الله أماتَه مائةَ عامٍ ثم بَعَثَهُ، وجاء وقد ضَاعَتِ التوراةُ عليهم، بَقُوا لم يحفظوا منها شيئًا، فَعَلَّمَهُ اللَّهُ إياها فقرأها عليهم لم يَخْرِمْ منها حَرْفًا، فقالوا: ما
_________
(١) في الأصل: «الدينية». وهو سبق لسان.
(٢) انظر: ابن جرير (١٤/ ٢٠٢).