آية ٥٤]. قولُهم: ﴿إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ﴾ يَعْنُونَ: أنَّ بعضَ معبوداتِهم مَسَّ نَبِيَّ اللَّهِ هودًا بسوءٍ، حتى جَعَلَهُ مجنونًا مُخْتَبَلاً، يقول: اعْبُدُوا اللَّهَ، اعْبُدُوا اللَّهَ، اعْبُدُوا اللَّهَ. كأن هذا عندَهم هذيانٌ وجنونٌ، وأن آلهتَهم خَبَّلَتْهُ، حتى صارَ يقولُ هذا.
فأجابَهم نبيُّ اللَّهِ هودٌ: ﴿إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٥٤) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنْظِرُونِ (٥٥) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٦)﴾ [هود: الآيات ٥٤ - ٥٦] وقد بَيَّنَ اللَّهُ في سورةِ الزمرِ أنهم خَوَّفُوا نَبِيَّنَا - ﷺ - بآلهتِهم، ثم أَمَرَهُ أن يقولَ: إنها لا تنفعُ ولا تَضُرُّ، لا تكشفُ ضُرًّا ولا تستجلبُ نفعًا. وذلك في قولِه: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ﴾ [الزمر: آية ٣٦] يعني يُهَدِّدُونَكَ بالأصنامِ أن تَضُرَّكَ كما خَوَّفُوا بها إبراهيمَ وهودًا على الجميعِ صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه.
ثُمَّ إن اللَّهَ أمرَ نَبِيَّهُ أن يبينَ أنها لا تنفعُ ولا تضرُّ، في قولِه بعدَ الآيةِ التي ذَكَرْنَا: ﴿قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ﴾ الآية. [الزمر: آية ٣٨]. وهذا مِمَّا يبين أن الحجةَ التي آتَاهَا اللَّهُ نَبِيَّهُ إبراهيمَ هي إفحامُه الخصومَ، ومناظرتُه لهم جميعًا؛ ذلك أنهم كانوا يعبدونَ كواكبَ مسخرةً، ويعبدونَ أصنامًا أرضيةً، وأجرامًا سماويةً، فقال لهم في الأجرامِ الأرضيةِ: ﴿أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ﴾ [الصافات: آية ٩٥] ﴿أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [الأنبياء: آية ٦٧] ﴿هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ﴾ [الشعراء: الآيتان ٧٢ - ٧٣] ﴿لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا﴾ [مريم: آية ٤٢] هذا في الأجرامِ الأرضيةِ، وهي أصنامُهم،
٢٣، ٢٤] كل هذا في الرسول - ﷺ - وأبواه قد ماتا من زمان، فدل على أن قوله: ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ﴾ أي: يبلغ عندك الكبر أحد والِدَيْكَ فبرّهما وقل لهما قولاً كريماً، أي: المراد خطابه ليُشرع لأمته، ومَنْ زَعَمَ من الناس أن هذا الخطاب -أي: قوله: ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا﴾ - أنه يخاطب به مطلق الإنسان المُخَاطَب وليس النبي؛ فهذا غلط محض؛ لأن كل هذه الخطابات للنبي - ﷺ - ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ﴾ ﴿وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ﴾ [الإسراء: آية ٢٨] والدليل عليه أنه قال: ﴿ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ﴾ [الإسراء: آية ٣٩]، فدل أن الخطاب للمُوحَى إليه لا إلى مطلق الواحد من الناس.
وآية الإسراء هذه نص صريح في أنَّ النبي - ﷺ - يُخاطَب بالخطاب ليس هو المراد به، بل المراد التشريع لأمته؛ لأنه - ﷺ - هو المشرِّع لهم بأقواله وأفعاله، وهذا معنى قوله: ﴿وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا﴾ ككفار قريش الذين كذبوا بآيات الله، لا تتبع أهواءهم في الشرك، ولا في تحريم ما أحل الله.
﴿وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ﴾ ظاهر العطف أنهما طائفتان، والتحقيق: أنهما طائفة واحدة (١)، إلا أن المعروف في علم العربية أن الشيء يُعطف على نفسه بألفاظ مختلفة إذا كانت الصفات مختلفة، نزَّلوا تَغَايُر الصفات منزلة تغاير الألفاظ، فعطَفوه على نفسه؛ نظراً إلى تَغَايُر الصفات (٢)؛ لأن صفة التكذيب بآياتنا، وصفة عدم الإيمان بالآخرة متغايرتان، فصار الموصوف كأنه متغاير لتغاير
_________
(١) انظر: البحر المحيط (٤/ ٢٤٨).
