وصلى الله وسلم وَبَارَكَ على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه.
كتبه: خالد بن عثمان السبت
أنتم كُلاّ تعلمونَ أن الواحدَ منكم يدخلُ رَحِمَ أُمِّهِ ليس مُخَطَّطًا مفصلاً، ليس فيه رأسٌ ولا يدٌ ولا رجلٌ ولا عظمٌ، نطفةُ ماءٍ من مَنِيٍّ، ثم الله (جل وعلا) يخلقُ هذا الْمَنِيَّ دَمًا، ثم يخلقُ الدمَ علقةً، ثم يخلقُ الدمَ مضغةً، ثم المضغةَ عظامًا، إلى آخِرِ ما ذَكَرَ. ويخططُكم هذا التخطيطَ، ويفصلكم هذا التفصيلَ، ويفتحُ لكم العيونَ، والأفواهَ والآنافَ والأسماعَ، ويجعلُ في العينِ حاسةَ البصرِ، وفي اللسانِ حاسةَ الذوقِ، وفي [الأُذُنِ] حاسةَ [السمعِ] (١) إلى غيرِ ذلك. ويُرَتِّبُ - أيها الإخوانُ - هذه العظامَ والسُّلامياتِ هذا الترتيبَ الغريبَ العجيبَ ﴿نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ﴾ [الإنسان: آية ٢٨] الأَسْرُ: معناه شَدُّ الشيءِ بالشيءِ وإلصاقُه به؛ إِذْ لو كان الذي ألصقَ هذه العظامَ والسُّلاميات بعضَها ببعضٍ، بل ولو لم يَجْعَلْهُ قَوِيًّا مشدودًا لقالوا: سَقَطَتْ يدُ فلانٍ البارحةَ، وَسَقَطَتْ رِجْلُهُ، وطاحَ فَخِذُهُ؛ لأنه لم يكن مَشْدُودًا!! لا، شَدَّهُ خالقُ السماواتِ والأرضِ، وألصقَ العظامَ بعضَها ببعضٍ، والغضارفَ بالعظامِ واللحمِ، وشدَّ هذا شَدًّا مُحْكَمًا: ﴿نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً (٢٨)﴾ [الإنسان: آية ٢٨].
الشاهدُ أن الله نَبّهَنَا على فِعْلِهِ فينا: ﴿وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ (٢١)﴾ [الذاريات: آية ٢١]، وَبَيَّنَ لنا أنَّا ندخلُ بطونَ أمهاتِنا نُطَفَ ماءٍ؛ وَلِذَا قال: ﴿يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ﴾ [الزمر: آية ٦] ينقلكم من طَوْرٍ إلى طَوْرٍ: ﴿مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (١٣) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (١٤)﴾ [نوح: الآيتان ١٣، ١٤] وهذا كُلُّهُ والواحدُ في ظلماتٍ ثلاثٍ:
_________
(١) في الأصل: «وفي السمع حاسة الأذن» وهو سَبْقُ لسانٍ.
فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف: آية ٧٩] أي: لئلا يأخذها الملك الغاصب، فدل كون الملك لا يأخذ السفينة المعيبة على حذف النعت في قوله: ﴿وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ﴾ أي: صحيحة صالحة غير معيبة ولا مخروقة. وحذف النعت معروف في كلام العرب، ومن أمثلته في كلام العرب قول المُرقَّش الأكبر (١):
وَرُبَّ أَسِيلَةِ الخَدَّينِ بِكْرٍ | مُهَفْهَفَةٍ لها فَرْعٌ وَجِيْدُ |
مَنْ قَوْلُهُ قَوْلٌ وَمَنْ فِعْلُهُ | فِعْلٌ وَمَنْ نَائِلُهُ نائِلُ |
وهذه القرى بينها الله بكثرة إجمالاً وتفصيلاً (٣)، كقوله: ﴿وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً (٨) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً (٩)﴾ ثم بين عذابهم الأخروي فقال: ﴿أَعَدَّ الله لَهُمْ عَذَاباً﴾ الآية [الطلاق: الآيات ٨ - ١٠] وكقوله: {فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ
_________
(١) السابق.
(٢) السابق.
(٣) انظر: الأضواء (٢/ ٢٨٨).