(٢) مضى عند تفسير الآية (٥٤) من سورة البقرة.
فهو من أقلِّ الناسِ حياءً وَأَلأَمِهِمْ وَأَخَسِّهِمْ، وكيف يجملُ بعبدٍ مسكينٍ ضعيفٍ أن يُنْعِمَ عليه خالقُ السماواتِ والأرضِ نِعَمَهُ الكثيرةَ بفضلِه ورحمتِه ثم يستعينُ بِنِعَمِ خالقِه على معصيةِ خالقِه وما يُسْخِطُ خالقَه، فهذا أقبحُ اللؤمِ وأخسُّه، وصاحبُه أقلُّ الناسِ حياءً وأشدُّهم وقاحةً.
وَبَيَّنَّا أن (١) مادةَ (شكر) في لغةِ العربِ أنها تتعدى إلى النعمةِ بنفسِها بدونِ حرفِ الجرِّ. تقولُ: شكرتُ نعمةَ اللهِ. وهذا أمرٌ لا خلافَ فيه. ومنه قولُه: ﴿أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ﴾ [النمل: آية ١٩] فإذا كان الشكرُ شكرَ نعمةٍ تَعَدَّى إليه الفعلُ بنفسِه بِلاَ خلافٍ. أما شكرُ المنعمِ فاللغةُ الفصحى التي نَزَلَ به القرآنُ أن يُعَدَّى الشكرُ إلى المنعمِ باللامِ فتقولُ: «شُكْرًا لك». وتقولُ: «أنا أشكرُ لَكَ» ولاَ تقول: «أنا أَشْكُرُكَ». وتقول: «نحمدُ اللهَ ونشكرُ له» ولا تقول: «ونشكره». وهذه هي اللغةُ الفصحى، تعديتُه باللامِ هي اللغةُ الفصحى التي لا شكَّ في أنها أفصحُ، وهي لغةُ القرآنِ؛ لأنه ما جاء في القرآنِ مُعَدًّى إلى المنعمِ إلا باللامِ، كقولِه: ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي﴾ [لقمان: آية ١٤] ﴿وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ﴾ [البقرة: آية ١٥٢] ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ﴾ [لقمان: آية ١٤] ولم يَقُلْ في آيةٍ واحدةٍ: اشكرني. بتعديةِ الفعلِ إلى المفعولِ دونَ اللامِ. ومن هنا شَذَّ قومٌ من علماءِ العربيةِ فقالوا: (أحمدُه وأشكرُه) لَحْنٌ، ولا يجوزُ (وأشكره) وإنما يجوزُ: (وأشكر له) ولكنهم غلطوا؛ لأن اللغةَ الفصحى هي (وأشكر له) ولكن (وأشكره) بتعديةِ الفعلِ إلى المنعمِ بلاَ واسطةِ حرفِ جرٍّ لغةٌ معروفةٌ مسموعةٌ في كلامِ العربِ، وقد بَيَّنَّا فيما مضى
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥٣) من سورة الأنعام.
وَلاَ ضِرَارَ» (١).
الثانية: (المشقة تجلب التيسير) هذه من قواعد الفقه الإسلامي التي أُسس عليها، ومن فروع هذه القاعدة: التسهيلات والرخص، كقصر المسافر للصلاة، وفطره في رمضان، وغير ذلك من الرخص والتسهيلات المنتشرة في الشرع.
الثالثة: (لا يرتفع يقين بشك) وهذه من أمثلتها: أن الذمة
_________
(١) روى هذا الحديث جماعة من الصحابة (رضي الله عنهم) منهم:
١ - أبو سعيد الخدري. عند الحاكم (٢/ ٥٧ - ٥٨)، وقال: «صحيح الإسناد على شرط مسلم ولم يخرجاه» اهـ. ووافقه الذهبي، ورواه الدارقطني (٣/ ٧٧)، (٤/ ٢٢٨)، والبيهقي (٦/ ٦٩).
٢ - عبادة بن الصامت. عند أحمد (٥/ ٣٢٦ - ٣٢٧)، وابن ماجه في الأحكام، باب مَنْ بَنَى في حَقِّه مَا يَضُرّ بجاره. حديث رقم (٢٣٤٠)، (٢/ ٧٨٤)، والبيهقي (٦/ ١٥٧)، (١٠/ ١٣٣).