ثم إن الله قال: ﴿تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا﴾ [الأعراف: آية ١٠١] الإشارة في قوله: ﴿تِلْكَ﴾ إشارة للقرى، ومعلوم أن (القرى) وما جرى مجراها أنه يعامل معاملة المؤنثة المجازية التأنيث. والقرى: جمع قرية على غير مثال، والقرى المشار إليها هي ما تقدم ذكرها في آيات سورة الأعراف الماضية؛ كقوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط، وقوم شعيب كما تقدم قصصهم مفصلاً (١).
﴿تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا﴾ بعضهم يقول: ﴿تِلْكَ﴾ مبتدأ، و ﴿الْقُرَى﴾ خبره، و ﴿نَقُصُّ﴾ جملة حالية، كقوله: ﴿وَهَذَا بَعْلِي شيخًا﴾ [هود: آية ٧٢] على أن (هذا) مبتدأ، و (بعلي) خبره، و (شيخا) حال، ولهم فيه غير ذلك (٢). وبعضهم يقول: إن (تلك) مبتدأ و (القرى) نعته. وهذا مبنيٌ على ما يقوله جماعة من النحويين أن أسماء الأجناس الجامدة أنها ربما نُعِت بها ووُصِفَ بها، وبه قال جماعة من علماء النحو كما هو معروف في محله.
وقوله: ﴿نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا﴾ [الأعراف: آية ١٠١] صيغة الجمع للتعظيم، ومعنى: ﴿نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا﴾ نتلوا عليك أخبارها في هذا الكتاب العظيم. والأنباء: جمع النبأ وهو الخبر، وقد قَدَّمْنَا مرارًا (٣) أن النبأ أخص من الخبر، فكل نبأ خبر وليس كل خبر نبأ؛ لأن النبأ لا يطلق إلا على الخبر الخاص، وهو الخبر الذي له خطب وشأن، كما قلنا: إنك لا تقول: جاءني اليوم نبأ عن حمار
_________
(١) انظر: الأضواء (٢/ ٣٢٨).
(٢) انظر: الدر المصون (٥/ ٣٩٧).
(٣) مضى عند تفسير الآية (٨٩) من سورة الأنعام.
والتحقيق: أن نصيب رَسُول الله ﷺ من الخُمُس كان يردُّه على مصالح المسلمين لا يأخذ منه شيئاً؛ لأنه كان يأخذ خلته الضرورية مِنْ فَيْء بني النضير، وربما أخذ منه بعضاً من فَيْءِ قُرَيْظَةَ، وأن نصيبه إنما يجعله في مصالح المسلمين، كما جاء عنه ﷺ في حديث ثابت رواه بعض أصحاب السنن والإمام أحمد وغيرهم أنه (صلوات الله وسلامه عليه) قال: «مَا لِي مِمَّا أَفَاءَ اللهُ عَلَيْكُمْ إِلاَّ الخُمُس، والخُمُس مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ» (١)،
فصرّح بهذا الحديث بأن الخمس مردود عليهم.
واختلف العلماء في نصيب النبي ﷺ بعد موته (٢): فجماهير العلماء على أن نصيبه ثابت بعد مَوْتِهِ ولا يسقط بموته، وكذلك نصيب قرابته، وأن الإمام بعده يصرفه في مصالح المسلمين كما كان يصرفه رَسُول الله ﷺ فيها، وكذلك كان يفعل أبو بكر وعمر يصرفان نصيبه ﷺ في مصالح المسلمين العامة من الكراع والسلاح وغيره كما كان ﷺ يفعله. وخالف في هذا الإمام أبو حنيفة (رحمه الله) فقال: بعد موته ﷺ يسقط نصيبه ونصيب قرابته، فما يبقى إلا ثلاثة أنصباء،
_________
(١) روى هذا الحديث جماعة من الصحابة (رضي الله عنهم)، منهم:
١ - عبد الله بن عمرو. عند أبي داود في الجهاد، باب في فداء الأسير بالمال، حديث رقم: (٢٦٧٧) (٧/ ٣٥٩)، والنسائي في قسم الفيء، حديث رقم: (٤١٣٩) (٧/ ١٣١).
٢ - عمرو بن عبسة. عند أبي داود في الجهاد، باب في الإمام يستأثر بشيء من الفيء لنفسه، حديث رقم: (٢٧٣٨) (٧/ ٤٣٤).
٣ - عبادة بن الصامت. عند مالك في الموطأ، حديث رقم: (٩٨٥) ص٣٠٤، والنسائي في قسم الفيء حديث رقم: (٤١٣٨) (٧/ ١٣١).
(٢) انظر: ابن جرير (١٣/ ٥٥٦) القرطبي (٨/ ١١)، الأضواء (٢/ ٣٦٠).