٣ - ابن عباس. عند أحمد (١/ ٣١٣)، وابن ماجه في الأحكام، باب من بَنَى في حقه ما يضر بجاره. حديث رقم (٢٣٤١)، (٢/ ٧٨٤)، الدارقطني (٤/ ٢٢٨)، والطبراني في الكبير (١١/ ٣٠٢)، والأوسط (٤/ ١٢٥)، وعزاه في نصب الراية (٤/ ٣٨٤) لعبد الرزاق وابن أبي شيبة.
٤ - عائشة. عند الدارقطني (٤/ ٢٢٧)، والطبراني في الأوسط (١/ ٩٠).
٥ - أبو هريرة. عند الدارقطني (٤/ ٢٢٨).
٦ - عمرو بن يحيى المازني عن أبيه. عند مالك في الموطأ (مرسلاً)، كتاب الأقضية، باب القضاء في المرفق. حديث رقم (١٤٢٦)، ص ٥٢٩.
٧ - ثعلبة بن أبي مالك. عند الطبراني في الكبير (٢/ ٨٦).
٨ - جابر بن عبد الله. عند الطبراني في الأوسط (٥/ ٢٣٨).
وانظر: إرواء الغليل (٨٩٦)، السلسلة الصحيحة (٢٥٠)، صحيح الجامع (٧٥١٧).
اعْلَمُوا أيها الإخوانُ أن الإشراكَ بِاللَّهِ في حُكْمِهِ والإشراكَ به في عبادتِه كلاهما بمعنًى واحدٍ، لا فَرْقَ بينهما ألبتةَ، فالذي يَتْبَعُ نظامًا غيرَ نظامِ اللَّهِ، وتشريعًا غيرَ ما شَرَّعَهُ اللَّهُ، وقانونًا مُخَالِفًا لشرعِ اللَّهِ من وَضْعِ البشرِ، مُعْرِضًا عن نورِ السماءِ الذي أَنْزَلَهُ اللَّهُ على لسانِ رسولِه، مَنْ كان يفعلُ هذا هو وَمَنْ يعبدُ الصنمَ ويسجدُ للوثنِ لاَ فرقَ بينَهما ألبتةَ بوجهٍ من الوجوهِ، فَهُمَا واحدٌ، فَكِلاَهُمَا مشركٌ بِاللَّهِ، هذا أَشْرَكَ به في عبادتِه، وهذا أَشْرَكَ به في حُكْمِهِ، والإشراكُ به في عبادتِه، والإشراكُ به في حُكْمِهِ كِلاَهُمَا سواءٌ، وقد قال اللَّهُ (جلَّ وعلا) في الإشراكِ به في عبادتِه: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: آية ١١٠].
وقال في الإشراكِ به في حُكْمِهِ أيضًا: ﴿لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: آية ٢٦]. وَفِي قراءةِ ابنِ عامرٍ من السبعةِ: ﴿ولا تُشْرِكْ في حكمه أحدا﴾ (١) بصيغةِ النهي المطابقةِ لقولِه: ﴿وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: آية ١١٠] فَكِلاَهُمَا إشراكٌ بِاللَّهِ؛ وَلِذَا بَيَّنَ النبيُّ لعديِّ بنِ حاتمٍ أنهم لَمَّا اتبعوا نظامَهم في التحليلِ والتحريمِ وَشَرْعِهِمُ المخالفِ لشرعِ اللَّهِ كانوا عبدةً لهم، مُتَّخِذِيهِمْ أربابًا، والآياتُ القرآنيةُ في المصحفِ الكريمِ المُصَرِّحةُ بهذا المعنَى لا تكادُ تُحْصِيهَا، ومن أَصْرَحِهَا: الْمُنَاظَرَةُ التي أَشَرْنَا لها، وَوَعَدْنَا بإيضاحِ مَبْحَثِهَا هنا، وهي المناظرةُ التي وَقَعَتْ بَيْنَ حزبِ الرحمنِ وحزبِ الشيطانِ في حُكْمِ تحليلِ لحمِ الميتةِ وتحريمِه، فحزبُ الشيطانِ يقولونَ: إن الميتةَ حلالٌ، ويستدلونَ
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١٠٦) من سورة الأنعام.


الصفحة التالية
Icon